عندما تجد نفسك غارقا في تفاصيل السياسي، وتحركك دوافع ذات بعد الراهن فيه وبتفاصيله المؤلمة، له القول الفصل، وتترك استشراف المستقبل للمنظرين وللمثقفين صغارا كانوا أم كبارا، ويصيبنا نحن الغرقى، ضيق أفق كبير بحيث نصل إلى درجة لا نميز بين الآني والمستقبلي، بين الاستراتيجي والتكتيكي، بين الموقف السياسي والموقف النظري، سواء كان هذا الموقفquot; محصن معرفياquot; أوquot; مهلهل أيديولوجياquot; المعرفي عندنا هو الذي يدعي أنه يقيم مسافة بين العلم والأيديولوجيا بوصفهاquot; شبهة ومرذولة بالآن معاquot; على الرغم من أن الثقافة الغربية، لازالت بغالبية مثقفيها وعلماءها، تخاف من هذا الحكم المبرم، بل إنها منذ زمن لم تعد هذه الثقافة معنية بهذه الثنائيةquot; معرفة- أيديولوجياquot; وآخر المحاولات التي أرادت القطع مع هذا الأمر، هي الشبهة الأيديولوجية العميقة التي أضفاها ميشيل فوكو على الخطاب الطبي. من هنا نجد أن علمانيي اللحظةquot; يتصدرون واجهة العلم، لا واجهة العصرنة ورفع شأن الحرية، حيث سقطت هذه المفردة من قاموس مجاهدي العلمانية، كما سقطت عبارةquot; فساد نظم الحكمquot; لم نقل هنا أن ملفوظة الديمقراطية، قد تم تسفيلها لدرجة الهذيان العلمانوي، والإسلام السياسي يتقاسم المنطقة المشبوهة والتي يمكن لنا تكثيفها بالتاليquot; الحرية الفردية محتجزة باسم الدين هنا، والحرية العامة محتجزة باسم أولوية العلمانية هناكquot; ويخوض الطرفان معركة، والنظم الفاسدة القامعة، تتفرج وتارة تدعم هذا الطرف وتقدم له التسهيلات وتارة تدعم ذاك الطرف، واللعبة مستمرة، وقضية الحرية تتراجع عند النسق الثقافي العربي.


الم يكن تشاوشيسكو رمزا قويا للعلمانية، وقبله ستالين، وهتلر؟
تراجع قضية الحرية، لا تجده بقلة المنظرين والمثقفين العرب الكبار منهم والصغار، بقدر ما تجده في التفصيل السياسي، هنا تجد الحرج الأيديولوجي والقيمي والأخلاقي. تضرب رأسك في جدار، أيمكن لثقافة تريد العصرنة، أن تسقط من أقانيمهاquot; قضية الحرية؟
ممن نريد العلمنة؟ من مجتمع هو أصلا لم يرق بعد لهذه التسمية؟ أم من أنظمة بناها الفساد قبل أن تبنيه وتعيد إنتاجه.
الإسلاميون رفعوا شعار معاداة العلمانية، وبذلك خلقوا كوكبة من العلمانيين الجدد، والأنظمة تريد إزاحة قضية الحرية عن النقاش العام، وهل مسموح النقاش العام بقضية الحريات العامة والفردية في بلداننا؟


