كانت وما زالت الموصل مدينة ولا أجمل منها بين المدن لما امتازت به من تنوع في الأعراق والأجناس وتعدد في الأديان والمذاهب والمعتقدات وما حباها الله من طبيعة خلابة تجمع بين أقاليم الجبل والسهل والصحراء، وعقدة تلتقي فيها كل ممرات التجارة بين الدول والقارات، فقد كانت عبر تاريخها الغائر في أعماق الزمان عاصمة لإمبراطوريات سادت ثم بادت مخلفة على ثراها وفي نفوس من ورثها من الأشوريين والميديين ومن جاء بعدهم عادات وتقاليد لا مثيل لها فيما حواليها من مدن وحواضر على تخوم الجبال أو شواطئ البحار، لقد كانت محطة لكل الأقوام وساحة حروب بين الدول والإمبراطوريات حتى لم يعد هناك شبرا من أراضيها ما لم يضم جزء من رفات إنسان قضى هناك في واحدة من صراعات الماضي وحروبه الغابرة.


إنها الموصل؛ واحدة من درر التاج العثماني ومركز إحدى أهم ولايات الإمبراطورية التي كانت تضم اربيل ودهوك وسنجار وكركوك والسليمانية وما تبعهم من العراق العجمي حتى غدت عاصمة لكوردستان العراق وشماله اقتصاديا واجتماعيا وإداريا والتي مابرحت وريثة أملاك بني عثمان في آسيا الصغرى تركيا اليوم تطالب وما زال لعاب ( باشاواتها العسكر ) يسيل في أطراف هذه المدينة التي حسمت انتمائها جغرافيا في حدود عام 1925 م إلى مملكة الشراكة العربية الكوردية في العراق، حين استفتي السكان فيها من قبل عصبة الأمم على عائديتها بين الأستانة وبغداد العراق بعد قيل وقال ولجان وأموال وناس تذهب وتجيء في السر وفي العلن، وهنا يقول شاهد عيان كان ساعتها يشهد ذلك الحدث، إنه خيرالدين العمري الذي يقول في كتابه الموسوم بـ ( مقدمات ونتائج الجزء الثاني صفحات 257 وحتى 259 ):
كان المرحوم فيصل والانكليز والحكومة العراقية قد مهدوا طريق النجاح لحل المشكلة لصالح العراق
(( وقد سطر الصفحة الذهبية في هذا الاستفتاء أبناء الشمال الأكراد الأشاوس فقد انضم الأكراد وفاز العراق.. )).

وعن موقف بعض الأهالي في الموصل يقول العمري :

كان بعض العرب يتهربون من مواجهة لجنة الاستفتاء محافظين لخط الرجعة فيما لو عاد الأتراك إلى هذه البلاد. ويضيف العمري قائلا:
وقد تهافت بعض عرب الموصل على تقبيل أياد جواد باشا الممثل التركي، وهتف آخرون بحياة مصطفى كمال ( ولولا الشغب الذي أحدثه بعض المخلصين تخويفا للباشا الموما إليه ليمتنع عن الخروج والتجول في المدينة لتوالت المخازي )!؟

بل وتم إيقافها حينما منح الكورد الموصل عراقيتها وانتمائها بحسب ما وصفه خيري الدين العمري بالصفحة الذهبية في تاريخ هذه المدينة التي واجهت في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي أبشع عمليات التصفية والتطهير العرقي بحق الكورد والكلدان والآشوريين والديمقراطيين التقدميين من مناضلي القوى الوطنية، حتى تسلط البعثيون الشوفينيون ثانية على الحكم بعد انقلابهم في 1968م لتبدأ واحدة من أكثر صفحات التاريخ العراقي سوادا في محافظتي الموصل وكركوك، حيث التشويهات الديموغرافية للمدن والبلدات وتمزيق خرائطها الادارية وترحيل السكان الأصليين القسري واستقدام الآلاف من الأسر العربية لإسكانها في مناطقهم وأراضيهم وإرغام من تبقى منهم على تصحيح قوميته إلى العربية ليتسنى له الحفاظ على بيته وأملاكه ومستقبل أسرته، حيث جرت هذه العمليات في مطلع الستينات من القرن الماضي على أيدي البعثيين بعد انقلابهم عام 1963م ومن ثم 1968م حيث أخذت عمليات التعريب السيئة الصيت مداها الأكبر في التطهير العرقي الذي نال الكورد والتركمان والكلدان والآشوريين بما يلغي وجودهم ويقصي دورهم في العملية السياسية أو الإدارية أو الاجتماعية طيلة أكثر من ثلاثين عاما تم إبعادهم عن الحياة السياسية، لا بل منعوهم حتى من امتلاك الدور أو الأراضي السكنية أو الزراعية واستخدام الأسماء غير العربية أو حتى تسجيل ملكيات المركبات بأسمائهم.


واليوم وبعد أكثر من ثمانين عاما من تأسيس العراق وأكثر من ست سنوات من سقوط ذلك النموذج العنصري الحاكم تغرق الموصل في طوفان أجندات دولية من الجوار وما بعد الجوار، فبعد أن كانت تركيا لوحدها صاحبة الشأن قبل عقود ثمانية ونيف، أصبحت القائمة اليوم أكثر عددا لتتوالى سلسلة المخازي التي خشي منها العمري قبل ثلاثة وثمانون عاما، بل إن الذين منحوا الموصل هويتها العراقية مطلع القرن الماضي يتم تصفيتهم وتهجيرهم منها تسهيلا لمنحها هوية أخرى على أنقاض مدينة يتم مسخها بإقصاء الآخرين واستخدام ذات الأسلوب الذي استخدمه البعثيون والعنصريون والذي أوصل العراق إلى ما هو عليه الآن؟

كفاح محمود كريم