فاجأت ثورة الشباب في 25 يناير 2011 القائمين على النظام في مصر، فلم يكن أسعد المتفائلين يتصور أنها سوف تكون بهذا النضج والزخم الكبير الذي اشتعلت به خاصة مع انبثاق يوم quot; جمعة الغضبquot; (28 يناير 2011) الذي تحركت فيها الملايين في مختلف المدن المصرية الكبرى وفي مختلف المحافظات.
جاءت الثورة هذه المرة بشكل شعبي تلقائي، ثورة شبابية نزيهة مائة بالمائة، لم تنتم لإطار حزبي ضيق، ولم تحفل بشعارات العواجيز من الأجيال السابقة، ثورة بلا أساتذة، ولدها الشباب الذي قدم إبداعاته في مواجهة الاستبداد عبر مدونات مواقع الإنترنت، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي الفيس بوك وتويتر ويو تيوب ومكتوب وغيرها من المواقع.
جاءت الثورة هذه المرة بشكل مختلف تماما، ثورة طويلة النفس، وعالية الطموح، فهي لم تأت لتطالب بمعاقبة بعض رؤوس النظام كما كانت ثورات الاحتجاج الكبيرة من قبل الشباب على هزيمة العام 1967، وعلى الفساد الأمني والاستخباراتي، ولم تكن هي ثورة الكعكة الحجرية التي قام بها الطلاب الجامعيون في العام 1972 للمطالبة بمحاربة إسرائيل وتحرير الأرض، ولم تكن ثورة المطالبة بالحد من موجة غلاء الأسعار كما حدث في 18، 19 يناير 1977 بل جاءت ثورة تطالب بإسقاط النظام كليا، وهنا مكمن وجاهة هذه الثورة وتميزها لتصبح بحق أهم ثورة شعبية مصرية في التاريخ المعاصر متماثلة مع ثورتي 1919 و1952 وإن كانت تفوقهما في نوعية مطالبها.

مظاهر الاستبداد:

لقد أسقط في يد النظام بعد قيام هذه الثورة غير المتوقعة، فالنظام كرس لشعار: تنمية، استقرار، وحدة، وتحت هذا الشعار الهلامي الذي جعل البلاد تستقر فعلا لدرجة النوم، واستشراء الفساد، ارتكبت جرائم سياسية ودستورية عدة: أبرزها استمرار النظام لمدة ثلاثين عاما، وتزوير الانتخابات التشريعية، واستمرار العمل بقانون الطوارىء، وزيادة معدلات الفقر، وزيادة مظاهر الاستبداد السياسي والديكتاتورية الظاهرة والمقنعة، ورعاية المفسدين من رجال الأعمال، حتى تمكن أحدهم من احتكار إحدى السلع الأساسية وأسماها:quot; حديد عزquot; .
كانت أية مظاهرة تقوم ولو شارك فيها 100 مواطن مصري أو مائتين، تحاصر بآلاف الجند من جنود الأمن المركزي الذين يتم تدريبهم على مواجهة المظاهرات، وتلقينهم أن من يقومون بهذه المظاهرات هم من الشيوعيين أو العلمانيين المخربين، أو الكفار أعداء الوطن، أو مثيري البلبلة، أو من يعملون وفق أجندات خارجية، خاصة وأن أغلب جنود الأمن المركزي من الأميين الذي لا يقرأون ولا يكتبون، وتبلغ مدة خدمتهم الإلزامية في الشرطة ثلاثة أعوام ونصف العام، ومعظمهم يحصلون على بعض الإجازات الشهرية والأسبوعية مقابل القيام بتقديم خدمات عائلية واجتماعية لضباط الشرطة تتمثل في تقديم أعمال حرفية من نجارة وسباكة وكهرباء ودهانات وشراء السلع والمتطلبات التموينية لعائلات ضباط الشرطة، وأغلب هؤلاء الجنود من الأرياف والقرى البعيدة خارج القاهرة، وهم يعاملون معاملة سيئة أشبه بالاستعباد من قبل ضباط الشرطة. ومن هنا نفسر قوة قمعهم للمتظاهرين حيث يحصلون على مكافآت عبارة عن الحصول على إجازة، أو تصريح بالغياب من الخدمة، ولذلك هم موالون تماما لضباط الشرطة.

