أثار النجاح الكبير، الذى فاق كل التصورات، لفيلم quot;المليونير كلب العشوائياتquot; القضية الأخلاقية لموضوع سياحة العشوائيات، وانقسمت الآراء ما بين مشجع ورافض للفكرة.
ورغم أن اهتمام الكثير من السياح الغربيين بزيارة المناطق الفقيرة، ظاهرة قديمة ومعروفة؛ فإن فكرة تنظيم هذه الزيارات فى صورة رحلات جماعية، لم تتبلور إلا فى السنوات الأخيرة، خاصة فى الهند وأمريكا الجنوبية.
والمعارضون للفكرة يستندون إلى أسباب مختلفة، من ضمنها أنها توفر التسلية للزوار، والربح للشركات المنظمة، على حساب تعاسة الفقراء وكرامتهم. أو أنها تعطى صورة سلبية (وإن كانت حقيقية) للعالم الخارجى عن هذا البلد، وبصورة غير مباشرةrsquo;تحمل المسئولين عنه اللوم على تردى أحوال المواطنين. و الذين يحتجون بهذه الحجة، يطبقون هنا مبدأ: quot;إذا بليتم فاستترواquot;، ويمانعون فى نشرquot; الغسيل المتسخquot; أمام الأجانب.
أما المؤيدون، فيحتجون بأن هذا النوع بالذات من الرحلات السياحية، يلتزم بتخصيص النسبة الأكبر من أرباحها لصالح المشاريع التنموية فى الأحياء المزارة؛ وبذا يسهم فى خدمة سكانها. ومن ناحية أخرى فهى تفتح أعين الأغنياء والمستريحين ماديا، على جانب شديد القساوة ( غالبا لم يكونوا يتصورون وجوده )، من حياة بشر يشاركونهم الحياة على هذا الكوكب؛ مما يدفعهم أفرادا وجماعات إلى عمل شىء بأنفسهم، أوعن طريق الضغط على حكوماتهم للإسهام فى توفير ولو الحد الأدنى من المستوى الإنسانى لحياة الملايين من البؤساء.
ولا أحد ينسى الدور الذى لعبته شخصيات سامية فى لفت نظر العالم إلى احتياج أكثر الفئات فقرا وتعاسة للرعاية والخدمة. فالقديسة الأم تيريزا عاشت خادمة للمخلوقات البائسة التى لاتجد يدا تمتد إليها وهى فى أشد أحوال الألم والمعاناة. كانت تجوب هى ومعاونيها من الراهبات، أزقة وحوارى كلكتا فى الهند، يلتقطن الفقير الملقى ليحتضر وحيدا، والمريض بالبرص المنبوذ حتى من أقرب الناس إليه، يحنون عليه، ويضمدن جراحه. والأم إيمانويل؛ أمضت شطرا كبيرا من حياتها وسط جامعى القمامة فى حى الزبالين بمصر، وتفانت فى مساعدتهم على تحسين ظروف حياتهم، وأسهمت مساهمة رائعة فى حشد الجهود لتقديم الرعاية الطبية والتعليمية والاجتماعية لهؤلاء.
والغريب أن الكثير من الزائرين لمصر حاليا، يحرصون على أن يتضمن برنامجهم السياحى زيارة حى الزبالين. والجميل أن زيارتهم له تأتى من منطلق ( بالإضافة طبعا لمشاهدة الكنائس البديعة الرابضة فى باطن الصخور) أنه يمثل نموذجا إيجابيا لنجاح المنظمات الغير حكومية والمؤسسات الخيرية فى تغيير وجه الحياة فى العشوائيات. فمن وسط المخلفات والقاذورات، انبثقت المشاريع الصغيرة، وخاصة المتعلقة بتدوير القمامة، والمدارس وفصول محو الأمية، إلى جانب المستشفيات ودور الحضانة، وحتى المسارح وساحات الرياضة.
وتؤكد التقارير أن سياحة العشوائيات قد ازدهرت فى الهند بدرجة كبيرة بعد عرض ذلك الفيلم. وتسابق الغربيون ليروا عن قرب أحياء مومباى الفقيرة القذرة التى جرت فيها أحداثه، وساكنيها الذين صورهم .
