ثانيا : الفشل في تحقيق شعار كركوك قدس وقلب كودرستان
قبل ان اعرج على موضوع كركوك اود ان اشير بدءا الى ان الاخفاق الكوردي في قضية كركوك قد ارتبط بمجموعة عوامل ادت مجتمعة الى فشل الجهود الكوردية بضّم كركوك الى كوردستان كما روجت لها القيادات الكوردية وطبّلت وزمّرت، وقد تفاعلت تلك العوامل منذ ايام الانتفاضة في ربيع عام 1991 والى يومنا هذا على ابعاد هذا( الحلم ) الكوردي عن ارض الواقع الى آفاق المستقبل المجهولة،وقد تجلت تلك العوامل في النقاط الثانوية التالية:
أ :ــ الفشل في التعامل مع الجانب الامريكي : لا شك ان الامريكان كانوا ولازالوا وسيبقون كذلك الى فترة منظورة من اللاعبين الاساسيين في الساحة العراقية المضطربة، فهم اضافة الى جهدهم المميز والأوحد الى حدّ كبير في اسقاط النظام فان المرحلة التالية ما بعد السقوط قد اتسمت باصرار الامريكان على ان تكون لهم الكلمة الفصل في رسم السياسة العامة للعراق ولسنين طويلة قادمة وان ما سمي باخطاء وتدخلاته المبعوث الامريكي بول برايمر الفظّة في تفاصيل الحياة السياسية للعراقيين ونوعية التحالفا ت وحتى اسلوب كتابة الدستور العراقي لم تكن ابدا صدفة بحتة،وقد اعتقدت القيادات الكوردية خطأ ان الامريكان قد قدموا الى العراق مخلصين ومخلّصين (بتشديد اللام) ولوجه الله وان التاييد الغير المشروط لهم ولمخططاتهم سيسهل في تحقيق كل الطموحات الكوردية والاحلام الوردية وان العصا الامريكية السحرية لكفيلة بان تحل كل العقد المستعصية وتحل كل الطلاسم المستحكمة، لكن الحقيقة( المرّة) كانت على العكس من ذلك تماما، فالامريكان قد جاؤو الى العراق اصلا لتنفيذ( مخططاتهم الاقتصادية) بالدرجة الاولى، انا لا اذهب الى القول بانهم يطمحون الى( سلب) الثروة النفطية والغازية العراقية الهائلة ومعها احتياطياتها الكبيرة هكذا بدون مقابل او باسعار رمزية كما كان يفعلها سلفها البريطاني ابان الحكم الملكي ابتداءا من عشرينيات القرن الماضي ولغاية الرابع عشر من تموز عام 1958،(حيث كان سعر البرميل من النفط العراقي الخام 4 سنتات فقط !!!) ولكن وكما بدأت الخيوط الاولى للأزمة العامة للنظام الرأسمالي تتضح اكثر فاكثر يوما بعد يوم، فان التواجد الامريكي على مرمى من حجر من الآبار النفطية العراقية خاصة والخليجية عامة لامر يستدعي (التضحيات ) الامريكية الجًمة !!!!،ثم الامر الآخر التي دفع بالامريكان للحضور الى العراق وتغيير النظام هو بالتأكيد الاجندة الدائمة والثابتة للسياسة الامريكية المتعلقة بتأمين (أمن اسرائيل) واخيرا ان ما يسمى( بمكافحة الارهاب) يعتبر الدافع الثالث والاخير من الهًم الامريكي خارجيا وداخليا،ففي كل هذه الاجندات الثلاث السالفة الذكر(والتي تعتبر الدوافع الاكثر وضوحا للوجود الامريكي في العراق لحد الآن) فاننا لا نجد موقعا للكورد ولا مجالا او التزاما تحريريا او شفويا واضحا لتحقيق احلامهم المشروعة ولا حتى في العمل على تجاوز مظلومياتهم السابقة واحقاق حقوقهم المهدورة، وقد ادركت القيادات الكوردية هذه الحقيقة مؤخرا ولكن بعد فوات الاوان حينما صرح السيد مسعود البرزاني( بان الامريكان قد خذلونا!!!).


