في مقال سابق تحدثت عن تداعي الأحزاب التقليدية في العراق إثر قراءتي للنتائج النهائية لإنتخابات مجالس المحافظات العراقية. ويبدو أن العدوى أصابت الأحزاب الكردستانية أيضا، بعد أن هزت الإنتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة عرش الحزبين التقليديين في كردستان اللذان بالكاد تمكنا من تحقيق فوز ضعيف على قوائم المعارضة الناشئة.

باديء ذي بدء أعتقد بأن السقوط المريع لتلك الأحزاب في عيون الجماهير له علاقة قوية ومتينة بما أستطيع أن أصفه بالنهضة الديمقراطية التي يشهدها العراق ومعه إقليم كردستان منذ سقوط النظام السابق، فاليوم يتمتع الناخب العراقي بحرية أكبر في إختيار من يمثله، وأصبح صوته مسموعا ومؤثرا في العملية السياسية بما أتيح له من مساحة الحرية الواسعة في إيداع صوته بصناديق الإقتراع، وبذلك فقد إستعاد المواطن العراقي إرادته الحرة التي كانت مفقودة لسنوات طويلة في العراق الذي حكمته أحزاب ديكتاتورية منذ نشوء دولته الحديثة. فأصبح بإمكان المواطن أن يقيم بذاته أداء الأحزاب والقوى السياسية التي تخوض الإنتخابات رغما عن أنفها وليس بإرادتها، ولم يعد هناك متسع للأحزاب للتسلط مرة أخرى على رقاب غالبية الشعب، اللهم إلا في حال لجوئها الى التزوير أو التلاعب بالنتائج الإنتخابية، وهذا أيضا سوف لن يدوم الى الأبد، خصوصا وأن المواطن العراقي قد إستعاد وعيه السياسي والإنتخابي وبدأ يدرك أهمية الورقة التي يودعها في صناديق الإقتراع.

ما حصل في إنتخابات مجالس المحافظات في العراق، وما تلاها في الإنتخابات التشريعية والبرلمانية في كردستان يعد بكل المقاييس ثورة حقيقية في مستوى العقل العراقي المقموع منذ سنوات طويلة، ستدشن لمرحلة وتجربة جديدة في العراق تكون الأكثر إشعاعا وديمقراطية من تجارب معظم شعوب المنطقة التي ما زالت تخضع لأنظمة دكتاتورية متسلطة ومستبدة.

أظهرت الإنتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة جانبا مشرقا من التجربة الديمقراطية في كردستان تستحق أكثر من وقفة، فمن يتمعن في النتائج المعلنة قبل يومين لتلك الإنتخابات سيدرك للوهلة الأولى، بأن ديمقراطية حقيقية قد هبت نسماتها على الإقليم بعد سنوات طويلة من تسلط الحزبين الحاكمين عليها، ورغم ما شابت تلك الإنتخابات من تجاوزات وخروقات وما يثار حول حدوث عمليات التزوير أثناء عملية الإقتراع، وهذا ما تنفيه المفوضية العليا المستقلة والجامعة العربية والعديد من المراقبين الدوليين، ولكن مجرد النظر الى النتائج المعلنة تظهر أنه حتى لو جرى التزوير فيها فإنه لا يتجاوز الحدود المتعارف عليها في الأنظمة العربية التي إعتادت أن تلصق نسبة 99،99،99 % بجميع إنتخابات الرؤساء والأحزاب السلطوية..

نسبة 57% لحزبين أدارا الحكم في كردستان منذ 18 سنة وقدما تضحيات كبيرة أثناء الثورة النضالية للشعب الكردي في الجبال، قد تكون أقرب الى الحقيقة المجردة من الرتوش أو محاولة الإعلام الحزبي تجميل الصورة القاتمة لهما، وهي تعبر أيما تعبير عن الحال الذي وصل إليه الحزبان من حيث القطيعة الشعبية خصوصا في السنوات الأخيرة التي شهدت إنغماسا كاملا للحزبين في مستنقع الفساد، وحرمان شعبيهما من خيرات الإقليم التي تقدر بمليارات الدولارات سنويا بسبب الفساد.

