المفاجأة الكبرى التي فجرتها جماهير كوردستان في الخامس والعشرين من شهر آب 2009، قد اذهلت الكثيرين من المتابعين للشأن الكوردي في كل مكان، رغم انه كان هناك توقع لقدر كبير من رد الفعل لهذه الجماهير تجاه القيادات الكوردستانية لانها كانت قد اصيبت بخيبة امل كبيرة بسبب ما كانت تتوقعه من الحزبين الحاكمين في كوردستان في ان تحقق اهدافها وامانيها وتسترجع حقوقها المهدورة، وبين وما تمت ممارسته فعلا من قبل اركان ومسؤولي هذين الحزبين والمحسوبين عليهما، من العقوق والتجاهل لهذه الحقوق والالتزامات وارتكابها انواعا مبتكرة من صنوف الاستفادة الغير المشروعة من قبيل الاستغلال السئ للسلطة والحكم وبشكل لم تشهده الساحة الكوردية قبلا، اي ان الفرق الشاسع بين حسابات الحقل والبيدر لدى الجماهيرالكوردستانية جعلتها تنفجر سخطا و غضبا وتحول ذلك الى موجة استنكار وسخط عارمين وتوجيه كل ذلك صوب صناديق الاقتراع لكي تكون صرخاتها و اصواتها المدوية والممنوحة الى قائمة التغيير بالدرجة الاساس بمثابة تحد وانتقام ورد حاسم على هؤلاء المسؤولين الحزبيين الذين خدعوهم بالامس بمعسول الكلام وبوردية الاحلام، وكون هذه الجماهير المسحوقة قد ادركت اخيرا ان لها حقها في الاختيار ضمن العملية السياسية الحالية التي بات فيها للصوت قيمة ومدلول ونتيجة وان لصناديقها فعل السحر في تغييروتبديل من لا يرضخ لارادة الشعب ومن يستغل حسن الظن به ويعمل من اجل مصلحته الذاتية او الحزبية او العشائرية، وعلى الرغم ان الكثير من الخروقات والتزوير والممارسات اللاديمقراطية قد تم ممارستها قبل واثناء الانتخابات البرلمانية، فانها مع ذلك تعتبرخطوة الى الامام في مسيرة الديمقراطية الناشئة في بلد مثل العراق وفي اقليم مثل كوردستان، وان هناك الان امكانية في كوردستان تحديدا والعراق عموما من يكون للمواطن حقا في اختيار الارنب او الغزال كما يقول المثل، كما ادرك الجميع الان ان القبول بنتائج الانتخابات هو الطريق الأسلم لادارة دفة البلاد بدلا من الصراع على السلطة والجاه الذي كان يحسم سابقا عن طريق الاقتتال الداخلي و رفع السلاح بوجه البعض والطعن في الظهر او بالالتجاء الى المحتل من اجل حسم ذلك الصراع قفزا على الثوابت القومية والادعاءات المعلنة على الاقل التي كانت تجرّم من يتعامل مع المحتل ضد بني الجلدة والقوم ويكون سببا في اسالة دماء الاخ بيد اخيه !!!.
لقد نفذ صبر الجماهير وهي ترى بام أعينيها كيف تحول ثوار امس الى تجار اليوم وكيف يتم الاغتناء الفاحش لطبقة جديدة بين ليلة وضحاها تلك الطبقة الطفيلية الجديدة التي تعمل عن طريق شركاتها ومؤسساتها المالية والعقارية ونفوذها السياسي والاداري بسحق المواطن البسيط تحت اقدام طمعها اللامحدود وجعله طعما لمعدتها الجائعة التي لا تشبع، ضاربة عرض الحائط بكل آمال و احلام ومآسي ضحايا التعسف البعثي والظلم القومي الذي خلف مئات الآلاف من الضحايا من أهالي المؤنفلين والمهجرين والمعدمين من اليتامى والارامل واولياء الشهداء اضافة الى الآلاف المؤلفة من الشباب العاطلين عن العمل في بلد من اغنى بلدان العالم في ثروتها الطبيعية التي يحسد عليها، وعلى الرغم ان هؤلاء الذين يحكمون في كوردستان اليوم قد اكتسبوا (شرعيتهم) وبالتالي حقهم التمثيلي للشعب من حطام تلك المآسي التي هزت حتى الضمير العالمي الا ان نسيان تلك المآسي وعدم تعويض ضحاياه بل وشفط المال المخصص لتعويض هذه الضحايا وعدم العمل على تامين يوم وغد افضل لسائر جماهير كوردستان التي عانت الامرين من الابادة والتخريب والتجاهل في الخدمات والوظائف طيلة عقود، هي التي دفعت تلك الجماهير ان تقول فيهم كلمتها الحق امام صناديق الاقتراع وتقابل الوعود الكاذبة لتلك القيادات التي سرعان ما افقدتها بريق الدولارات التي انهمرت عليها فجأة دَين الايفاء بتلك الوعود والعهود و الالتزامات وتحولت بدلا عن ذلك الى غول كاسر يلتهم كل ما يقع تحت يده وبصره من اموال وممتلكات هذا الشعب المظلوم، فلم يسلم اي قطاع من القطاعات الخدمية والاقتصادية او الاجتماعية الّا وتدخلت فيها تلك القيادات اوالمحسوبين عليها او المنسوبين لها، لتضعها تحت تصرفها وكأنها ملك وميراث شرعي لها بدون منازع وتحول شعارها المعلن ( سياسةــ شعب ووطن ــ خدمة) الى ( تجارةــ شعب ووطن ــ ربح).
