في تموز/يوليو 2003، وبعد شهرين من قلة العمل، والملل من كآبة المنطقة الخضراء والقصر الجمهوري، وردا على الصواريخ التي كانت تسقط في حدائق القصر الجهوري، بين الحين والحين، تمكنت من إقناع زميلنا عماد ضياء بضرورة إقامة حفل موسيقي غنائي ساهر تحييه الفرقة السمفونية العراقية وفرقة غناء فلكلوري عراقية، للترويح عن أنفسنا أولا، ولتقديم صورة مضيئة عن ثقافة العراق وفنونه للأمريكان في المنطقة الخضراء، وللترفيه عن العوائل العراقية القادرة على الوصول إلى المنطقة الخضراء وتحمل المغامرة، لكي نتحدى، بشكل مباشر وعلني، محاولات الإرهابيين المستميتة الهادفة إلى ترسيخ حالة الخوف العام، وصولا إلى شل الحياة، وزعزعة الثقة بالوضع الجديد.

مشاهدات عابرة من أيام القصر الجمهوري

تذكرت تلك الليلة، ورأيت ضرورة إطلاع قرائي على بعض ما دار فيها، لأضيف مثالا آخر على ما ذكرته في المقالة السابقة، عن استغلال البعض لجهل الأمريكان بالعراق وتاريخه وتقاليده وواقعه السياسي والأثني والاجتماعي، لتمرير معلومات مغشوشة بهدف الابتزاز.

فقد طلبت من الفرقة السمفونية العراقية أن تفتتح الحفل بعزف نشيد (موطني). ويعلم الكثيرون بأن هذا النشيد ليس عراقيا، بل هو لبناني كلاما ولحنا، ولكننا في العراق أحببناه وواصلنا عزفه وغناءه أكثر من أي شعب عربي آخر، حتى صار مع الزمن وكـأنه عراقي خالص. كان بريمر يحضر الحفل في إحدى مقصورات قاعة الاحتفالات الكبرى في قصر المؤتمرات. وحين بدأت الفرقة السمفونية بالعزف، راح الحاضرون جميعا ينشدون مع الفرقة، وهم وقوف، ثم تعالى نشيج العراقيين والعراقيات، وسالت الدموع. فسأل بريمر أحد المرافقين العراقيين عن سر هذا الجو الحميم، وعن طبيعة النشيد، فرد عليه بأن هذا هو النشيد الوطني العراقي، فهب بريمر واقفا، ووضع يمينه على قلبه احتراما وتبجيلا، مثلما يفعل الأمريكيون عند سماع نشيدهم الوطني. طبعا لم يصحح أحد لبريمر حقيقة النشيد، وظل على توهمه بأن ما سمعه هو النشيد الوطني العراقي. وعلى هذا يمكن القياس. فإذا توفر للأمريكي عراقي أمين وصادق فسوف ينير له طريقه العراقي بإخلاص، أما إذا وقع ذلك الأمريكي فريسة لمرافقين أو مترجمين أو مستشارين، عراقيين أو عرب فاقرأ عليه السلام.

ومن طرائف تلك الأيام أن رتلا أمريكيا صادف قرية عراقية كان أهلها يطلقون الزغاريد والرصاص، على طريقة العراقيين في أعراسهم، فطلب قائد الرتل من مترجمه المصري أن يستطلع حقيقة الأمر، فسأل أحد أبناء القرية فأخبره بأنهم يحتفلون بحفل زفاف، وأنهم ذبحوا ثلاثة (طليان)، فأبلغ المترجم المصري قائد الرتل بأن أهالي القرية ذبحوا ثلاثة مواطنين إيطاليين. فما كان منه إلا أن يطلب نجدة إضافية من قوات أمريكية، وحاصر القرية وهاجمها بعنف، ليكتشف في النهاية أنهم ذبحوا ثلاثة خرفان، وأن العراقيين يسمون الخروف (طلي) وجمعها (طليان).
وما ذكرته في المقالة السابقة عن سلطة السكرتيرات والمرافقات، واستغلالهن لجهل الغالبية العظمى من الأمريكيين، وهو جهل واقع وحقيقي، لم أقصد التعميم مطلقا. وكان ينبغي أن أكون أكثر حذرا وأكثر دقة في التعبير، لئلا أحمل القاريء على الظن بأنني أعني جميع العراقيات اللواتي عملن معنا في القصر الجمهوري، أو أنني قصدت أيضا جميع الأمريكيين، لما في مثل هذا التعميم من التجني والخروج على الموضوعية والحياد. ولكن حديثي كان فقط عن الجانب الأسود من الصورة، وهذا لا يعني أنها بدون جانب آخر أبيض مشرق وحري بالاحترام.
لكن لا يمكن تقديس الوضع الحالي، والسكوت عن مثالبه وعيوبه، لأن شعبنا لم يكن يتطلع إلى (السيء) الجديد، هربا من (الأسوأ) السابق، وفي الإمكان إقامة وطن قوي متناغم آمن مزدهر ينعم أهله جميعا بالطمأنينة وبالخير العميم. كما أن مثالب العهد الحالي وعيوبه لا تبرر تبرئة الديكتاتور من دماء العراقيين وأرزاقهم وكراماتهم.