ومدينة مومباى ( بومباى ) هى من أوضح أمثلة المدن التى يتجاور فيها الأضداد: الغنى الفاحش والفقر المدقع. هى مركز صناعة السينما والتلفزيون، وتلقب بهليوود الهند ( بوليوود على غرار هوليوود). توجد بها أحياء تعادل بيفرلى هيلز، ومناطق يعيش فيها البشر إلى جانب الحيوانات وسط أكوام القمامة. ترى فيها أفخم الفنادق، مثل فندق تاج محل ( الذى كان مسرحا للمجزرة الإرهابية الحديثة)، إلى جانب عشش من الصاج والصفيح. هى المركز التجارى والمالى؛ يعيش فيها أغنى الأغنياء، وبجانبهم ألوف من الفقراء يقتاتون على الفتات الذى ينبشونه فى قمامة الأسياد.
عالمان مختلفان يتجاوران، ولكن لا يمتزجان. ينظر سكان كل عالم إلى سكان العالم الآخر باندهاش وكأنهم مخلوقات من كوكب غريب. يتعاملون معهم بشك وريبة، إن لم يكن بعداء وكراهية.
وربما كان الفضول هو أحد العوامل التى تدفع الكثير من سياح العالم المتقدم إلى الرغبة فى إزاحة القشرة اللامعة البراقة للبلاد المزارة، والغوص فى قاع مدنها، لاكتشاف العوالم الغامضة المسحورة القابعة فيها. وهذا بالضبط ما قدمه لهم هذا الفيلم؛ فقد كشف بصدق، وبدون تجمل؛ ولكن بحساسية فنية، وإخراج رائع، عن واقع الحياة والأحياء فى عشوائيات مومباى.
أما بالنسبة لأمثالنا من أبناء العالم الثالث؛ فإننا يمكن أن نتماهى مع هذا الفيلم، حيث أننا نرى فيه نسخة، تكاد تكون طبق الأصل، مما يجرى فى الأحياء المشابهة فى بلادنا. ولكنه كان رحيما بنا؛ فقدم الواقع المرير ممتزجا ببسمة وتشويق وإبهار، خففوا من وقعه القاسى.
ولعل كل هذه الأسباب مجتمعة هى التى جعلت فيلما rsquo;ينتج بميزانية متواضعة، ولا تتضمن قائمة ممثليه أى نجوم شباك، ومعظم أبطاله أسماء غير معروفة فى عالم الفن، يحصد العديد من الجوائز فى كل المسابقات التمهيدية للحدث الأكبر وهو الأوسكار، الذى بات حصوله على عدد محترم من جوائزه فى حكم المؤكد.
يكشف الفيلم عن الكثير مما يجرى، ليس فقط فى ممباى الهند، بل فى أى مكان مشابه فى مختلف بقاع الأرض:
أناس يعيشون فى ظروف أبعد ما تكون عن الآدمية، ومع ذلك نجدهم يتحركون ويتبادلون أطراف الحديث، يقعون ثم ينهضون، يمرضون ولكن يتعافون، يحبون ويتناسلون، بل أحيانا يمزحون ويضحكون، يلهو أطفالهم ويلعبون كباقى الأطفال، وقليلا ما ينجحون فى الخروج سالمين من هذه البؤر، ليصيبوا قدرا من التعليم والنجاح، ونادرا ما يصير منهم النابغة أو المليونير( كما حدث فى هذا الفيلم ).
جحافل من الأطفال المشردين، قد لاتنجح الأسمال التى تكسوا أجسامهم الهزيلة، ولا أكوام القاذورات التى تلطخهم، فى أن تخفى تماما ملاحة وجوههم السمراء، ولا ومضة الشقاوة وquot;الفهلوةquot; التى تلمع أحيانا فى العيون السوداء الواسعة، التى يغلف نظراتها أحزان القهر والحرمان.
العصابات التى تجد فى أطفال الشوارع كنزا هائلا للعمالة الرخيصة التى تقترب من العبودية، وللاستغلال فى تجارة الجنس والمخدرات، وفى النشل والجريمة، ولا تتورع عن إحداث العاهات البشعة فى أجسادهم الصغيرة، بغرض استجداء العطف، عندما يطلقونهم فى الشوارع للشحاذة لصالح المعلم الكبير. صور مؤلمة تستدعى إلى الذاكرة الشخصية التى لاrsquo;تنسى: quot;زيطة صانع العاهاتquot;، فى رائعة نجيب محفوظ:quot; زقاق المدقquot;.
ما يجرى فى أقسام البوليس من تعذيب وانتهاك لآدمية المقبوض عليهم، بغرض انتزاع اعترافات عن جرائم لم يرتكبوها.
الفساد والغش الذى يتمدد كالأخطبوط فى كل الأصعدة، والعلاقات المشبوهة التى تختفى وراء المظهر البراق لنجوم المجتمع.