فكان لابد لهذا الوضع المزري الذي طال أمده واشتد معاناته ان يشهد تغييرا بشكل ما، وخاصة عندما ادركت جموع الشعب ان القيادات التي لا تستطيع ان تحقق ابسط الخدمات لشعبها خلال 18 عاما لهي عاجزة تماما عن تحقيق بقية الآمال الكبيرة والصعبة والمعقدة مثل قضية كركوك والمناطق المستقطعة من الجسد الكورستاني و التي لازالت اجندتها تراوح مكانها يوما بعد يوم وسنة بعد اخرى، وان التذرع بالصبر والأناة ودعوة الجماهير الى الخلود الى السكينة والسكوت عن الاخطاء ومحاولات تحويل الانظار الى( العدو الخارجي) الموهوم الذي يتربص بتجربتنا الفتية ويتحين الفرص للاجهاز عليها وافراغها من محتواها والسطو على مكاسبها !!!!!، كل هذه الألاعيب قد اثبتت فشلها في دغدغة العواطف النبيلة لهذه الجماهيرولم تستطع ان تمضي قدما في خداعها الى النهاية، والآن ادركت هذه الجماهير ان النضال من اجل المهام القومية واحقاق الحق وتعويض ضحايا النظام السابق وتصليح الاوضاع الشاذة في المناطق التي طالتها حملات التعريب وتغيير الواقع السكاني، لا تختلف ولا تتعارض ابدا مع النضال من اجل اجراء تغيير جذري في عقلية وتصرف القيادات الحاكمة ووضع حد لاطماع منتسبيها التي اتخذت من الشعب وقضاياها المصيرية شماعة وغطاءا تخفي وراءها حقيقة مراميها في الاغتناء الفاحش على حساب الشعب الذي انتفض في يوم الانتخابات لكي يقول ولأول مرة في تأريخ الكورد المعاصر... لا لاطماعكم....ولا لاوهامكم... ولا لقياداتكم التي تستمد( شرعيتها) من صفحات تأريخ معروف عمدناه نحن ابناء الفقراء بالدم والتضحيات، انتم من لم تحترموا ذلك التاريخ وتلك التضحيات أولا ولم تحافظوا على قدسيتها، فتأريخكم الذي به تفخرون نحن من صنعناه ونحن من نستحق خيرات انتصاراتها وثمرات شجرتها.
لا شك ان ما باتت تعرف الآن بحركة التغيير في كوردستان التي قد بدأت للتو مسيرتها الطويلة والمتعرجة لهي اكبر بكثير من مجرد التفكير في القضاء على الفساد والمفسدين او تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية وتعويض المتضررين من آثار سياسات البعث الجائرة بحق شعب كوردستان، وهي في حقيقتها اكبر حتى من ان ينحصر في شخص من يوسم بقائد هذه الحركة اليوم اي السيد( نوشيروان مصطفى) الذي كان الى وقت قريب في الصف الاول والامامي في تنظيم الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي يتزعمه السيد جلال الطالباني، ولكن الذي يسجل لصالحه انه قد استطاع بفعل موقعه وتأثيره في صفوف الجماهير ان يدفعها الى ان يفجر طاقاتها وان يبعث فيها روح التحدي ويجتاز حاجز الخوف والتردد، كما انه قد نجح في وضع اصبعه على اصل الداء والسبب الاصلي من وراء دوافع الفساد وعقلية الاستحواذ على السلطة لاغراض تعزيز الجاه وبالتالي تكنيز المال انشاء الشركات واحياء العقارات، حينما دعا في رسائله الذي كان يبثها يوميا من خلال المؤسسة الاعلامية التي انشأها لخدمة عملية التغير والتأثير في الجماهير اعلاميا مقابل العشرات من القنوات التلفزيونية والوسائل المسموعة والمقروءة للحزبين الحاكمين، حينما اشار الى ان المهمة الاساسية في حركةالتغيير ليس بتبديل الوجوه والطرق والوسائل لخدمة الاهداف الشخصية والحزبية والمناطقية بل ينحصر في العمل الجاد من اجل ادخال اسلوب العمل المؤسساتي الى كافة زوايا الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والى اركان العمل الحزبي والوظيفي والمدني اي الى مجمل الحياة اليومية للانسان الكوردي، الهدف هو العمل الجاد من اجل تحقيق حلم كل من يهمه مصلحة شعبه ويتوق لليوم الذي يرى ان افراد هذا الشعب ينعمون بالرفاهية والامن الاجتماعي ويتطلعون الى مستقبل واعد وزاهر وواثق، ولكن المهمة هذه ليست بنفس سهولة اطلاقها والدعوة لها، لكوننا قد سبق لنا ان سمعناها ونسمعها دوما من افواه قادة الحزبين الحاكمين بمناسبةاو بدونها، اي المهم والجوهري هو كيفية تحقيق هذا الهدف السامي وسط مجتمع ينخره آثار التخريب الوجداني وهو فاقد الثقة بنفسه وامكانياته اضافة الى بروز حقيقة موضوعية قد يمكننا اعتبارها احدى (ثمار) الوضع الجديد بعد سقوط النظام الصدامي الا وهو وجود امكانية نسبية للاستفادة من صناديق الاقتراع و حرية التعبير عن الراي واستخدام هذا الرأي بشكلها المرّكز نهاية كل فترة انتخابية للاقرار وامام صناديق الاقتراع بصلاحية هذه القيادة او ذلك الحزب والسماح له بان يستمر في حكمه وحكومته في اداءه وقيادته، او ان يتنازل طوعيا عن كل هذا ليسلم الراية الى الآخر الذي اختاره الشعب بكل حرية وسلاسة.
