تميمة إعتراف، قالها بعد حين، عندما لفظته الحانات وغسلت ظله الأرصفة، أنا أعرف أن خطيئتي تقتفي إثر خطاي ووجع كالجمر يتمحور تحت ضلوعي، ليتك تفهمين، يتيم بين الحانات، رأس يتعمد إيقاف تفكيره، مثل طير غريب ينخطف في سكون يثير حوله إضطراباً ويبتعد، لسان مبلل بالكحول، يشتم، وظل ينتهك ثوبي، فأحاول الهرب، كل ما بقي مني، لعنة على طرف لسانك وثمّة صرخة ضغطت أحشاءك في آخر ليلة إحتضار، رحل ورحل ورحل، وها هو يعود ليخرج من جسدها شهقة أخرى.
يترجّل من على صهوة الجبل الأخضر، ليل ماطر يضخ من أنفه رشح الفجر يبلل حواشي النوافذ، تراه يرتدي الضباب، تحتشد في رأسها وجوهه المتعددة، في العينين، دخان، في الأذنين أقراط، ينتشل جسده من سطحها المتبخر، خمس بصمات تمسح الزجاج دروباً تهرب مع الغبش، قطرة تناديه، يخرج صوتها إليه، شعاع فانوس متعب، ياسيدي المطاع... لا تخرج قبل أوانك!..، تتوقف عن الكلام لالشيء إلاّ لأنها شعرت بدبيب يعبر فوق جسدها فتثائبت وحرّكت يديها، أعلى، أسفل، تكسّر البرد في خلايا جلدها، فسال قطرات عفّر ناصية المرآة، يأتيها، تحسّ به رجفة تخضّ بدنها، فتلتذ به، كأي نشاط يسيل مع طراوة لسانها، يهطل نثيثاً دافئاً يجوس صفحات وجهها، رأسها، يتخلل أطرافها، خدر يحتوي كيانها، تنساب أنامله تلامس شفتيها، شحم صدرها، إثنان في الليل، النّفس وما أمرت، هناك، كان البحر الممزوج بالكحل يتمخّض في عينيها موج ولمعان أشرعة، كرة بيضاء، هو ذا الأفق أسفل الرمش المرتجف، أنثى الدرّاج تغطغط، تستدرج عاشقاً يجوس المسافات المدغلة بمخالب سلكية، الصوت يتشظى في تيجان رأسها، يدخل غابتها، يصفق كفيه، جناحين في الريح يداعب هدبيها، ياسيدي المطاع.. كم بقي منك في رحمي؟.
هاهي، يدور لسانها في اللّعاب، لاتدري، أهي مضغة شهوة أم فقاعة ألم، ومثل بقية الأشياء، رفعت رأسها، شيء معلق، عبر نوافذ رسمتها العناكب، ذاب الغبش في قلنسوة البحاّر القطبي، ذراع الساعة يرمح كالمهر المسلوب، تعبق الريح في وجهها رطوبة، إسفلت، وربما خدر وهمي، تلعثم لسانها، تثاقل، جثة في تابوت صندل مكهرب، قرّبت صورتها من وجهه، لم يقبِّلها، لم ينظر في عينيها، تركها خيبة في موقد، فتشظّى غيظاً في عينيها، تراءى لها، كفاه مفروشتان فوق زجاج الصالة المبرقعة بالأضواء، شفتاه ترسمان دوائر ضبابية، إثنان في الليل هي وما بداخلها، وها هو يدخل غرفتها، رذاذ يداعب جلد هرسه الحر، وحلم يتشيّأ بحذاقة ومهارة، يجتاز الباب الموصدة، كنسمة هادئة، لا ينتظر أن تدعوه، لا يتردد، مثل لياليه الفائتة معها، يتجرّد من أشيائه وينخرط بعالمها، يتأنسن مثل هتاف موجوداتها، خفياً، هادئاً، مع شحنات الفجر المتكاثفة تشعر به يتحرّك في شتلات شعرها، تدعوه، فيتكوّر كالطفل الخائف بين يديها، تتنفّسه، ينثال مثل دخان لذيذ في ثيابها، صوت جدّتها وصورة مبخرتها تهتفان في تقاسيم سكون طفل، بين سفوح رئتيها، ينسرب مثل القدر الناعم، يحرك لسانها، يخرج مع أنفاسها، تطلقه شفتاها قبلة دافئة، لهفة دون قيود، ينبعث من عينيها قبس سحريّ، يتوزع حولها، يزرع الفضاءات المعلقة في روحها ألقاً ويؤثث المكان، يزرع وجوده حبيبات رطوبة ودبق فوق مساحات جلدها المحترقة لحظة إبتلاع القمر من قبل كبيرة التنانين، فتسمع هتاف جدتها، أصوات الطبول التائهة تلتمس المارد أن يطلق حلم الطفولات وبدر الصبية المراهقات، محاق العوانس وترتيلة الثكالى، تسمع حشد الترانيم يعبيء رأسها، فتلمح عربات الحجاج تقصد المجرّة المتربة في ليلة الخسوف، تتأمله لحظة صرخته الأولى، شعر أسود، عينان للصبح ترنوان، دم متأكسد، يشرع عائداً في أوردتها، فتخرج المرأة من تحت أغطيتها، دمية ملونة تتذلل بين يديه، لا تسأله من يكون، فيه حلم منها، أو شيء كهذا.
