أصبحت مدينة لاهاي الهولندية عاصمة العدالة الدولية بلا منازع. ففي هذه المدينة يتم حسم النزاعات بين الدول كما يجري محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية من خلال المحاكم الدولية العديدة التي اتخذت من هذه المدينة مقراً لها. و يذكر بان محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، وريثة المحكمة الدائمة للعدل الدولي التي تم تأسيسها عام 1922، هي من أقدم المحاكم القضائية الموجودة في لاهاي و المختصة بحل النزاعات بين الدول حول مسائل كتحديد الحدود، خرق المعاهدات، خرق السلام الخ...كما يوجد فيها محكمة التحكيم الدائمة والتي أنشئت بموجب الاتفاقية لتسوية المنازعات الدولية بطرق سلمية المبرمة خلال مؤتمر لاهاي للسلام عام 1899 . اليوم إلى جانب تلك المحاكم القضائية و التحكيمية أصبحت هناك نوع جديد من المحاكم الدولية مختصة بمحاكمة الأشخاص بذاتهم و ليس حكوماتهم عن جرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية، كالمحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة و المحكمة الجنائية الدولية.
يعتبر فكرة العدالة الجنائية الدولية قفزة نوعية و تطور مهم في مجال القانون الدولي، فمع الاعتراف بالمسئولية الجنائية الشخصية في القانون الدولي لا يمكن لأية شخص مهما بلغت مكانته تبرير ارتكابه لجرائم خطيرة بسبب وظيفته العامة آو التخفي وراء صفته الرسمية. هناك اليوم العشرات من المتهمين بارتكاب جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية ينتظرون محاكماتهم أمام القضاء الدولي بصفتهم الشخصية دون أن تستطيع دولهم التدخل لحمايتهم و التذرع بفكرة السيادة . بعض ممن قدموا للمحاكمة في السابق كانوا سياسيين كبار في دولهم مثل سلوبودان ميلوسيفيج، الرئيس الصربي السابق، المتهم بتنظيم و تسهيل قتل مئات الألوف من الأشخاص، آو شارل تايلور الرئيس الليبيري السابق، المتهم بمسؤوليته في اندلاع حرب أهلية في بلد مجاور هو سيراليون، و لكن هناك أيضا كثيرون من المتهمين غير معروفين من الجمهور و أن كانوا أيضا متهمين بارتكاب نفس الجرائم الخطيرة و التي يقسمها القانون الدولي إلى ثلاثة أنواع هي جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية و جرائم الإبادة البشرية. و التمييز بين أنواع الجرائم هذه ليس دوما بالأمر الهين. فجرائم الحرب هي جرائم تحدث نتيجة خرق القواعد القانونية الملزمة إثناء القتال من قبل المتحاربين. فسلوك المحاربين إثناء القتال و مهما بلغت درجة العنف فيه يخضع لضوابط و قواعد قانونية ملزمة حسب الاتفاقيات الدولية كاتفاقية جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها و التي بموجبها يمنع مثلا الإساءة إلى المدنين أو الجرحى أو استخدام الأطفال من دون الثامنة عشرة كجنود أو معاملة المناطق المدنية كأهداف عسكرية أو اخذ المدنين كرهائن. بينما يقصد بالإبادة البشرية الجرائم التي تهدف إلى إبادة مجموعة بشرية بسبب اللون أو الدين أو الأصل؛ و الجرائم ضد الإنسانية هي جرائم الفصل العنصري، التعذيب، الإخفاء ألقسري للمعارضين السياسيين، إجلاء و نقل المدنيين بالقوة و استخدام البشر كعبيد أو ممارسة الاغتصاب الجنسي بشكل منهجي. و لقيام المسؤولية الجنائية لا يشترط أن يقوم الشخص بارتكاب الجرائم هذه بنفسه، فمجرد القيام بتنظيم أو بتشجيع أو عدم التدخل لوقف وقوع هذه الأفعال مع القدرة عليه آو التوقيع على الأوامر يكفي للوقوع تحت طائلة المسائلة القانونية الدولية. كما لا يستطيع الشخص التهرب من المسؤولية بالادعاء بأنه كان ينفذ أوامر رسمية من سلطة أعلى. وهذا النوع من الجرائم لا تسقط بمرور الزمان، فمهما طالت الوقت تبقى المسؤولية قائمة بحيث يمكن مسائلة الشخص حتى بعد مرور عشرات السنين من وقوع الفعل.