صحيح ان حركة التغيير قد خرجت بشكل رئيسي من رحم الاتحاد الوطني الكوردستاني واستمدت قوتها من خروج الكثير من كوادر واعضاء ذلك التنظيم عن طوع القيادة المتمثلة في السيد جلال الطالباني، وصحيح انها بدأت ايضا بشكل رئيسي من مدينة السليمانية واطرافها والتي كانت تعتبر والى يوم قبل الانتخابات معقل الطالباني وحصنه المنيع، ولكن عملية التغيير كمصطلح وهدف للكثيرين من شعب كوردستان بمختلف اتجاهاتهم التنظيمية والفكرية، وهي اوسع مجالا واطارا وعمقا من مجرد ذلك وتلك، فقد يستمر ولفترة غير قصيرة محاولات استنساخ تجربة الاتحاد الوطني وروحية تثقيفه واجندته في داخل هذه الحركة ايضا لان هناك اعضاء لايزالون لم ينسلخوا فكريا او ممارسة من تاثيرات التنظيم الأم وهي عملية ليست بالسهولة التي يعتقده البعض، لان تغيير عقلية منتسبي الاحزاب الشمولية والتي خرجت من رحم النضال الثوري وانتهت الى دكتاتوريات فردية ليس بالامر الهين، وهذا احدى التحديات الكبيرة التي ستواجه هذه الحركة وعليها ان تعمل جاهدا من اجل تسويته وانهاء هذا الصراع الفكري لصالح فكر وفلسفة التغيير التي هي اعمق واشمل من ان يؤطر ضمن اطار مخالفات وممارسات ادارية او مالية خاطئة او تصرف شخصي وذاتي كيفي، انه صراع من اجل سيادة الفكر العلماني الليبرالي الديمقراطي كبديل عن الفكر الشبه الاقطاعي الكهنوتي الكاريزمي والشمولي الذي يقسم المجتمع الى موالين اواعداء، الى جبهتين متضادتين لا تحسم صراعهما الا بالتصفية الجسدية او باتفاق شمولي على تقاسم السلطة والجاه كما هو حاصل فعلا بين الحزبين الحاكمين وخاصة بعد سقوط النظام وتدفق الاموال الخيالية الى خزينة الاقليم، ثم ان التحدي الثاني هو عدم حصر امتداد هذه الحركة ومجال عملها في منطقة معينة (السليمانية) وجزء من( كركوك وكرميان) مثلا، بل يجب ان يمتد شعاعها لتشمل كوردستان كله لان الظواهر في منشأها وبتأثيراتها ونتائجها هي متشابهة في كل ارجاء كوردستان اي حتى في المناطق التي هي تعتبر ضمن نفوذ الديمقراطي الكوردستاني التقليدي (اربيل ودهوك)، فالآمال والآلام هي واحدة لاتختلف كثيرا، كما ان استقطاب الاكثرية الصامتة داخل هذه الحركة اي الذين يعرفون( بالمستقلّين) هي ايضا من المهام الضرورية بل الاساسية من عمل هذه الحركة اذا كانت جادة وتريد المضي قدما لاحداث التغيير بمعنى الكلمة اي توجيه دفة الحياة السياسية في كوردستان صوب مرافئ الديمقراطية الحقة حيث للانسان حقوقا معترف بها والقانون والمجتمع يصون تلك الحقوق بغض النظر عن العمر والجنس و المكانة الاجتماعية والاقتصادية او درجة القرابة والانتماء لهذا الحزب او ذلك المسؤول، والى ان تتبلور معالم هذا التغيير المنشود واتجاهاتها كورديا وعراقيا واقليميا ستكون هناك حتما صراعا كبيرا ستدفع العمل السياسي والديمقراطي في كردستان والمنطقة اشواطا الى الامام شرط ان تلتزم بالخط السلمي والعمل الجماهيري، او تؤدي بالجماهير الى النكوص والتراجع وفقدان الامل في حالة فشلها او انحرافها عن الهدف المعلن والقصد السليم في حالة تكرار الاخطاء واستنساخ الخطوات