صدمة النظام:
تعامل النظام مع ثورة 25 يناير بآليات تقليدية جدا، اعتادت عليها الأنظمة الاستبدادية أولها استخدام الهراوات والعصي الكهربائية، والقنابل المسيلة للدموع، والمطاردات، والمداهمات، واستخدام العربات المدرعة، والرصاص الحي والمطاطي لإرهاب المتظاهرين والمتظاهرات، هذه هي الوسائل التي اعتاد عليها النظام في قمع المظاهرات السلمية وغير السلمية، وكان حبيب العادلي وزير الداخلية يظن ومعه أساطين النظام أن هذه الوسائل سوف تقضي على الثورة الشبابية تماما .. لكن المفاجأة أنهم وجدوا صمودا غير عادي رغم وقوع عشرات القتلى والجرحى، وجدوا روحا جديدة من قبل الثوار لم يعتادوها من قبل، ولم يستطع الضباط والجنود فض المظاهرات التي عمت أنحاء مصر.
فلجأ النظام إلى حيل أخرى تمثلت في التالي:
-أولا: انصراف الضباط والجنود من مواجهة الثورة، وارتداء الملابس المدنية، بحيث يحدث ذلك حالة من الفراغ الأمني، ونشر الإشاعات بحالات البلطجة والسرقات والاغتصاب، فيضطر المتظاهرون للعودة إلى منازلهم لحماية أسرهم.
-ثانيا: إطلاق المسجونين وتهريبهم من السجون المصرية في وسط المدينة (السجن الحربي) و(سجن مدينة نصر) وسجن (طرة) وسجن (أبو زعبل) وسجن (وادي النطرون) وبعض السجون بالمحافظات الأخرى، مع تسليمهم بعض القطع من الأسلحة لمواجهة المتظاهرين، وبث الرعب في قلوبهم، وهذا لم يحدث إلا بشكل بسيط لأن الهارب من السجن لن يذهب مباشرة إلى السرقة أو القتل والترويع، بل يبحث عن مكان للاختباء به أو يبحث عن ذويه وعائلته.
-ثالثا: القيام بتظاهرات مضادة مؤيدة للرئيس مبارك، وإعطاء مكافآت مالية لمن يشارك في هذه التظاهرات، والاحتكاك بالمتظاهرين في ميدان التحرير لإفساد الثورة.
-رابعا: القيام ببعض الإصلاحات الشكلية كتعيين نائب للرئيس، وتشكيل حكومة جديدة، وإقصاء بعض رموز الفساد السياسي والاقتصادي، والدعوة للحوار الوطني.
-خامسا: فرض حصار إعلامي من قبل التليفزيون المصري وتوحيد القنوات المصرية في بث واحد مشترك.
-سادسا: محاولات إعادة الحياة الطبيعية في البلاد وكأن شيئا لم يحدث، حيث يحطب الرئيس، ويلتقي الحكومة المشكلة، ويصدر القرارات، ويعود العمل اليومي، وتعود حركة الشارع.
جاءت هذه الحيل بعد نزول الجيش المصري إلى الشارع، وترحيب المتظاهرين به، على الرغم من أن هذا الجيش هو المساند الأول للنظام على اعتبار أن الرئيس مبارك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية، وبالتالي فإن وجود الجيش لم يأت لحماية المتظاهرين قدر ما جاء لحماية النظام، مع ذلك أعطى حضوره قدرا من الطمأنينة للمتظاهرين الذين تعرضوا لاختبار قاس جدا في مواجهة من حاولوا القضاء على التظاهرات من خلال قنابل المولوتوف والحجارة وراكبي الخيول والجمال.
مع هذه الربكة التقليدية غير الذكية التي حاول النظام إحداثها حيال الثورة، فإن المشاركين فيها في مختلف أنحاء البلاد ما يزالون يصرون على موقفهم بضرورة إسقاط النظام، ورحيل الوجوه المستبدة، وحل مجلسي الشعب والشورى، وإلغاء قانون الطوارىء، ورحيل الرئيس مبارك. على الرغم من هرولة بعض الأحزاب الورقية الكارتونية لإجراء ما يسمى بالحوار الوطني مع نظام تقليدي مرتبك لا يستطيع قراءة تطلعات الشعب المصري وطموحات الشباب.

صور مزيفة:

مشكلة النظام أنه اعتمد في أغلب فترات وجوده على التزييف، وعلى قراءة التقارير المزيفة، فالتسيد غير الطبيعي للحزب الوطني الديمقراطي طوال ثلاثين عاما كان مزيفا، والدعاية الكبيرة للتوريث كانت مزيفة، ومشاركة رجال الأlsquo;مال في السلطة السياسية جاءت بالويلات على أبناء الشعب المصري، حيث حققوا أرباحا طائلة من وجودهم بالسلطة على حساب الشعب المصري، وانتشرت في السنوات الأخيرة قضايا الفساد، وقروض البنوك، والرشاوى، والصفقات الكبرى المربحة، والاستيلاء على أراضي الدولة، من قبل السياسيين، وأقارب الرئيس، والمحافظين، والوزراء، والضباط .
وأصبحت الصورة أكثر مأساوية بعد الانتخابات الأخيرة التي قاطعها معظم الناخبين المصريين، وجاءت النتائج المزورة ليحتل الحزب الوطني أكثر من 90% من مقاعد البرلمان، بوجوه طاعنة في السن لا طاعنة في الحرية.
لقد نجحت الثورة في تعرية نظام مستبد، ربما حقق بعض النجاحات البسيطة، في بعض المجالات، لكنه كرس لثقافة الفساد، والرشوة، وكسر طموحات الشعب المصري في التنمية والعدالة، ولم يقدم الحياة الحرة الكريمة لبسطاء الشعب المصري في الأحياء الشعبية، وفي القرى والنجوع، ومن هنا جاء الشعار القوي ليزلزل تاريخ الاستبداد: الشعب يريد إسقاط النظام.