جرت في السابق محاولات عديدة لإنشاء محكمة جنائية دولية و لكن الظرف الدولي لم يكن عاملا مساعدا للمضي بهذه الأفكار. فقد دعي جوستاف مونيه و هو مفوض دولي للصليب الأحمر بعد الحرب الفرنسية البروسية عام 1870الى إنشاء محكمة من هذا النوع تبحث في الانتهاكات المرتكبة للقانون الدولي الإنساني و لكن دون نتيجة. و بعد الحرب العالمية الأولى طرحت مسالة إنشاء محكمة دولية للنقاش من جديد بل و نصت اتفاقية فرساي في مادتها 277 على ضرورة إنشاء محكمة تبحث في مسئولية الإمبراطور الألماني ويليام عن (الانتهاك الصارخ للقيم الدولية وقدسية الاتفاقيات) و لكن لجوء الإمبراطور إلى هولندا و إصرار هذه الدولة فيما بعد على حمايته وضع نهاية لفكرة إنشاء محكمة كهذه.
دخلت فكرة العدالة الدولية الجنائية للتطبيق العملي لأول مرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية و ظهور اتجاه لمحاكمة الجرائم الجماعية المرتكبة أثناء الحرب كإبادة اليهود في معسكرات النازية أو إبادة الصينيين على أيدي المحتلين اليابانيين من الجيش الإمبراطوري. فأنشئت محكمتين خاصتين، واحدة منهما في نورمبرغ عام 1945 والأخرى في طوكيو عام 1946لمحاكمة القادة الألمان و اليابانيين المتهمين بارتكاب ما سمي آنذاك بجرائم ضد السلم وجرائم حرب و جرائم ضد البشرية. و هاتين المحكمتين وان كانتا مؤقتين، إذ اقتصرت مهمتهما فقط على محاكمة الجرائم التي وقعت خلال فترة الحرب، ولكن بفضلهما أصبحت فكرة العدالة الدولية الجنائية حقيقة واقعة لأول مرة. بعد سنوات قليلة من ذلك وقعت دول عديدة في باريس عام 1948 على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و كان من المؤمل أن تستطيع اللائحة هذه حماية الإنسان من البربرية و وضع حد للممارسات الوحشية و لكن بدء الحرب الباردة وضعت نهاية للتفاؤل هذه و تم تقسيم العالم إلى معسكرين متضادين و استمرت كل معسكر بارتكاب خروقات لحقوق الإنسان. كان يجب الانتظار حتى انتهاء الحرب الباردة لتتمكن فكرة العدالة الدولية الجنائية طرح نفسها بالقوة من جديد وكان ذلك على مرحلتين، ففي المرحلة الأولى تم تشكيل محاكم دولية مؤقتة خاصة ببعض الدول من قبل الأمم المتحدة و ذلك نتيجة وقوع نزاعات أهلية عنيفة حدثت فيها، قبل أن يتم فيما بعد تشكيل المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في المرحلة الثانية خارج منظومة الأمم المتحدة.
