تملك اليمن أحد أبرز المشاهد الثقافية والإبداعية الحية بالحوار والنقاش، وذلك بفضل إبداعية وحيوية ونشاط مجموعة من شبابها الكتاب في الشعر والرواية والنقد والفن التشكيلي والإعلام، ووقوفهم ضد محاولات التعتيم والتحجيم والتكفير والقمع والمصادرة، مشهد شبابي ثري يعمل وفقا للشروط الصحية للثقافة والإبداع، لا يكتب أو يناقش لمجرد الجدل أو الفوز بجائزة أو دعوة هنا أو هناك أو منصب قيادي في هذا المكان أو ذاك، بل من أجل تطوير وتجديد الرؤية وإثراء معالجاتها وخلق حالة من الإبداع على كافة مستويات العمل الإبداعي والفكري، وتأكيد الحضور اليمني علي الخارطة العربية.


لقد كانت بداية متابعتي لهذا المشهد عقب زيارتي لليمن عام 2006 في إطار الدورة الثانية لمهرجان الشباب للشعر العربي الذي لم شمل الشعراء الشباب العرب من المحيط للخليج في سابقة هي الأولى في تاريخ الشعر العربي الحديث، منذ ذلك الوقت لم أتوقف عند المتابعة من خلال مواقع مهمة أنشأها شعراء وكتاب شباب علي الإنترنت وتحظى باهتمام واسع منها موقع عناوين ثقافية للشاعر أحمد السلامي وموقع بيت الشعر اليمني الذي يترأسه الناقد عبد السلام الكبسي والشعر علي أحمد جاحز وموقع أشياء لمحمد عبيد وغيرها وهي كثيرة، ومن خلال اللقاءات القليلة التي تتاح هنا أو هناك في مهرجانات ومؤتمرات عربية يحضرها مبدعون يمنيون.


هذه الجهود للمبدع اليمني كانت في وقت من الأوقات مدعومة ومساندة من وزارة الثقافة اليمنية وتحديدا أثناء تولي مبدعين لها، وأخرهم القاص خالد الرويشان الذي شهدت الثقافة اليمنية داخليا وعربيا ودوليا في فترة توليه ازدهارا وحضورا واسعا، لقد نشرت في عهده إبداعات الجيل الجديد جنبا إلي جنب مع إبداعات رواد اليمن، كما نشرت كتبا تراثية حيوية في تاريخ اليمن القديم والمعاصر، هذا على مستوى النشر، لكن هناك الكثير من الجوانب المهمة والمضيئة التي أضافها الرجل ولعبت وتلعب حتى الآن دورا حيويا في الثقافة اليمنية.


لكن النقلة المهمة في إنجاز الرويشان للثقافة اليمنية تمثلت في مهرجان الشعر العربي للشباب، فحجم الكتابات التي كتبت عن اليمن ثقافة وتاريخا وحضارة وإبداع امتدت إلي كل الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية العربية، فقد عاد الشعراء المشاركين إلي بلدانهم محملين بمحبة غامرة لحوارات ونقاشات، لرؤى وأفكار وآراء وإبداعات يمنية وعربية، لقد أتيحت لهم فرصة رائعة ربما لن تتكرر مرة أخرى للتعرف عن قرب على هذا البلد العامر ـ فعلا ـ بجيل من المثقفين والكتاب والمبدعين الأكفاء فكرا ورؤية.


فأن تسلم القيادة اليمنية بأن شبابها من المثقفين والمبدعين هم الأجدر بالحضور والمشاركة الفاعلة في تشكيل رؤية اليمن الثقافية، يعد علامة هامة علي تفهم هذه القيادة، لكن أن تتجاهل ذلك، فإن التأثير لن يترك انعكاساته علي هؤلاء الشباب الحاضرين بالفعل بقدر ما ستكون الانعكاسات سلبية علي حضور اليمن الثقافي.


إن مما يؤسف له أن الوزارة في عهدها الجديد ومنذ خروج الرويشان quot;لا حس ولا خبرquot; ـ كما يقال في مصر ـ ألغيت وقلصت الكثير من الأنشطة والدعم والمساندة، ويكفي مثالا علي ذلك مهرجان الشعراء العرب الشباب، وإلغاء هذا المهرجان تحديدا أمر مؤلم، باعتبار أنه كان يجمع شمل الشعراء العرب من الخليج إلي المحيط، في سابقة فريدة لم تقم بها دول كبرى غنية في المنطقة العربية، وقامت بها اليمن وحققت إنجازا مذهلا في تقارب الأجيال الشعرية العربية ووقوف كل منها علي منجز الآخر الشعري، وإنني أتساءل هنا: لصالح من يتم إلغاء مثل هذا المهرجان؟ فلا أعتقد أن إلغاءه في صالح المشهد الثقافي اليمني عامة والمشهد الشعري خاصة، حتى إن كان شعراء اليمن حاضرون بثقل تجاربهم ونضجها وفرادتها في المشهد الشعري العربي.


كل ذلك أكتبه من باب الحب، فالحقيقة التي لا أستطيع أن أنكرها أنني أحببت هذا البلد العربي الأصيل، أحببت روح أهله البسيطة والتلقائية والنقية، ولا أنسى الحوار معهم في صنعاء القديمة، وما حملته حكاياتهم عن مصر من عذوبة، وما وجدته من كرمهم وحسن استقبالهم وضيافتهم.
لذا أرجو من وزارة الثقافة والقائمين عليها تفعيل مهرجان الشعر وغيره من الأنشطة التي بفضلها دبت الحيوية في الحركة الثقافية اليمنية فكانت ملء السمع والبصر فترة ليست بالقصيرة.

محمد الحمامصي