لقد كان وقوف الكورد الى جانب الامريكان بدون اية تحفظات وبدون اية شروط الخطأ الاكبر الذي ارتكبه الكورد في هذه المرحلة، ففي الوقت الذي كانت القيادة الامريكية في موقف حرج ومنفرد حينما قررت وباشرت بالهجوم العسكري على العراق تجاوزا الاجماع الدولي، وحينما رفض الجانب التركي ابداء اية مساعدة لوجستيكية لها في تسهيل فتح الجبهة الشمالية الامر الذي خلق شرخا كبيرا بين الامريكان وحليفتهم الاستراتيجية تركيا، كان من الممكن للقيادات الكوردية ان تستغل هذا الموقف التاريخي الفريد وتسجل انتصارات باهرة فيما يخص مجمل الحقوق الكوردية وفي قضية كركوك بالذات الا ان جهل القيادة الكوردية وعد ثقتها بنفسها وبجماهير كوردستان، وخوفها الغير المبرر من التهديدات التركية الفارغة فوتت عليها هذه الفرصة التي لا يمكن ان تتكرر في المستقبل المنظور ثانية،وحينئذ ايقن الامريكان ايضا بان القيادات الكوردية غير جادة في حل قضية كركوك باتجاه رفع مظالمها وايجاد حل واقعي لها بعيدا عن المزايدات ودغدغة عواطف البسطاء من الكورد برفع شعارين مبهمين غير واقعيين ابدا، فالاتحاد الوطني وبلسان رئيسه السيد جلال الطالباني قد رفع شعار (كركوك قدس كوردستان ) وهو بحد ذاته شعار خاطئ تحت اية تبريرات او تفسيرات،فلا الكورد هم الفلسطينيون، ولا العراقيون هم اليهود، ومن الامور الواضحة ان اسرائيل تعتبر القدس عاصمتها الابدية وتسعى لذلك بكل ما استطاعت من قوة، وفي احسن الاحوال فانه سيكون هناك تقاسما غير متكافئا للسلطات بين العرب واسرائيل اي ستقسم القدس الى شطرين يكون لليهود فيها حصة الاسد، فاين كركوك ووضع كركوك من قضية القدس، اما الشعار الآخر الذي رفعه الديمقراطي الكوردستاني وعلى لسان رئيسه السيد مسعود البرزاني (كركوك قلب كوردستان ) فهو بدوره شعار لفظي عاطفي مبهم لا يمكن ترجمته الى مفهوم سياسي تطبيقي وواقعي.


لنرجع الى موضوع الموقف من الامريكان وكيفية التعامل معهم، فان الرضوخ الغير المحدود لأرادة القيادة الامريكية واعتبار اوامر ممثليهم (من غارنر الى خليل زاد) نصوص مقدسة منزّلة لا تناقَشْ ولا تعارضْ، فقد جعلت من الكورد ادوات طيّعة بايدي المريكان من جانب،وبالمقابل شوهت الى حد بعيد سمعة الحركة الكوردية امام انظار العراقيين بشكل خاص والعرب بشكل عام واوجدت فرصة سانحة للمعادين للكورد ان يرددوا النغمة القديمة من ان الكورد هم عملاء للامريكان والغرب واسرائيل، فالوجه الامريكي القبيح في المنطقة والعالم لا يمكن تجميله من قبل الكورد وليس من واجب الكورد ان يفعلوا ذلك وهم اصلا كانوا قد لدغوا من الجُحر الامريكي والغربي لاكثر من مرة (بدءا بحكومة مهاباد 1946 مرورا بثورة ايلول1975 والانتفاضة الربيعية1991 وانتهاءا باعتقال القائد الكوردي عبد الله اجالان وتسليمه الى السلطات التركية في ناييروبي عام 1998).