المحاكم الجنائية الدولية الخاصة المؤقتة
في بداية التسعينيات من القرن الماضي أصبحت أراض يوغوسلافيا السابقة و كما هو معلوم، مسرحاً لحرب أهلية بين إطراف متنازعة من القوميات و الديانات المتعددة و تعرض جزء كبير من سكان تلك الدولة إلى حملات تصفية متبادلة و تم ترحيل كثير من المواطنين بالقوة من آماكن سكناهم إلى مناطق أخرى و كل ذلك تحت أنظار المجتمع الدولي. أجبرت قساوة الأحداث في يوغوسلافيا الأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن و تحت الضغط الرأي العام العالمي بتشكيل محكمة دولية عام 1993 لملاحقة و محاكمة مجرمي تلك الحرب. و بين كل المآسي أحدثت جريمة سربرينيكا عام 1995 و التي وصفت في وقتها بأبشع جريمة تحصل في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، هزة قوية في ضمير الرأي العام العالمي حين فتك المليشيات الصربية بحوالي ثمانية آلاف من مسلمي البوسنة من المدنيين بينما كان حوالي أربعمائة من قبعات الزرق الهولنديين المنتدبين من قبل الأمم المتحدة موجودين في تلك المنطقة بالذات لحمايتهم مما عزز إرادة المجتمع الدولي في معاقبة هذه الأنواع من الجرائم و المضي بفكرة محاكمة هذه الجرائم . و قد وصفت المحكمة فيما بعد في قضية الجنرال راديسلاف كريستج عام 2001 بان تلك الجريمة يطبق عليها تماما وصف الإبادة البشرية. رغم هذا، فالمحكمة التي أنشئت آنذاك كانت محكمة استثنائية خاصة بجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة و التي حدثت بالتحديد في فترة بين عام 1991 إلى 2000 و قد تم للان توجيه التهم لنحو 161 شخص و تم محاكمة أكثر من مئة شخص منهم و لازال هناك عشرات من القضايا معلقة أمام المحكمة. و في حين أعطت قرار مجلس الآمن الفرصة للمحكمة للانتهاء من إعمالها بما فيها قضايا الاستئناف حتى عام 2010 لا يزال هناك حوالي 30 من الأشخاص مطلوبين للمثول أمام المحكمة من بينهم ثلاثة متهمين رئيسيين لم يقبض عليهم بعد. و بعد سنوات من الاختفاء، فقد تم أخيرا القبض على رادوفان كاراديتج، الرئيس الفعلي لصرب بوسنة إثناء الحرب، لإجراء محاكمته و هو معرض للحكم بأقصى عقوبة و هي الحكم بالسجن مدى الحياة، فالمحاكم الدولية عموما لا تعمل بعقوبة الإعدام بل تعتبرها إخلالا خطيرا بحقوق الإنسان. و هناك أكثر من خمسون شخصا لا يزالون يقضون حاليا مدة محكومتيهم في سجون دول الوحدة الأوروبية العديدة . و يلاحظ بان هذه المحكمة لا تحتكر حق محاكمة المتهمين في تلك الحرب لوحدها بل تستطيع محاكم وطنية أخرى القيام بذلك و لكن لهذه المحكمة سلطة قضائية عليا بحيث تستطيع الطلب من آية محكمة أخرى أن تحيل إليها أي متهم لتقوم هي بنفسها بمحاكمتهم.

و بجانب المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا في لاهاي هناك محاكم دولية أخرى خاصة مؤقتة تدخل أيضا ضمن منظومة الأمم المتحدة. فهناك محكمة دولية أخرى في عروشا في تنزانيا شكلت عام 1994و هي خاصة بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في رواندا خلال الحرب الأهلية و التي اندلعت بين القبيلتين التوتسي و الهوتو و تنظر في الجرائم المرتكبة إثناء الفترة الواقعة بين الشهر الأول و الشهر الثاني عشر من سنة 1994 في رواندا و كذلك الجرائم المرتكبة على أراض الدول المجاورة و لكن من قبل مواطنين روانديين في نفس الفترة. و على غرار المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا لا تحتكر هذه المحكمة حق محاكمة المتهمين بل تستطيع محاكم وطنية أخرى القيام بذلك و لكنها تستطيع الطلب من آية محكمة وطنية أخرى أن تحيل إليها المتهم لتقوم هي بنفسها بالمحاكمة.
يذكر إن كلا المحكمتين قد تم تشكيلهما بموجب قرارات خاصة من مجلس الأمن للأمم المتحدة و هي التي تقوم أيضا باختيار قضاة المحكمة.