موجات العنف والكراهية التى تدفع بحشود الغوغاء والرعاع للانتقام ممن يخالفهم فى المعتقدات، وتدمير مأواهم وكل ما يمتلكون من حطام الدنيا؛ بل وقتلهم بلا رحمة، وحرقهم وهم أحياء.
النموذج الشائع للشخص الذى يرتكب كافة الموبقات، ومع ذلك يمارس طقوس العبادة، ويردد العبارات الدينية، دون أن تهتز له شعرة.
ورغم أن أحداث الفيلم تدور حول الفقر والتعاسة، فإنه لم يخلو من إشارة أمل، وومضة نور، ولمحة بهجة:
جمال وسليم شقيقان، ولدا وكبرا فى نفس ظروف الفقر واليتم والتشرد. وبينما انجرف سليم - كما هو متوقع- فى عالم الفساد والجريمة، استطاع جمال أن يحتفظ بنقاء روحه، رغم العفونة المحيطه به من كل جانب. وحتى سليم الشرير لم يخلو من جانب طيب، تبدى فى تحمله للمخاطر فى سبيل حماية أخيه الأصغر.
جمال، الشاب الذى فاز بعشرين مليون روبية، فى النسخة الهندية من البرنامج التلفزيونى: quot; من سيربح المليون؟quot; ( رغم أن مقدم البرنامج المتأنق quot;المرسومquot;، قد حاول أن يخدعه و يقوده إلى الإجابة الخاطئة على السؤال النهائى الحاسم )، rsquo;يقبض عليه وrsquo;يحقق معه بتهمة الغش؛ لأنه كان من الصعب تصديق أن ابن حوارى مومباى، الذى لم يحظ بأى قدر يذكر من التعليم، يمكنه الإجابة على أسئلة المسابقة. ولكن الفيلم يرينا بحرفية عالية كيف أن ذكائه الفطرى، وملاحظته الدقيقة، قد مكناه من اكتساب معلومات ومعارف متنوعة، وقدرة على فهم طبيعة البشر، واكتشاف خداعهم، من خلال التجارب والمواقف الغيرعادية التى مر بها خلال طفولته وصباه، فى صراعه المستميت من أجل البقاء وسط أصعب وأقسى الظروف.
وطبعا كان لابد أن لا يخلو الفيلم من حكاية رومانسية؛ فنجد قصة حب الطفولة البرىء، الذى عاش واستمر رغم الأهوال التى مر بها الحبيبان، ليلتقيا فى النهاية، وفى جيوبهما 20 مليون روبية، كفيلة بأن توفر لهما سنوات طويلة من العسل.
وطبيعى أيضا أن يظهر نجم محبوب كأميتاب باتشان فى لقطة قصيرة كضيف شرف، وأن لا ينتهى الفيلم بدون الرقصة والغنوة، المصحوبة بالموسيقى المرحة والألوان المبهرة، التى اعتدناها فى الأفلام الهندية من أيام quot;سانجامquot; وquot;سوراجquot; وغيرهما من الأعمال الشهيرة.
وفى النهاية، فإن هذا الفيلم قد قوبل بموجة من الاحتجاج من قبل سكان عشوائيات مومباى، اعتراضا على عنوانه الذى شبههم بالكلاب. وأيضا اتهم منتجوه بأنهم دفعوا لأطفال الشوارع (وهم فى الواقع الأبطال الحقيقيون للفيلم ) أبخس الأجور.
وكرد على هذه الانتقادات، أوضح المسئولون عن الفيلم أن التسمية تمت بحسن نية، ولم يكن مقصود بها أى نوع من الإهانة؛ فهى لم تخرج عن الوصف المتداول لحياة أى شخص يعانى من الفاقة بأنه quot;يعيش عيشة الكلابquot;. ودافعوا عن التقتير فى أجور أطفال الشوارع، بأن إغراق أطفال صغار بلا ولى أمر، بأموال طائلة، سيربك حياتهم أكثر، ويعرضهم للأخطار والاستغلال. وكنوع من التعويض، ولتحسين صورة الفيلم، أعلنوا أن قسما من أرباحه الهائلة، سيخصص للمشاريع النافعة فى مناطق مومباى المهمشة.
ولن يكون من المستغرب أن تظهر نسخة مصرية منقولة نقلا حرفيا عن هذا الفيلم ( كما حدث مع الكثير من الأفلام الأجنبية الشهيرة، دون أن يكلف أحد خاطره مجرد الإشارة إلى الأصل )؛ ولكن لا بأس، لو كانت الطبعة المحلية ستسهم، ولو بالقليل، فى تحسين نوعية الحياة فى عشوائيات مصر.