ب:ـــ الفشل في التعامل مع الاطراف العراقية :وهذه ايضا من جملة الحسابات الخاطئة التي فشل الكورد فيها في حسابها بدقة وواقعية على اساس استراتيجي بعيدا عن املاءات الواقع المتغير،صحيح ان العرب السنة ومن خلال (حكمهم) وتسلطهم على مقدرات الدولة العراقية منذ تاسيسها عام 1921 ولغاية سقوط نظام صدام 2003،قد تعاملوا باسلوب غير حضاري مع الكورد، بل وبقساوة قلّ نظيره احيانا، الّا ان الحقيقة البارزة ايضا ان هناك فرقا واضحا وكبيرا بين أطروحات ومستوى النضج السياسي للعرب السنة مقارنة بالعرب الشيعة(ان جاز التعبير) على المستويين النظري والتطبيق العملي ايضا،فلا احد يمكن ان ينكر ان الحقوق الاساسية التي تم الاعتراف بها للكورد قد تم هنا في العراق من قبل الاحزاب العلمانية العربية والعراقية (السّنية)، وبطبيعة الحال ان الحزب الشيوعي العراقي قد لعب دورا بارزا في الاقرار حتى بحق تقرير المصير للشعب الكوردي انطلاقا من مبادئه ومنطلقاته الاممية المعروفة، وحتى الاحزاب القومية مثل الحركة الاشتراكية العربية كانت لها آراء متقدمة في هذا المجال متأثرة بموقف الراحل جمال عبد الناصر الوّدية تجاه الكورد، وحتى الاحزاب العربية السلطوية الاكثر انغلاقا مثل حزب البعث العربي الاشتراكي قبل ان تنحى المنحى الديكتاتوري الفاشي، قد اقر بحق الكورد بالتمتع بالحكم الذاتي (رغم ان نظام صدام قد حاول ان يفرغ هذا المفهوم من محتواه الحقيقي).