هناك محاكم دولية أخرى تم تشكيلها من قبل الأمم المتحدة أيضا ولكن بالاتفاق مع الدول المعنية ولذا تعتبر محاكم مختلطة إذ يجلس فيها قضاة دوليون إلى جانب قضاة محليون كما هو الحال في كمبوديا حيث شكلت بعد مفاوضات طويلة امتدت من عام 1997 إلى 2003 محكمة خاصة لمحاكمة قادة الخمير الحمر بتهمة قتل حوالي مليونين من مواطنيهم في السبعينيات من القرن الماضي باسم المبادئ الاشتراكية. و قد بدأت المحكمة إعمالها عام 2006 و قدم للمحاكمة حديثا كانك كيك لو المعروف بالرفيق دوش و التي كان يشرف في حينها على مركز التحقيق المشهور س/21 والتي توفى فيها حوالي 17 ألف موقوف من جراء المعاملة الوحشية. كما القي القبض حديثا على خيو سامفان رئيس الدولة لفترة 1975/ 1979 و كذلك وزير خارجيته آنذاك لنك ساري و عمره الآن 77 سنة و زوجته التي كانت تشغل منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية.

و هناك محكمة دولية أخرى مختلطة شكلت عام 2002 في فريتاوون في سيراليون لمحاكمة المسئولين عن الانتهاكات والجرائم الدولية و بعض الأفعال المعاقب عليها حسب القانون الداخلي لتلك الدولة و المرتكبة خلال الحرب الأهلية التي حدثت منذ 30 نوفمبر 1996. و هي تاريخ فشل المفوضات السلمية المعقودة في ابيجان في ساحل العاج و التي حاولت دون نتيجة إنهاء النزاع. و قد شكلت المحكمة هذه في فريتاون لتكون قريبة من مسرح الجريمة و لتجنب تكرار الانتقادات التي تم توجيهها سابقا لمحكمة يوغوسلافيا. ورغم ذلك وكاستثناء على القاعدة تم نقل محاكمة شارل تايلور الرئيس الليبيري السابق إلى لاهاي لضرورات أمنية. و يلاحظ بأن هناك لجنة وطنية خاصة بالحقيقة و المصالحة تم تشكيلها إلى جانب المحكمة من قبل السلطات المحلية للنظر في بعض الحالات الخاصة و التي تتعلق بمتهمين أحداث.
وأخر محكمة تم إنشائها من هذا النوع هي المحكمة التي تم تشكيلها بموجب قراري مجلس الآمن 1664 لعام 2006 و 1757 لعام 2007 للنظر في قضية اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري ( وآخرون قضوا آو جرحوا في نفس الحادث) واختير مدينة لاهاي كمقر لها، لضمان حسن سير أعمالها واستقلالها. و سوف يجلس في المحكمة التي سوف تبدأ أعمالها في الأول من مارس اذار 2009 هيئة مختلطة من قضاة دوليون يشكلون الأكثرية و آخرون لبنانيون. و سوف تطبق المحكمة القانون اللبناني و ليس القانون الجنائي الدولي.
المحكمة الجنائية الدولية الدائمة
يعتبر المحكمة الجنائية الدولية أول محكمة دولية دائمة وعامة تكون من اختصاصها محاكمة الأشخاص بذواتهم عن جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، جرائم الإبادة البشرية و جريمة العدوان. و قد تم إنشاء المحكمة عام 2002 و يعتبر ظهورها بحق فصلا جديدا في تأريخ العدالة الجنائية الدولية. رغم أهمية المحكمة هذه على الصعيد الدولي فأنها لا تدخل ضمن منظومة الأمم المتحدة بل أنشئت بشكل مستقل و حسب اتفاقية روما لعام 1998 . وقد دخل نظام روما الأساسي حيز التنفيذ في الأول من يوليو/ تموز2002 بتوقيعها من قبل 60 دولة على الأقل. وعقدت الدورة الافتتاحية للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في 11 مارس/ آذار 2003. و أصبح اليوم هناك 108 دولة عضو في الاتفاقية. و من أسباب وجود المحكمة خارج منظومة الأمم المتحدة عدم وجود إجماع بين الدول العظمى في مجلس الآمن على تشكيلها. فبينما انضمت فرنسا و المملكة المتحدة إلى الاتفاقية، لم تعترف بها القوى العظمى الأخرى ( كالولايات المتحدة، روسيا آو الصين)، فهذه الدول لا تحبذ عموماً القبول بولاية المحكمة. فالولايات المتحدة لديها عدد كبير من القوات خارج أراضيها ولا تقبل إخضاع قواتها لولاية قضائية أخرى لأسباب سياسية و إستراتجية، بينما هناك بعض الشخصيات المتنفذة في روسيا تخشى أن تتم مسائلتها عن أفعال ارتكبت في الشيشان على وجه الخصوص، و لا ترغب الصين أن تتم مسألتها عن أفعال ارتكبتها في مقاطعة التيبت. و بما أن قانون المحكمة لا تعترف بمبدأ الحصانة فالمحكمة تستطيع ملاحقة رؤساء الدول السابقين و الحاليين و تستطيع إصدار مذكرات توقيف ضد من يتهم بهذه الجرائم.
