إذا كانت النتائج الأولية لسقوط النظام الديكتاتوري في العراق عام 2003، قد إنعكست في صورة تحولات ديمقراطية واعدة يمكن لها أن تؤسس لحياة سياسية جديدة وسليمة قوامها التعددية والتبادل السلمي للسلطة وإطلاق الحريات العامة، وتكتسب شرعيتها الحقيقية والمباشرة من الشعب باِعتباره مصدر السلطات، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الربيع الديمقراطي قد حل أخيرا على البلاد بمجرد الاِعتراف النظري بقيم العدالة والمساواة واِحترام حقوق الإنسان وما علينا سوى الإنتظار كي نتلمس النتائج العملية المثمرة على صعيد السياسة والدولة والمجتمع والتي ستأتي لوحدها وبدون أي مجهود.

ومع أن ظروف الإحتلال والإرهاب الوافد، قد وفرت ذرائع قوية ومقبولة للنخبة السياسية الحاكمة خلال السنوات الست الماضية، وتجلّت تلك الظروف في عرقلة التقدم النوعي بالعملية السياسية الجارية والشروع في إعادة البناء والإعمار وتصفية آثار الديكتاتورية وتحسين مستوى الخدمات العامة، ألا أن الواقع العراقي بالتوازي، قد تكشّف عن جملة من الأزمات العميقة التي كانت ومازالت تموج في داخل الإنسان/ المجتمع، وتعتمل في صدور النخبة/ السياسة، وتنخر في بنية المؤسسات/ الدولة.

وقد يكون مفهوما، أن العراق الجديد قد ورث تركة ثقيلة بكل معنى الكلمة، وعلى كافة الأصعدة والميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، غير أن ما يستعصي على الفهم هو إستمرار الآليات الموروثة في الفكر السياسي لدى غالبية الكتل السياسية ومنها ما كانت من الضحايا المباشرين لتلك العقليات والأساليب القديمة التي تتمثل في الانغلاق والجمود والكيدية والأنانية السياسية والروح الحزبية الضيقة على حساب الولاء للدولة والمواطن، وفي العداء والتعالي والهيمنة على كل مساحة مستقلة أو توحي بالاستقلال والمراقبة والمحاسبة والمسائلة [ مفوضية الإنتخابات وهيئة النزاهة ومجلس القضاء الأعلى وشبكات الإعلام والثقافة ومنظمات المجتمع المدني ] على سبيل المثال لا الحصر.

وكما لا يمكن قراءة الأوضاع السياسية عراقيا في غالب الأحيان، وإهمال دور التأثيرات الإقليمية والدولية التي تتعارض مصالحها الأساسية مع مبدأ صدور السلطة السياسية عن الإرادة الشعبية على مسار التوجهات الداخلية وتحديد المصير والمستقبل والوجهة الحقيقية التي تمضي قدما بالبلاد والعباد، فلا يمكن أيضا تفسير معظم ما يجري في البلاد من وجهة نظر سياسية معارضة أو مؤيدة، ولا يتّم من خلال ملاحقة تلك الأحداث اليومية وتفاصيلها المعقدة والشائكة والضياع في دوامتها لمجرد النكاية بالمتنافسين سياسيا وبالصورة التي تحجب وتتغاضى عن رؤية اللوحة السياسية في إطارها العام وبالتالي تحيل السياسة، باعتبارها ميدانا للتوافق والتفاهم والتسوية بين الرؤى والمصالح الاجتماعية المتباينة، إلى مناكفات دورية وسجالات عقيمة وتجارة رخيصة وتحول معها الدورات الانتخابية إلى ما يشبه المباريات الرياضية الهابطة.
فالأزمات المركّبة العميقة في العراق بتقديري، هي عامة وشاملة ومتعددة الوجوه والأبعاد، فمنها السياسي الذي يتمثل في صعوبة التوصل إلى الإجماع السياسي، ومنها المؤسساتي بمعنى ضعف وانعدام الثقافة المحلية والإقليمية لكيفية بناء الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والمواطنين الأحرار، ومنها أيضا، المجتمعي الذي ظل ولعقود طويلةquot; إن لم نقل لقرون عديدةquot;، في حالة عداء وتهميش بالغين، عن علاقته بالشأن العام وكان مستبعدا عن مركز القرار السياسي واهتمامه الأول، وهي ليست أزمة خاصة إلا بالمعنى النسبي، بهذا الحزب أو ذاك التكتل السياسي بغض النظر عن طبيعة الشعارات المعلنة والمختلفة والنوايا الصادقة أوالمزيفة هنا أو هناك.

إذ أن الأزمة السياسية كما تبدو للمراقبين والمحللين، تتعدى خصوصيتها حين تتمثل في العجز الجماعي عن توليد نخب سياسية ديمقراطية حقيقية قادرة على تأسيس أغلبية سياسية ثابتة تتجاوز مجرد الأغراض الانتخابية المؤقتة إلى إرساء الأسس والتقاليد السياسية الحديثة وانتشال البلاد من حالة الفوضى العارمة وإضفاء معنى معقول ومقبول للسياسة والارتفاع بها من حالتها المتدنية إلى مستوى المسؤولية الاجتماعية عن حياة ومصير المواطنين.

فالأساس في الفكرة الديمقراطية هو القبول بأن تصدر السياسة والسلطة عن الأغلبية الشعبية وحاجاتها الفعلية الآنية والبعيدة والمعبرة عنها من خلال الاقتراع العام، لا أن تكون ثمرة مشاورات وتسويات ضيقة تجري مابين النخب والقيادات التقليدية لإعادة توزيع المناصب والامتيازات ومن ثم تحييد الإرادة الشعبية وكسرها والالتفاف عليها.

فالهدف ليس التفوق والانتصار والحصول على حصة الأسد، وإنما تأكيد الحق في القيادة والتحكم بالسياسات الوطنية وصياغة البرامج والخطط التي يمكن البناء عليها وتحقيق التراكم الضروري ماديا ومعنويا، بغض النظر عن طبيعة السلطة والائتلاف والحزب الحاكم في هذه المرحلة أو تلك.

المهم في الأمر، ألاّ يكون الجمهور العام أداة بيد السلطة وخاضعا وتابعا ومستلبا لها، بل أن تكون السلطة هي التابعة والأداة وموضع المسائلة الشعبية الدائمة، فالديمقراطية لا تعني بالضرورة صناديق الاقتراع والتأييد الشعبي فحسب وإنما عمل ونضال يومي دؤوب في الوعي والواقع والضمير.


عبد الرحمن دارا سليمان
[email protected]