موقف الشخصيات والتجمعات الشيعية في الكويت تجاه اعتقال السياسي والنقابي خالد الطاحوس ثم اعتقال النائب السابق ضيف الله بورمية يعتبر غريبا، ولكنه ليس مفاجأً. فنحن لم نسمع موقفا شيعيا يدافع عن حق الطاحوس وبورمية في التعبير عن آرائهما ما دامت لم تخرج عن إطار حرية الرأي والتعبير المكفولة في الدستور. وهو في الحقيقة موقف يعكس عدم إيمان تلك الشخصيات والتجمعات بحرية الرأي والتعبير وعدم تبنيهم لها. بل هم لايرفعون شعار الحرية إلا حينما تتهدد مصالحهم الضيقة، مصالح الهوية الدينية الطائفية. في حين أن الدفاع عن حرية الرأي والتعبير لابد أن يكون ركيزة أساسية ومبدأ أصيلا في أدبيات كل تجمع سياسي يعيش تحت ظل الدستور ويرفع شعار تطبيقه والذود عنه ويتبنى العمل الديموقراطي.


والحقيقة أن المواقف تجاه الأحداث على الساحة المحلية الكويتية والإقليمية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الغالبية العظمى من الشخصيات والتجمعات الطائفية، السنية منها والشيعية، لاتؤمن بحرية الرأي والتعبير ولا تتبنى مفهوم الديموقراطية، لكنها تستخدمهما بل تستغلهما إذا ما أرادت تمرير مصالحها أو تسعى إلى الدفاع عن قضاياها ومشاكلها. وحينما تأججت الساحة المحلية على خلفية مقتل المسؤول العسكري في حزب الله عماد مغنية في حادث انفجار بسورية، تحولت الآراء المدافعة عن مواقف مغنية والآراء المنتقدة له إلى معول هدم للحرية وأداة لإلغاء الآخر، وباتت الساحة المحلية ساحة تشنج طائفي بغيض. إذ لم يخرج من الجانب الإسلامي السني من يدافع عن حق الجانب الشيعي في الدفاع عن آرائه وفي التعبير عن وجهة نظره في إطار حرية الرأي والتعبير، وإن كانت تلك الآراء ووجهات النظر خاطئة. والأمر يتكرر الآن مع الجانب الإسلامي الشيعي وكأنه يريد أن ينتقم من نظيره السني. ولم يطرق باب أحداث تلك القضيتين إلا بعض الأصوات الليبرالية التي دافعت عن حق الطرفين في إبداء آرائهما ما دامت لم تخرج عن إطار حرية التعبير ولم تحث على العنف والإلغاء.


إن السكوت الإسلامي الشيعي الراهن، ومن قبله السكوت السني، هو موقف غريب تجاه ادعاءات تلك الجهات إيمانها بالديموقراطية ودفاعها عن حرية الرأي والتعبير وتمسكها بالدستور الكويتي. لكنه ليس موقفا مفاجئا، لأن أدبيات الخطاب الديني، السني والشيعي، تستند إلى أولوية الرؤى الدينية التاريخية الطائفية، على حساب الرؤى الحداثية بمختلف مفاهيمها ومن ضمنها حرية الرأي والتعبير والذود عنها في إطار ما يدعو إليه الدستور الكويتي.