وأصبحت العلمانية مفردة متواجدة في الخطاب الإسلامي، كمفردة أولى مرذولة، وتتهم بها بعضا من أنظمة المنطقة، والتي تتحالف معها في إسقاط قضية الحرية، من الفضاء العام، وساعدها في ذلك شرطة العلمانية العربية. أبدا لم تكن العلمانية أو العصرنة في أي زمان ومكان، إلا ملحقة بقضية الحرية، وليس العكس، كما نشاهد اليوم، حيث أصبح الحديث عن الحرية بوصفها، حرية تفصيلية، تختص بهذه الجزئية أو تلك من حقل الحريات الفردية. نحن هنا أسقطنا مفردة الديمقراطية، لأن العلمانيين باتت تصيبهم حساسية خاصة من هذا المفهوم. وقضية الديمقراطية بوجهها الرئيسي quot;هي إدارة الحرية ليس إلا.
الحقل الدلالي السلطوي في المنطقة العربيةquot; يحتمل كل ما له علاقة بالمعركة القائمة زيفا بين العلمانيين والإسلاميين، لكنه أبدا لا يحتمل دخول الحرية كقضية قيمية قبل أن تكون سياسية، في حقل تداولها هذا.
الحرية في هذا الزمن العربي المتنازع على واجهته الآنquot; إسلاميي اللحظة ومرافقيهم من العلمانيينquot; يجب أن تتحول إلى قيمة مطلقة، رغم أن هذه الدعوة، فيها من الزيف الكثير ولكن، يجب جعل قضية الحرية هاجسا يوميا ولحظيا، بالتالي تصبح التفصيل السياسي الأكثر حضورا في الحقل العام.
هذه المعركة العلمانوية الإسلاموية، تخفي ثنائية عربية مزمنةquot; الحرية- السلطةquot; لاوجود لهذه الثنائية في القاموس المتدوال في هذه المعركة المزيفة.
الخصوصية الفرنسية، يجب ألا تكون مثالا لنا في جانب واحد منها، لأن الحرية كقضية أساس هي التي فصلت الدين عن الدولة، وليس العلمانية هي من أتت بالحرية، والدليل أن بلدان التنوير، تعلمنت في ظل الحرية أو بالتساوق معها، لأن الحرية كانت وحدها القيمة المطلقة في المعركة التنويرية، ولم تكن العلمانية. لم يبقى من تاريخ نضال الباريسيين إلا العلمانية! وهذا ما يريده الإسلاميون أيضا. على العلمانيين أن يعيدوا الاعتبار ومن أجل انتصار علمانيتهم لقضية الحرية كقيمة أولى.
بدون الحرية لا يوجد علمانية، ولكن يمكن للعلمانية أن توجد بغياب الحرية، وهذا أمر أخطر ما فيه أنه يعيد إنتاج ثنائية القمع والفساد في العالم العربي.
إن الشرط الجهادي للعلمانية يقتضي فصل الدين عن الدولة، ويرفض مأسسة الدين في أي دولة، ورفض المأسسة هذا نابع من شرط سلطوي عميق، لأن المأسسة تفصل بينquot; القائد وبين دار الفتوىquot; وهذا أمر غير مسموح به في العالم العربي، والسبب أنه يرفض أصلا مأسسة الدولة، وهذا الرفض للمأسسة هو رفضا للحرية، وما تقتضيه من مشاركة وجودية وتاريخية للكائن الفرد في مصيره.


إن معركة العلمانية في مجتمعاتنا هي فضاء انبثق بعد انهيار السوفييت، لكي يطوي قضية الحرية، ويضعها في جيب داخلي لثنائية القمع والفساد.
ولنلاحظ أن ثلاثة الآن يتقاسمون العداء للحريةquot; سلطات وإسلامويين وعلمانويين.
وأخذوا الآن بندا كان التيار القومي قد أفلس في الحديث عنه، وهو الخصوصية القومية والثقافية، وهذه نقطة تقاطع أخرى بين السلطة والإسلاميين، ولكن العلمانيين لا يرون أن لمجتمعاتنا هذه الخصوصية، ولكن فقط في قضية تشددهم العلماني، وليس في قضية الديمقراطية.
بل هنالك منهم من يرى أن هذه المجتمعات لا تصلح للديمقراطية حتى تتعلمن، بقرار سلطوي عربي.
لهذا سقطت قضية الحرية الآن.


مشكلتنا مع النظم والإسلاميين ليست العلمانية بل هي الحرية، لأن العصرنة أو العلمنة هي طية ظاهرة في الحقل الدلالي لقضية الحرية.
لو نظرنا إلى البلدان الإسلامية غير العربية، لوجدنا أن الديمقراطية تتقدم ومشكلة العلمانية هي جزء أصيل من قضية الحرية والديمقراطية، التي تتقدم في هذه البلدان، ولا تتقدم عندنا وإن تقدمت فهي تتقدم ببطء شديد، ونسخ لا تجذب كثيرا.


الحرية ما بعد السلطة القائمة، التي تحتجزها، وليس بمرافقتها علمانيا....
وإذا كان خوف مشايخ العلمنية العربية محدثة النعمة، من أن تأتي الديمقراطية بالإسلاميين، فهذه من مصلحتهم، عندها يكون لنضالهم العلماني معنى، وكما قال عادل إمام في فيلمه طيور الظلام مخاطبا صديقه الإسلامويquot; أنتم موجودون بالفسادquot; في حديثه عن ثنائية الفساد السياسي والإرهاب السياسي. ونحن نقول العلمانيون موجودون بالإسلامويين، والسلطة العربية طية محمية من الإشارات بمعناها الفلسفي العميق.