و يتم ترشيح قضاة المحكمة مباشرة من قبل الدول الموقعة على الاتفاقية. و المحكمة لها اختصاص عام بالنسبة للدول الأعضاء إلا في حالة ما إذا كان القضية معروضة أمام محكمة وطنية و بشرط أن تكون الفعل قد تم ارتكابها بعد عام 2002 أي بعد تشكيل المحكمة. و المحكمة الجنائية الدولية لا تستطيع محاكمة أشخاص متمتعين بجنسية دول لا تعترف بالمحكمة إلا إذا كان الفعل قد ارتكبت على أراض دولة عضو بغض النظر عن جنسية الفاعل. و يكون المحكمة مختصة في حالة إذا ما تم ارتكاب الفعل خارج أراض دولة العضو بشرط أن يكون الشخص متمتعا بجنسية دولة عضو في الاتفاقية.
ويستطيع الجمهور مشاهدة جلسات المحكمة من وراء زجاج مدرع حماية للشهود آو المتهمين، كما يمكن مشاهدة جلسات المحاكمة من خلال شبكة الانترنيت و ذلك لتمكين اكبر عدد من الأشخاص مشاهدة ما يجري و خصوصا أقرباء الضحايا و السكان في الدولة الأصلية و التي حصلت الإحداث على أراضيها. و يكون الشهود موضع اهتمام خاص إذ يتم حمايتهم و احترام خصوصياتهم عند الإدلاء بشهاداتهم، فيكون بالمقدور تغطية وجوههم الكترونيا أو تغيير نبرة أصواتهم من قبل فنيين و إعطائهم أسماء جديدة، فيخفى هوياتهم عن الجمهور و يعرض هوياتهم الحقيقية للمحكمة فقط.
يقوم مكتب المدعي العام في المحكمة بإجراء التحقيقات و جمع الأدلة و هو يعمل بالاشتراك مع ثلاثة قضاة بحيث يكون الحصول على موافقتهم ضرورياً لتوجيه الاتهام و إصدار مذكرات التوقيف. و يسعي المدعي لإثبات التهمة و يقدم المحامون عن الضحايا جهودهم لمساعدته. و المتهم رغم خطورة الاتهامات يتمتع بقرينة البراءة بالكامل و يتم الدفاع عنه من قبل محامي الدفاع و يسمح له بالاطلاع على كافة أوراق القضية. يتم عرض القضية على هيئة مكونة من ثلاثة قضاة لإصدار القرار بالبراءة أو الإدانة. و الحكم قابل للاستئناف من قبل المدعي أو من قبل محامي الدفاع و في هذه الحالة يتم إعادة المحاكمة أمام هيئة مكونة من خمسة قضاة من محكمة الاستئناف. و يكون هناك مأمور ضبط في كافة مراحل المحاكمة لتأكيد بأن حقوق جميع الإطراف قد تم احترامه. وتزامناً مع تشكيل المحكمة تم تشكيل نقابة دولية للمحاميين تضم متخصصين في القانون الجنائي من كافة الجنسيات لتقديم الاستشارات و المرافعات أمام المحكمة. و هناك إطراف عديدة تستطيع تحريك الدعوى أمام المحكمة ضد الأشخاص. فيستطيع الادعاء تحريك الدعوى بنفسه و لكن في كثير من الأحيان يتم تقديم الشكوى من قبل دولة عضو في المعاهدة. و إحدى مميزات المحكمة أن ألضحاياه آو ممثليهم يشاركون في كافة مراحل الدعوى مباشرة و يحق لهم اختيار من يمثلهم في الدعوى و أن يقدموا طلباتهم للمحكمة. و حاليا يقوم مكتب الادعاء العام بالتحقيق في قضاياه تخص متهمين من أربع دول هي كونغو، أوغندا، السودان و جمهورية إفريقيا الوسطى.