لقد أثبتت حادثة الطاحوس وبورمية، ومغنية، ومن قبلها عشرات الحوادث، أن الأدبيات الإسلامية السنية تدعو إلى الدفاع عن قضايا الإنسان الكويتي (وغير الكويتي) السني، وأن أدبيات نظيرتها الشيعية تدعو إلى عكس ذلك، أي إلى الدفاع عن قضايا المواطن الشيعي ومسائل الشيعة سواء في الكويت أو في غيرها. لذلك من الطبيعي حدوث توافق في الأدبيات بين الطرفين والتقائها في الطرح الطائفي لا في الطرح الوطني المنطلق من إطار الدستور. بل الكثير من مواقف الطرفين نجدها تتعارض مع المواطنة ومع وروح الدستور، خاصة إذا ما طرحت على الطاولة مفاضلة بين قضية وطنية دستورية وأخرى دينية. فالموقف الدستوري عند الطرفين يعتبر أقل أهمية من الموقف الديني. وبما أن أدبيات الطرفين الدينية لا تحث على احترام حرية الرأي والتعبير مثلما نجد ذلك في مواد الدستور وفي الأدبيات الليبرالية، فإننا نجد تفاوتا بين الموقفين الديني والليبرالي تجاه الدفاع عن القضايا المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، ونرى تحولا في تلك الحرية من مبدأ أصيل وثابت يجب على كل من يؤمن بالدستور ومواده الدفاع عنه، إلى أداة للمراوغة القائمة على المصلحة. فإن كانت هناك مصلحة لمواقف طرف ما سني أو شيعي سوف يتم رفع شعار الحرية، وحينما تنتفي تلك المصلحة أو تتعارض مع بعض المواقف والقضايا سيدار الوجه عن الحرية، والمحصلة الرئيسة لذلك هي بناء مجتمع يدّعي أفراده وتجمعاته إيمانهم بالحريات بالديموقراطية، في حين أن ذلك هو مجرد ادعاء كاذب.


لقد سمعنا وقرأنا ورأينا كيف يتهافت بعض الإسلاميين الشيعة والسنة في الكويت للدفاع عن قضايا حرية الرأي والتعبير الطائفية في بعض الدول المجاورة، فيما لا يحركون ساكنا حينما يتعلق الأمر بقضايا تمس مواطنين كويتيين يختلفون معهم في الطائفة والمذهب. وقد أكدت معظم المجاميع السياسية والحقوقية في الكويت أن الاجراءات التي اتخذت ضد الطاحوس وبورمية فيها الكثير من quot;التعسفquot; في استخدام القانون. وهو أمر شبيه إلى حد كبير بالاجراءات quot;التعسفيةquot; التي طالت الكثير من المواطنين في قضية مغنية. غير أن الذي يجمع بين القضيتين هو العامل السياسي الديني وروح الانتقام الطائفي لطرف ضد الطرف الآخر. ولا يمكن وصف من يتخذ مثل تلك المواقف الطائفية بأنه يحترم مواد الدستور ويؤمن بمفهوم الديموقراطية ويعتبر حرية الرأي والتعبير مبدأ راسخ وأصيل في ثقافته وأدبياته. ومن يتأمل مواقف بعض الإسلاميين الشيعة والسنة من الأحداث التي تجري في السعودية والبحرين والعراق وإيران سوف يجد أمثلة صريحة على ذلك.


اعتقد أن السكوت الشيعي تجاه ما حدث للطاحوس وبورمية يعتبر انتقاما طائفيا لما قام به الإسلاميون السنة وبعض القبائل تجاه الشيعة في قضية مغنية. وإذا ما استمرت المواقف الطائفية على هذا المنوال فإن الخاسر الأكبر من كل ذلك هو مستقبل الديمقراطية والحرية والتعايش في الكويت. لقد أثبتت بعض المواقف الليبرالية بأنها الأقدر على معالجة القضايا التي تمس مبدأ حرية الرأي والتعبير، لأنها لاتبني آرائها على أسس دينية تاريخية طائفية بل على أرضية مفاهيمية حداثية، حيث تعتبر الحريات، ومنها حرية الرأي والتعبير، مبدأ أساسي فيها، في حين أن الجانب الديني لا يزال يعتبر الحرية وسيلة للتكسب السياسي يستغلها أينما وُجدت مصلحته، بل في بعض الأحيان يرفضها ويلعنها لأنها تجلب quot;المعاصيquot; معها.


يقول الفيلسوف البريطاني النمساوي الأصل كارل بوبر quot;نحن لا نختار الحرية السياسية لأنها تعدنا بهذا أو ذاك. نحن نختارها لأنها تجعل الشكل الكريم الوحيد للتعايش الإنساني ممكناً، الشكل الوحيد الذي يمكن لنا أن نكون فيه مسئولين عن أنفسنا مسؤولية كاملةquot;. كما يقول quot;لا ينبغي أن نختار الحرية السياسية لأننا نأمل بحياة مريحة، ولكن لأن الحرية نفسها تمثل القيمة النهائية التي لا يمكن تحجيمها بقيم ماديةquot;.

فاخر السلطان

كاتب كويتي
[email protected]