وتعليقا على ما عتب علي فيه زملائي من أعضاء مجلس إعادة الإعمارIRDC، فينبغي القول مجددا إن المجلس، كأي تجمع من نوعه، لا يفترض أن يكون خاليا من عضو فاسد وطائفي وانتهازي، مقابل آخرين كثيرين شرفاء ونزيهين ووطنيين بلا حدود، وقد استشهد بعضهم دفاعا عن أمانته ونقائه ووطنيته العالية ونزاهته.

أما حديثي عن الشطار العراقيين السبعة، فقد قصدت به تسجيل واقعة تاريخية أسست لكل النزيف الدامي الذي شهده ويشهده العراق منذ التاسع من نيسان وإلى اليوم، وتحميلهم مسؤولية ما شهده ويشهده العراق من احتراب وانقسام واقتتال. فقد تمكنوا من النفاذ عبر ثغرة الجهل وعدم الخبرة بالعراق لدى الكثيرين من أصحاب القرار الأمريكيين، ومنهم بريمر وقبله غارنر، فأقنعوهم بمعلومة غير أمينة، أو كلمة حق أريد بها باطل، عن مكونات الشعب العراقي. وجاهدوا سنين طويلة حتى استطاعوا حمل الأمريكيين على تلسيمهم السلطة، وفرضهم حكاما على الشعب العراقي بقوة السلاح، من خلال مجلس حكم يحتكره السبعة الذين كانوا يحتكرون مؤتمرات المعارضة، وأقنعوهم بأن يصرفوا النظر عن حكومة انتقالية مؤقتة محايدة من الخبراء المستقلين، تشرف على إعادة تأهيل الدولة على أسس ديمقراطية علمانية غير طائفية ولا عنصرية، وتشرف على انتخابات عامة نزيهة تتساوى فيها حظوظ الجميع في الترشيح والاقتراع، ولا يستغل فيها شخص أو حزب أموال الدولة ووظائفها وقواتها المسلحة لكسب أصوات الناخبين، وهو اختلاس للسلطة غير مشروع، بكل المقاييس الديمقراطية المتعارف عليها.

وبالإضافة إلى ما في هذه التشكيلة من طعم الخداع والاحتيال، فإن فيها أيضا ظلما كبيرا للشيعة وللأكراد معا. فالسماح لشخص أو حزب أو أسرة باحتكار طائفة كبيرة واسعة، وتهميش الملايين من أبنائها، بمن فيهم من إسلاميين وعلمانيين، يمينيين ويساريين، مدنيين وعسكريين، والتلاعب بأرزاقهم وأرواحهم ومستقبل أجيالهم، ألا يعد انقلابا من نوع جديد لا يقل سوءا عن الانقلابات المتلاحقة السابقة، وتأسيسا لديكتاتورية الشخص الواحد أو الحزب الواحد أو العقيدة الواحدة؟

واختزال الشعب الكردي، بملايينه وقواه الوطنية المتعددة المتمايزة، ليصبح ملكا خاصا لشخص واحد أو حزب أو عشيرة، ألا يعتبر ديكتاتورية مقنعة؟
وأسأل وأرجو ألا يغضب أحد من سؤالي، ألم يسفك بعض هؤلاء القادة من دماء مواطنيهم، في ثلاث سنوات، أكثر مما سفكه صدام حسين في ثلاثين عاما؟ وألم يغتصب بعض هؤلاء القادة من المال العام أضعاف ما اغتصبه عدي وقصي وساجدة وعلي حسن المجيد وعبد حمود؟

ألم يكن الأسلم للعراق وللعراقيين، وحتى لبريمر وبوش وضباطهما وجنودهما، والأكثر عدلا وضمانا للأمن والاستقرار والازهار أن نرى الطوائف والفئات والأحزاب والمنظمات جميعها، دون تمييز ولا تقسيم ولا حواجز ولا حدود، منخرطة في العملية السياسية فتغنيها وتزيدها قوة وثباتا، لكي نرى رؤساءنا ووزراءنا يعينون على أساس الخبرة والنزاهة فقط، وليس على أساس المحاصصة؟ أما كان هذا، لو تم، قد جنب الوطن كل هذا النزيف الذي لا يبدو أنه سيتوقف عما قريب، ووفر على العراق وعلى أمريكا وعلى المنطقة كلها تلك المصائب المتلاحقة؟ ألم يكن قد أراحنا من تقلبات الأمزجة وتناقض المصالح، وأوقف مسلسل التخبط الملازم لسلوك القيادات الحاكمة، نتصالح لا نتصالح، نجتث لا نجتث، نحاكم لا نحاكم، نعدم لا نعدم، نريد لا نريد.
وإلى متى يراد منا أن ننافق ونداهن، وألا نكتب ولا نتذكر ولا نهاجم إلا النظام الديكتاتوري السابق وأعوانه، ونسكت ولا ننبس ببنت شفة تعليقا على ما نراه اليوم من تصرفات لا تقود إلا إلى مزيد من التخبط والدوران في الحلقات المفرغة المتواصلة؟.

وإلى متى يراد منا أن نظل نلهج بحمد بوش لأنه حررنا من ظلم الديكتاتور، وهو الذي أركب على ظهورنا العشرات من وارثيه الأشاوس؟. وعلى كل حال، هذا مجرد رأي، وعلى من يخالفني أن يتحملني، وأمره إلى الله.

إبراهيم الزبيدي