وبالمقابل فإن ظهور قائمة التغيير بـ25 مقعدا وصعود الأحزاب الصغيرة بـ12 مقعدا، لهو دليل واضح على حاجة الإقليم الى تغيير جذري في العملية السياسية وفي إدارة الحكم أيضا. فالمعارضة التي قمعت في السنوات الماضية، أصبح لها اليوم حضورا فاعلا على المشهد السياسي الكردستاني وسيدفع بالتأكيد بإتجاه ترسيخ أسس جديدة غير متعارف عليها في العملية السياسية بالإقليم،وسيغير الكثير من المعادلات القائمة.

إن الشعب الذي صب جام غضبه في الإنتخابات الأخيرة على الحزبين الحاكمين، أكد من خلال الإقتراع لصالح قوى المعارضة الحاجة الملحة الى تغيير حقيقي يشمل كافة مجالات الحياة، فالتصويت لصالح قائمة لم يمض على نشوئها سوى شهرين، وفوزها بمقاعد تقترب مما حصل عليها الحزبان الحاكمان منفردين، وهما من هما من حيث الموروث والتاريخ النضالي العريق تستدعي أكثر من وقفة جادة من قادة الحزبين، وتتطلب مراجعة شاملة لأداء الجهازين الحزبي والحكومي، اللذين أصابهما الهرم، وأصبحتا بحاجة ماسة الى بعث الروح فيهما إن أراد الحزبان فعلا إستعادة ثقة الشعب بهما.

لقد نبهت مرارا من خلال كتاباتي المتكررة عن الفساد في الإقليم، سواء على منبر إيلاف أو المنابر الصحفية الكردية، أن حالة الفساد التي وصلت الى حد مصادرة أقوات الأطفال وحرمان الشعب وتجويعه، سيؤدي في نهاية المطاف بهذين الحزبين الحاكمين الى التهلكة، وقد تحقق ذلك اليوم بالفعل، فهبوط شعبية الحزبين بهذه الدرجة الحادة، ومقارنة مقاعدهما البرلمانية السابقة التي فاقت ثمانين مقعدا مع ما حصلا عليها في الإنتخابات الأخيرة،،وكذلك مقارنة الموروث النضالي للحزبين الذي لم يشفع لهما في الحصول على نسب مشرفة في تلك الإنتخابات، مع ما حصدته قوائم المعارضة التي ظهرت حديثا وإن كانت لا تقل عن الحزبين الحاكمين من حيث الموروث النضالي، سيقودنا كل ذلك الى تقدير حجم الكارثة التي حلت بالحزبين معا.

على كل حال أعتقد بأن السنوات الأربع القادمة ستكون حبلى بالمفاجئات، عليه أرى بأن هناك فرصة أخيرة أمام الحزبين الحاكمين لتدارك وضعيهما وتقليل وطأة ما حل بهما، ولا أقول درء الكارثة الواقعة عليهما والتي أصابت قيادتهما بصدمة كبيرة وغير متوقعة. ولعل من أهم الخطوات التي يفترض بقيادة الحزبين أن تخطوانها في مستهل تنفيذ برنامجهما الإنتخابي، هو الإتفاق على تداول سلمي للسلطة بينهما، وإفساح المجال أمام المرشح المحتمل لرئاسة الحكومة الدكتور برهم صالح ليبادر بقيادة عملية التغيير المطلوبة من الحزبين ولو في الفرصة الضائعة، وهي بحق فرصة أخيرة أمام الحزبين لتدارك شعبيتهما على الساحة الكردستانية وإستعادة ثقة الشعب بهما.

وأعتقد بأن برهم قادر على إجراء التغيير المطلوب فيما لو لقي مساندة حقيقية من قادة الحزبين،خصوصا وأنه قد تعهد بإعتباره رئيسا للقائمة الكردستانية الفائزة بالتحديث والتجديد وفق برنامج طموح لو قدر له الإيفاء بها سيتمكن عندها من إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل حلول العاصفة الأخيرة.

شيرزاد شيخاني

[email protected]