رغم أن هذه المحكمة لديها اختصاص قانوني محدد بشأن الدول الأعضاء إلا أنها قد تتحول إلى محكمة ذات طابع دولي كامل إذا ما قرر مجلس الآمن الطلب منها أن تقوم بذلك حسب المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة و تصبح آنذاك ذات اختصاص شامل دون تحديد العضوية آو اعتبار للحدود. فمثلا إذا تم ارتكاب جرائم في دولة ليست عضوا في المحكمة، و إذا كان لدى مجلس الأمن شكوك بأن السلطات المحلية في تلك الدولة قد قامت بتلك الجرائم، يجوز لمجلس الأمن الطلب من المحكمة إجراء تحقيق حول ذلك إلا إذا كان القضية مرفوعة أمام محكمة وطنية مختصة و شرط التحقق من جدية المحاكمة قبل إيقاف الملاحقة الدولية. فإذا ثبت أن المحكمة الوطنية غير جادة في الملاحقة أو إذا ظهر بأن النظر من قبل محكمة وطنية هي فقط لغرض حماية المتهمين فيكون للمحكمة التدخل لملاحقة و محاكمة المتهم بنفسها. و رغم ما تمثله المحكمة من ايجابيات هناك عدد من الانتقادات المهمة التي توجه للمحكمة منها صعوبة الوصول إلى الإجماع بين أعضاء مجلس الآمن مع توفر حق الفيتو للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن للبدء بالملاحقة، إذ يكفي أن توجد علاقة متميزة بين دولة عظمى مع الدولة التي يراد ملاحقتها قانونياً من قبل المحكمة لتستطيع الدولة العظمى استخدام حقها بالنقض لإعاقة الإجراءات. وبرغم أن المساواة بين الدول هي مبدأ قانوني أساسي من النظام الدولي ، فواضح بأنه في ظل الظروف الحالية لا يزال هناك تمييز فعلي في المعاملة بين الدول. فالدول الإفريقية مثلا و التي ليست لديها ثقل أساسي على المستوى الدولي تتم ملاحقتها اليوم من قبل المحكمة بشكل أسهل من غيرها و ان كان الأمر في تطور دون جدال. و قد تم حديثا إصدار مذكرات ملاحقة ضد مسئولين حكوميين في السودان بشان قضية دارفور رغم ما لدى هذا البلد من علاقات قوية مع الصين. و يذكر بان لمجلس الأمن الحق في تعليق الملاحقات إذا اعتبر بأنها قد تسبب في وضع صعوبات إمام مفاوضات سلام جارية بين الإطراف. و كما قلنا لا تستطيع المحكمة محاكمة أفعال تم ارتكابها قبل عام 2002. فبما إن هذه الجرائم لا تسقط بمرور الزمان فأن عدم تحديد تاريخ بدء سريان قانون المحكمة على الجرائم المرتكبة كان يهدد بجلب كثيرين من دول عديدة أمام المحكمة دفعة واحدة بمجرد إنشائها و ربما أدى ذلك أيضا إلى تردد بعض الدول للانضمام خشية مسألته عن إحداث سابقة. و رغم جسامة التضحية بعدم معاقبة أفعال فضيعة حصلت قبل تاريخ تشكيل المحكمة، يجب أن لا ننسى بان الهدف الأساسي للمحكمة في الوقت الحالي هي العمل بالممكن والارتقاء بالقانون الدولي الإنساني و ردع الأشخاص من ارتكاب مزيد من الجرائم و التطلع إلى المستقبل أكثر من النظر إلى الماضي المؤلم. و من الناحية العملية يقوم مكتب الادعاء بجمع المعلومات و إرسال محققين ميدانيين إلى الدول المعنية. و يعتمد الادعاء بالدرجة الأساسية على شهادات الضحايا و لكن أيضا الوسائل التقنية، فالمكتب لديه حوالي 300 محقق متخصصين و ذو خبرة في علم المقذوفات، الطب و استحصال الشهادات من ضحاياه العنف و الأطفال و النساء الخ....