هاهي تناديه، رغم وجوده عندها، سيدي المطاع.. آتية إليك.. أتأرحج بين قناديلك المشتعلة في دربي، كأنك ليل يطويني، لن أرفع طرفي بوجهك بعد اليوم، توسّد جرحي المفتوح في جسدي ونم قرير العين، أدخل دمي وقت تشاء، توّج ليلتك الأخيرة بعرس أناملك في رقبتي، لن أسألك، لن أبوح بسرّك أبداً، رفعت يديها، في قلبها نار، في جسدها نار، الصوت نار، صدى صوت المؤذن يمتزج بصدى أجراس الكنائس، استقبلته كالفجر الرطب بين ضلوعها، أوقفت شهيقها لحظة، إحتوته بصمتها المعهود، لم تتفوّه بكلمة، تركته يغادرها كالحلم العابر، أغمضت عينيها كي لا تراه ينزع جلده في مخدع امرأة أخرى، بقيت ساكنة كالبحر تنصت لإندفاعات أنفاسها المهتاجة لحظة ابتعاده مع السفح المسكوب في قدمي الشاطيء، تدقّ الساعة مرة، مرّتين، فيتحرّك العالم الراكد في أعماقها، عربات هرمة، تنظر إلى حزمة النور المتدفق نحوها، خيوط صفر تائهة تفضح أجساد الشوارع العارية، في إحداها، في جميعها، تكون ذرات رمل يسبيها الموج.
في ساحة المطار، دخان، جسد ملتهب، إنه قادم، الريح وحل متخثر، والأرجل عوّامات متعبة، تمشي بخطىً مترددة صوبه، كأنها تقصد شيئاً ينتمي إليها، فيه ما يشبه جنونها، بين صفّي الأعمدة المشتعلة الرؤوس، كانت تحمل كل حنينها وأثاث أمكنتها المؤدية إليه، تذكّرت جملته التي حددت كل الإتجاهات في عينيها، أنا ألم أشيائي الهادئة من شواطىء روحكِ، حاولت أن تطيل التأمل في تلك الكلمات المكتوبة بقلم الطباشير والطفولة في حدائق لم تزل نائمة جنب جدار الذكريات، بين صفي الأعمدة المشتعلة الرؤوس، كانت تمشي وتحتسي شيئاً من بقاياه، لا تصدر نامة، بلا أرجل كالفراشة تلامس سحنات بدويّة، تتوجّع كطراوة صبح يافع، تخفي فرحاً يتفلّت عصافير نظرات ماسيّة تحلّق في الإمتداد أمامها، تحلم برائحته الآتية معه، تلك الرائحة التي نسجتها بساتين الورد والرياحين في دروب عشق أبدي، تحسست رقبتها لتجد الوعد معلق في سلسلة سابت مع امتداد ضلوعها، لحظات، أعوام، تقف بها الحركة والهواجس، القوائم تعجز عن ملاحقة الجسد الهارب بين القامات، بين التماعات السطوح الملساء، يفتش عنها بين الحشد والتراكم، ينصت، الصوت يأتيه، أنثى الدرّاج تغطغط من جديد، لمحته يثب من دعامة رصيف بارد، يهبط من فانوس متعب معلّق بحافة المئذنة القديمة، يكبِّر، يكبِّر، فتنطفيء فوق شفتها الجمرات الحمر، رذاذ كالدخان يعبر رأسها، يلمس رقبتها، تشهق شهرزاد، لقد انتهت الليلة الأولى بعد الألف، إرتجفت، سوف تسقط أسفل قدميها عرى السلسلة الذهبية التي حملت وعداً بالحياة، تعالى عواء النسوة في المجرّات المجهولة، إنه يوحي لها بخبله بعد انقضاء ليلتها، تنتظر وجعها الأخرس، همست بصوت: إفعل بي ما تشاء!، ثم نثرت في الريح شعرها، القربان ينضح دماً مبتسماً، سوف ترتقي روحي قمة الجبل الأخضر وتقتل غطرسة آخر رجل هناك، وترفع رأسها، لترى كفه المرتعشة تربط السلسلة، تبتسم، يبتسم، يقهقة، تتوجس، يتراجع بين حشد الأعمدة المصلوبة على امتداد الشارع، شبح منبوذ.