المعروف عن الحزبين الكورديين من ناحية التطور التاريخي بغض النظر عن القيادة العشائرية او الوراثية الحالية لها، اتجاهاتها العلمانية،واليسارية والليبرالية الى حد ّ ما (الديمقراطي الكوردستاني تبنى الاستفادة من النظرية العلمية في تحليلاته ونظرته الى الحياة منذ بداية تأسيسه، والاتحاد الوطني تأسس اصلا كحزب ماركسي تبنت الماوية في بداية تأسيسه وانظّمت الى الاشتراكية الدولية لاحقا )،وقد تجلت ذلك في سياق التحالفات بينها وبين الاحزاب العراقية التي كانت سائدة في الساحة العراقية طيلة سنين نضالها ضد الدكتاتورية، وعلى الرغم من ان نظام صدام ومن ضمن ( اسوء مساؤها) ايضا قد دأبت واستطاعت ان تصفي اغلب الاصوات المعارضة لها التي كانت فيها لليسار العراقي والحركة الاشتراكية باع تاريخي طويل الا ان اهمال القيادات الكوردية في الحفاظ على تحالفاتها القديمة وعدم ايلاء الاهمية الجدية في تشجيع ودعم ومساندة هذه التيارات العلمانية التي تؤمن بالحق الكوردي المشروع في التمتع بكافة حقوقه، اقول بان ذلك كان خطأ استراتيجيا ادى الى خسارة الكورد لاهم حلفائها الصادقين، وبالمقابل تم الانحياز والاستسلام للامر الواقع وكذلك التقارب مع الاحزاب الدينية (الشيعية والسنية ) تلك التي برزت بشكل لافت للنظر بعد سقوط النظام واكتسحت الساحة السياسية مستفيدة من حالة الجمود والتخلف والفراغ السياسي التي سادت الاوساط الجماهيرية التي عمل نظام صدام الى تعّميًتها وتجويعها وترهيبها اكثر فاكثر، ولم يكن بحسبان احد ان تطغي هذه الاحزاب الشيعية خاصة واطروحاتها المعروفة على الساحة العراقية مستغلة العمق الشيعي الاكثف وفارضة اجندتها المعروفة ومنها التقارب مع ايران، فالتحالف مع الاحزاب الدينية لا يمكن ان تثمر ابدا عن تطور الى الامام في منح الحقوق القومية للقوميات الاصغر ومسيرة النظام الايراني وخاصة تجاه القضية الكوردية في ايران لهو خير دليل على ذلك لان اجندة هذه الاحزاب ومخزونها الفكري تخلو من هكذا امور وهي شمولية تدّعي تمثيل الكل وتحكم باسم قوانين السماء التي هي فوق البشر وقوانينهم ومطاليبهم الوضعية المتجددة، وقد ادى هذا الاصطفاف وطريقة التعامل الكوردي التكتيكي مع هذه الاحزاب التي سادت بعد عملية سقوط النظام الى ان تتطبع كتابة الدستور العراقي التي من المفترض ان يكون بوصلة الحكم وصمام أمان المجتمع بطابع ديني بعيد عن روح الديمقراطية الاصيلة التي من اولى سماتها فصل الدين عن الدولة وسيادة مفاهيم حقوق الانسان والمرأة والطفل و حرية التعبير والنشر والاعلام، وقد كان بامكان الكورد الذين كانوا يتمتعون بثقل سياسي وحضور فعال وجهوزية اكثر من اية جهة اخرى، اضافة الى تجربة حقيقية في الحكم لمدة 12 سنة (من انتفاضة 1991 الى سقوط النظام 2003) ان تستغل هذه النقاط في فرض الامر الواقع السياسي على الساحة السياسية واعطاء دفعة قوية لليسار والقوى العلمانية لان تاخذ مكانها وتستعيد عافيتها على الساحة السياسية بدلا من الاحزاب الدينية التي كانت اغلبها مترددة حتى اللحظة الاخيرة في المشاركة في عملية التغيير، بسبب ما كانت تتصف به علاقاتها الصميمية مع الحكومة والنظام الايراني المعروف بعداءه التقليدي للامريكان وحضورهم ووجودهم في المنطقة. ولكنها بدلا عن ذلك انشغلت القيادات الكوردية بامور جانبية وتلهفت على الاستحواذ على مخلفات النظام من اموال وموارد وقصور وعقارات ناسية مهمتها الاساسية في بغداد الا وهي تأمين الوضع السياسي المستقبلي للكورد خاصة والعراقيين عامة، وكبح جماح الاحزاب الدينية التي كانت تحاول الخروج من قمقمها والتي استغلت فراغ السلطة وبدأت بتصفية معارضيها حتى ضمن اقرب المقربين لها (عملية اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي مثلا ) دون ان تحرك الحركات السياسية الكوردية او حتى العلمانية ساكنا والحق يقال ايضا ان الامريكان كان لهم ايضا دورا تخريبيا في خلق الفوضى السياسية لتبرير اطول وجود لهم في العراق.


انتهى الجزء الثاني
وسنأتي في الاجزاء اللاحقة على فصول :

ج:ــ الفشل في التعامل مع مكونات كركوك الاثنية من تركمان وعرب وكلدو أشوريين.
د:ــ الفشل في التعامل مع الحكومة المركزية في بغداد (الخلافات المستحّفلة حول اسلوب ادارة المناطق المتنازعة و ملف البيشمركة والنفط والتعامل الخارجي ).
ه:ــ الفشل في الاداء السياسي والاداري في كوردستان (ملف الفساد السياسي وتدخل الحزبين في الحكومة والبرلمان الكوردستاني ).

صفوت جلا ل الجباري
[email protected]