رغم الهيبة العالمية التي تتمتع بها المحكمة، هناك صعوبات عديدة تعرقل عمل المحكمة، فمهمة الادعاء و المحقق أمر ميداني صعب و خصوصا أنها تجري حول إحداث جارية في بلدان غير مستقرة سياسيا و قد يتعرضون للمنع في التنقل إلى ميدان الإحداث كما حدث حديثا في السودان. و لكن المحكمة لا تتردد، عند الضرورة، في نقل الشهود إلى الدول المجاورة لاستماع إلى أقوالهم. و من المشاكل المهمة الأخرى التي تعاني منها المحكمة هذه و المحاكم الدولية الأخرى على السواء، عدم وجود شرطة خاصة بها. فلأجل ملاحقة المتهمين و توقيفهم تعتمد المحكمة على الشرطة المحلية في الدولة المعنية من خلال التنسيق مع الشرطة الدولية الانتربول ومعروف بان الانتربول و مقرها في مدينة ليون الفرنسية منظمة دولية تضم 187 دولة في العالم. و هي عكس ما يتبادر إلى الأذهان، ليست لديها سلطة توقيف الأشخاص آو البحث الميداني بل لديها قدرة شبكية و قاعدة معلومات واسعة تضعها عند الطلب في خدمة الشرطة المحلية للدول الأعضاء. فمن خلال مكتب الهاربون من وجه العدالة تساعد الانتربول الشرطة المحلية في الدول الأعضاء من خلال إعطائها المعلومات المتوفرة لديها عن الشخص المطلوب. فمثلا حينما تصدر المحكمة مذكرة اعتقال دولية بشان المتهم تقوم الانتربول بإدخال معلومات المتعلقة بالشخص و إرسالها فورا إلى الدول الأعضاء. ولكن الشرطة الوطنية قد لا تتعاون دائما كما يجب. ففي حالة رادوفان كاراديج لم يتم توقيفه وهو هارب إلا بعد مرور عشرة سنوات مع انه كان لا يزال مقيماً في دولته الأصلية صربيا. فمع انه قام بتنكر شخصيته من المؤكد بأنه كان بمقدور الشرطة المحلية توقيفه في مدة اقصر لو قام الدول الأوربية بالضغط أكثر على السلطات الصربية. رغم هذه النواقص تمثل المحكمة الجنائية الدولية اليوم أملا كبيرا بالنسبة لمناصري حقوق الإنسان. فمجرد وجود محكمة كهذه يجعل الشخص يفكر بشكل جدي في عواقب ما يروم ارتكابه و بالتالي قد يعدل عنه و هذا أمر مهم جدا طالما أن العدالة الدولية من النوع التي تتدخل قبل و إثناء النزاع و ليس فقط بعدها. و نذكر أخيرا بان الأردن و جيبوتي فقط هما من الدول العربية التي صادقت على الاتفاقية و لم تنظم للاتفاقية تركيا ولا إيران. و هناك بعض المنظمات المدنية في منطقة كردستان العراق قامت حديثا بالبدء بحملة لتشجيع الحكومة العراقية للانضمام إلى الاتفاقية و النظام الخاص بالمحكمة.

و في النهاية نقول إن الاتجاه نحو تدويل المسؤولية الشخصية بالنسبة إلى الجرائم الفظيعة فرضت نفسها نتيجة لفشل كثير من الدول في محاكمة مرتكبي الجرائم. فمن ايجابيات النظام الدولي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة، تطبيق مبدأ المسئولية الشخصية على الجرائم الخطيرة، والتوسع في استخدام الاختصاص الشامل و هذا موضوع قد نتناوله في مناسبة أخرى . إن النظام الدولي الحالي وان كان لازال فيه نواقص كثيرة، فان الاتجاه العام تذهب إلى الإصرار على عدم ترك الجرائم الخطيرة التي تحصل في أية بقعة من العالم دون معاقبة.

محامي في نقابة باريس