في وقت آخر، تتكوّر ضمن شرنقة جسدها، تحاول أن تجد جسدها المتراكم في الزوايا والدهاليز، تقف صامتة جامدة الملامح، يحلّق بين عينيها نورس ضائع، في السقف يتحسس الوطواط قدميه، تدس كفيها في بطانة سترتها، إثنان في الفضاء المفتوح، هي ونظر يتسوّل بين الأجساد، تهبط الطائرة، على وجنتيها يفور الشوق، حبّات عرق صافية، تتابع صليل الأقدام الآتية، فوق تعرجات الممرات الإسمنتية تتكسر نظراتها القلقة، شيء في كيانها مال إلى الركود، يشق صدرها طفل مشاكس، يخترق جلدها خدر بارد، يتدحرج بين الأقدام، بكفها ضغطت كرة بطنها، شعرت بجسده يمزق أغشية الهواء، ويخرج، يتوغل في طبقة الدخان المعلقة بينهما، نفَس يحرك السكون، تزحف نحوها الرؤوس، شظايا موج زائد، هي والصمت يتآلفان، هي والسكون شيئان متلامسان، صوته مشبع بالحنين، تسمعه، لا تسمعه، تتوقع حركة قدميه، إنتصاب رأسه، حفيف الريح المرافقة له، تحيط بطنها بكفّيها، يهبط دخان يغرق تردد الخطى، تدب أناملها فوق جسده، هي أقرب إلى تحديد موقعه في أعماقها، سمعت جدّتها تؤكد لها: دائماً رأسه للأعلى، وأرجله للأسفل، ربما، حدّثت نفسها: سوف يخرج من الخاصرة، تلتفت صوب الشمعة الصغيرة، لم يبق شيء منها، هذا موعده، وانسابت أنامل ناعمة فوق انهيار شعرها، قالت فيما بعد، إنها تعرفه أكثر مما تعرف نفسها.
الأشياء بيادق شطرنجية، ليلة العرس الأخيرة إعلان لتصحّر العشق في مخدع شهريار، والشهوة لن تكون سكيناً بل مواقد جمر، هي والصمت يتآلفان، هي والسكون شيئان شفافيان، كالريح ينزلقان في ثوب الليل، في رأسها مشعل، دخان، وهناك رؤيا، نظارة سوداء تحجب، تظلل صورة العالم الآخر، تنظر إليه، ينظر إليها، يمر كل منهما في جسد الآخر، ينأى منحدراً على سفح الجبل الأخضر، تدعوه، تعلن ولاءها له، ودون أية إلتفاتة منه، يجتاز كيانها المهيّأ لإستقباله، تتوازن على جنبيه حقائب سفر لماّعة، يبحث خلف شباك الأسيجة عن شعر مكور فوق هامة شقراء، حينما شعرت بظلّه موجود حولها، قذفت بأشيائها وباعدت يديها في الريح، حفيف يشخر في أذنيها ودبق الفجر يتكاثف أسفل رقبتها، يسيل بين ثدييها، تميمة موشومة، وتحت الجلد نبض يتنفسه الثوب المبلل، شيئاً فشيئاً، تدس جسدها في غابة الدخان المتأرجحة بين ترسبات رؤيا ضبابية، لا تجد سوى صدر امرأة خاو، وبين إنكماشة جلده المقشر تدفن وجهها، لا تدري من تكون هذه المرأة، هي نفس متعثر ينشج تحت بياض خدها المعروق، يد تمسد شعرها المبرسم شتلات متفرقة، أسفل لسانها تنفقع قطرة مالحة، لمحته، هناك، يترجّل من على صهوة مجدها وينحاز بعيداً كالسراب، تأملته حينما امتطى الموج واستقبل البحر العائد لأحيائه القديمة.
