برحيل الشيخ آية الله العظمى حسين علي منتظري التي حدثت قبل أيام قليلة ، يغيب عن ساحة العمل السياسي و الميداني في إيران واحدا من أبرز الوجوه الثورية التي كان لها حضورها التاريخي الفاعل في صياغة التاريخ الإيراني خلال العقود الأربع الأخيرة من الزمن.

و التي كانت مرحلة هامة و حرجة و حساسة في التشكيل العام للمجتمع و الدولة في إيران، الشيخ المنتظري لم يكن من طراز رجال الدين التقليديين من أهل المرجعية الدينية ، ولم تكن أهميته تنبع من المجالات الفقهية و الدينية فقط ، بل أنه واحدا من أهم الذين تركوا بصماتهم الواضحة في التاريخ الإيراني المعاصر بدءا منذ إرهاصات ما قبل الثورة الإسلامية وحيث كان رمزا حركيا مهما من رموز الحركة الدينية و الشعبية ، مرورا بمشاركته الفاعلة و القيادية في الثورة الشعبية عام 1979 و إستمرارا مع تبوءه المباشر لمنصب الرجل الثاني في القيادة الثورية العليا و النائب و الخليفة الأوحد للراحل الخميني قبل أن تهب رياح الخلافات الفكرية و السياسية و تنشط أحابيل الدس للتفرقة بين أبناء و قادة الثورة الأوائل ، وهي الثورة التي أكلت أبنائها بقلة وفاء و غدر واضحين لم تكن بغريبة أبدا عن أحداث مريعة مشابهة حدثت في تاريخ الثورات الشعبية في العالم.

و إذا كانت مقولة ( الثورة تأكل أبنائها ) الشهيرة و المعروفة تنطبق على جهة أو شيء ما فإنها تنطبق أشد الإنطباق على الحالة التي عاشها الراحل المنتظري منذ أن أعلن عن معارضته العلنية و الصريحة و الشجاعة للعديد من ملفات السياسة الإيرانية وحيث أطلقها دعوة علنية و صريحة و تحذيرية من مغبة الإنحراف و مخاطر بناء الدكتاتورية و مصادرة السلطة لكل المبادرات الثورية الهادفة لتغيير المجتمع بنوايا و أهداف إنسانية لاعلاقة لها ببناء دولة الظلم و التعسف، فالكفر يدوم و لكن الظلم لا يدوم ؟ تلك المواقف الجريئة و الصريحة كلفت الشيخ المنتظري غاليا ودفعت مراكز القوى السياسية و الدكتاتورية في إيران لإبعاده عن خلافة الخميني في مارس 1989 أي قبل أسابيع قليلة من رحيل الأخير في أوائل شهر حزيران / يونيو من نفس العام.

فتحول فجأة و على حين غرة الرجل الذي كانت صورته العامة ملتصقة بصورة قائد الثورة بصفته الخليفة ( الأمين ) و الشرعي إلى عدو مبين و شرس و خطير في وجه النظام الذي كان هو لا غيره واحدا من بناته وواضعي لبناته الدستورية ألأولى و أحد أبرز الوجوه التي تصدرت واجهة الأحداث الإيرانية طيلة العقد الأول من عمر الثورة التي شهدت أقسى تحدياتها و أوراقها الصعبة ممثلة في الحرب العراقية /الإيرانية الماراثونية الطويلة الشرسة و الملمفة و التي سعت أطراف مؤثرة في النظام الإيراني لإطالتها أكثر مما ينبغي بهدف تحقيق مصالح معينة قبل أن يجبروا فيما بعد على تجرع كأس السم و إيقاف تلك الحرب في نهاية صيف 1988 و الذي بدأت معه ملامح المتغيرات الداخلية التي هبت على إيران وفرضت تأكيد الدكتاتورية المقدسة وفرض مبدأ ولاية الفقيه و مصادرة مؤسسة الحرس الثوري الإرهابية للثورة و مبادئها و أخلاقياتها التي تدنت للأسف اليوم بشكل مفجع من خلال التعامل الرسمي الإيراني حتى مع حدث موت الخليفة الذي كان و حيث تعمد الإعلام الرسمي التقليل من أهمية الرجل و بإهانة واضحة مبعثها الحط من قدره و مكانته من خلال عدم الإشارة لمنزلته الفقهية و الدينية ، أو لإعتبار ( الخرف ) كأحد أسباب الوفاة!!

وهي إهانة خبيثة لا تصدر إلا عن نفوس خبيثة لم يهذبها الإسلام و لم تتشرب بمبادئه الإنسانية و الأخلاقية العليا ، فالإسلام في عرف النظام الكهنوتي الإيراني مجرد شعار و طلاء خارجي لتغطية مثالب و عورات نظام قومي عنصري قمعي إقصائي تعامل مع رجل بحجم المنتظري بصفاقة و دناءة قل نظيرها إفتقرت حتى لأبسط أساليب التكتيك السياسي التي برع فيها الإيرانيون و تميزوا.

فليس سرا إن السياسي الإيراني وهو يصافح الغريم و يبثه لواعج الشوق و النفاق يحمل في ظهره خنجرا مسموما ينتظر الفرصة للطعن!! وقد فعلوها علنا مع الراحل المنتظري الذي تحول لرمز من رموز حركة التغيير و الإصلاح في إيران بصراحته و مبدأيته و تضحياته و لرنين إسمه المعروف و الذي يرتبط به أيضا ذكرى ولده الشيخ الراحل محمد منتظري الذي قضى في إنفجار الحزب الجمهوري الإسلامي عام 1981 وكان واحدا من أبرز وجوه الثورة الإيرانية الشابة وقتذاك، برحيل ( المنتظري ) تتكرس حقائق الصراع في إيران و تفضح الصورة الدكتاتورية و الإقصائية للتيار الكارثي المتطرف الذي يقود إيران اليوم بإمتياز نحو الجحيم؟

ثم أن التاريخ بأحكامه العادلة و الخالية من النفاق سيظل يضحك طويلا على صفاقة و سماجة و دناءة نظام يحاول التزوير في كل شيء ، حتى الذاكرة التاريخية ، فهذا النظام المبني على الدجل و التخريف و الهلوسة و الخرافة أرعبته جثة الشيخ الراحل التي ستظل تحكي للأجيال حكاية الثورة التي أكلها أبنائها ، فيما تكفل المتطرفون منهم بإهالة التراب و محاولة تدنيس و تشويه سمعة واحد من أبرز رموزها..

لقد كان المنتظري آخر الرجال المحترمين فيمسيرة طويلة من الآلام و التضحيات خاضها الشعب الإيراني الذي يصارع البلوى كل يوم من أجل التغيير نحو الأفضل و إحقاق الحق، و إنقاذ ما يمكن إنقاذه من السفينة الإيرانية المتجهة بعمق نحو أعماق سحيقة.. فرحم الله المنتظري الذي كان رجلا مبدأيا أصيلا لم تبهره أضواء الشهرة و العظمة الفارغة ، كان بإمكانه أن ينافق ليستمر في السلطة ، ولكنه تأسى بطريق الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه و سلك طريق الحق رغم قلة سالكيه و أعلنها مدوية بأنه لا حياة مع الظلم و الظالمين.. وهيهات منا الذلة.. ورحم الله كل الأحرار.. و العار للمنافقين و الأفاقين و الدجالين.. إنه التاريخ الذي لا يرحم و لا يجامل أو ينافق..؟


[email protected]