قبل أن يغلق باب غرفتها، مسّد العرّاف ذقنه وجرجر كمّي ثوبه، قالت: بركاتك يا شيخ..، الحال شاهد، أومأ برأسه، فخرجت والدتها مدثرة بعباءة سوداء، يباغت سمعها ضجيج الجسم الأحدب، يثور، ينفجر، يردد، كانت تنظر شحوب وجهه المتقطر حبيبات شفافة ينز من جوفها إكتئاب وضجر، تحس بأطرافه ترفس تجاويفها الداخلية، في تلك الليلة بالذات، حملت جسدها إليه، نادته بالصوت، بالإشارة، بتقديسة العيون، ياسيدي المطاع، كل جزء في يتكلّم، في ظهري جيل منك، هلم إليّ، ومثل ريح الصبا عاد إليها، أتاها متخفياً، هادئاً، خفيفاً كالدخان، ملأ قربة ثوبها، رأسها بين يديه، رأسه إليها يقترب، لم تكن في عينيها حيرة ولا دهشة، في تلك اللحظات جمعتهما ألفة ثارت عبر تداعيات ذاكرة بعيدة، فكشفت جسدها له، تكسّر خجله الطفولي، تحرر من دواخلها، صار ينطق الحروف بلسانها، يصرخ، ثم يختبيء في تموجات شعرها كالريح الهاربة بحبات رمل دقيقة، ساكن كالبحر، فكانت هي والصمت تتآلفان، وكأساور في حلم طويل، أنامله تلد دفئاُ من الأظافر، من البصمات، تبث عجزاً في مفاصلها، ومثل لسعة خفيفة سرقت شفتاه صفاء بشرتها، تمر كالوهج في جسدها، يخترق الطين المتخمر بين يديه، كالدبيب يعبر فوق صدرها المتثائب، تتوقف عن الكلام، تطفوا كالخشبة، تأرجحها أطرافه المنسوجة في جسدها، أنين أو صدى يأتي من إحدى الزوايا، الوطواط يصرصر، يرتفع عند الباب دخان، هذيان، لا يلبث أن يهبط، يتشتت، يذوب في فضاء الغرفة المغلقة.
يتكوّر جسدها تحت لسع البلل الناقع في ثوبها، تشعر بوجوده يشاركها مساحة جلدها المحبب، ينغمس في دفء أغطيتها ويمتزج برائحة سيقانها المتخثرة، رأسه تحت ردائها، تنثال أنفاسه بين طيات جلدها كنثيث الرمل ثم تنسرب في جوفها، نصف مغمضة، نصف نائمة، تدهس راحتاها فراء الأغطية، خمول ينبعث في نهايات أطرافها كالخدر يسري في مناطق جسدها، رذاذ بارد، يقذف نثاراً بوجهها، صفعة خاطفة تنفجر فوق خدها المتجمد للحظة، تصرخ، يمزّق شفتيها صوت هارب، يصرخ العرّاف، يسقط قلب والدتها في قدميها، تتوسل يداه المتشنجتان وهما تجوسان مفاصلها، سيدي المطاع، سيدي المطاع، كالفجر، كالمطر، يذوب في رأسها دخان، رعشة، تنعدم الرؤيا وتمتص الأرصفة ظلال الخطى الملفعة بالغبش الذاهب مع حركة الأجساد، نادته، وضاع صوتها في الوهاد... ليتك تعود، ليتك تعود، خلف النوافذ لم يزل فجر يتبخّر، ضغطت رأسها، فكانت شهقة دخان.

[email protected]