منير بولعيش من طنجة: يعلمنا الإنصات العميق إلى القصيدة، أن أرق الشعراء الأول و هاجسهم (المرضي) الأساس، يتجلى في البحث عبر قصائدهم عن عوالم افتراضية يخلقونها خلقا، عوالم موازية للعالم الذي يعيشونفيه و يجبرون على تحمل تعاسته الأبدية، و بتأملنا لكل التجارب الشعرية الأساسية التي مررنا بها بدءا من شعراء الصعاليك و المتصوفة و الرومانسيين و الأيديولوجيين والسورياليين و الرمزيين... سنجد أنها تبقى رغم مساربها المتنوعة و المختلفة، تبقى في الأخير اجتهادات في درب البحث عن (إيثاكة) ما، عن فضاء لا يسود فيه إلا الحب و الحرية، و حتى إذا ما تأملنا منجز قصيدة التفاصيل التي تبقى الأكثر احتكاكا بالواقع ورصدا لجزئياته الصغيرة سنجدها بشكل أو بآخر لهاث خلف عالم أجمل و هو ما يتمظهر في تقصيها الدائم عن المدهش و المختلف و المفارقhellip; لذا يبقى الشعر بهذا المعنى رحلة أبدية لا تبتغي الوصول، رحلة لا تجد لذاذاتها إلا في الضياع (الإيجابي طبعا) و الذي به تجدد دمها و طاقتها اللامتناهية، لكن و بما أن تشييد عوالم مفترضة جديدة يفترض بالموازي وجود آلية هدم (صريحة أومضمرة) لوصايا و أعراف و ضوابط اجتماعية و سياسية و دينية... لا يكتمل بناء الشعراء الإفتراضي إلا بإلغاءها و بترها و لو على المستوى المجازي الذي يتحرك فيه الأدب عموما.
و إذا ما كنت أسوق هذا الكلام هنا في سياق تناولي لديوان (بواب الذاكرة الفظ) للشاعرة اللبنانية (زينب عساف) الصادر حديثا عن دار النهضة العربية فلكون الديوان و عبر مائة و اثنين و عشرين صفحة يبقى هو الآخر مغامرة في نفس الوجهة، حيث لم تدخر الشاعرة زينب عساف أي جهد في هدم كل ما قد يعترض سبيل قصيدتها في طريق بحثها عن يوتوبيا الحب /الحرية المرتجاة و في رفع و تشييد عمارة عوالمها المجنحة:
على هذا السرير
فرشت من الأحلام
ما يكفي لردم مدينة
و وأد طفلة
لكن التذاكر و وجوه المسافرين
قادتني في الإتجاه الخطأ
اقتربي أيتها القارات العجائز
ألا تشعرين بالبرد ؟

ذاكرتي عمياء و غير لطيفة:

الشعر لا يأتي إلا من المجهول(مجهول الذاكرة تحديدا)، حيث يتقاطع الوعي بالهذايانات و الإستيهامات و الأحلام، و حيث كل شاعر يأكل من مادلين بروست و يتذكر، لذا يأتي ديوان زينب عساف الأخير (بواب الذاكرة الفظ) في نفس السياق الجمالي لينبش في أدغال ذاكرتها بحثا عن متعلقاتها الشخصية، متعلقات طفولتها حيث الأم و الأب و الإخوة و الفستان الأثير، التفاتة للوراء: استرجاعا و ربما استكمالا للسطر الناقص من طفولتها (أستحضر هنا قصائد: أوردة، أقفال، طلقة...) قصائد مشبعة بنوستالجيا الروح تجعل منها الشاعرة زينب عساف متكأ لهز وصايا العشيرة و زعزعة أمانها:(كيف تركت طفولتي و مضيت؟/ كان يمكن لفستاني الأحمر أن يكبر معي /السنوات المتدافعة أبعدتني كثيرا/يجب أن أعود الآن يا طفولتي:/ثمة فرض مدرسي لم أدون اسمي عليه).
و على العموم يتميز الديوان الذي يمكن فصله إلى قسمين، قسم أول تستنجد فيه الشاعرة بشعريتي السرد و التفاصيل الدقيقة و حيث تتجلى مقدرتها في القبض على جزئيات الواقع و الوصول بها أحيانا إلى آفاق من التجريد و الترميز و الإيحاء، و قسم ثان معنون ب(قصائد سريعة) و هي أقرب ما تكون إلى طلقات (شعرية) خاطفة تفرغها زينب عساف في جمجمة العالم و تتميز هي الأخرى بنفسها الشذري القائم على التكثيف و الإيجاز، و من خلال هذين القسمين المختلفين/المؤتلفين يقدم لنا الديوان صورة حقيقية عن الهموم الوجودية التي تشغل الشاعرة و عن العوالم الداخلية للمرأة و انفعالاتها و مزاجيتها و حساسيتها المفرطة تجاه العالم و الأشياء، حيث جاء الديوان تمثيلا للذات الشاعرة في لحظات الصفاء و أيضا في لحظات الغضب و التمرد، مما يجعلنا و على امتداد (بواب الذاكرة الفظ) نشعر بالأداء الشعري الموزع بين الشفافية التي تعكس هوية زينب عساف كشاعرة، و بين نبرة الرفض التي تتمظهر أساسا في نقدها لثقافة القبيلة الذكورية، و سعيها لتصفية حساباتها العالقة معها:( كم أرغب بحرق البنطلونات الرجالية/المعلقة في ذاكرتي).
تتقدم قصيدة زينب عساف شاجبة لمظاهر إفلاس القيم، شاهرة سبابة الإتهام، حاملة (معول) القصيدة تنكش به أس العالم المائل، رافضة لكل مظاهر التشييئ و التسليع التي تسود اليوم، الأمر الذي يفسر رغبتها المتدثرة بين ثنايا الديوان في البحث عن أفق آخر للتنفس.
لننصت إليها في قصيدة (نخبك) و نرى كيف تحتفي ب(الأعالي) و تعدد في نفس الوقت مشاهد و صور الرداءة و البؤس التي تسود صخرة الأرض:
(مساء الخير يا سكان الأعالي
سيداتي الغيمات المشوهات
على الأرض دم لا ينام
و نساء لا يتبرجن
و دعاية ضخمة للكوكاكولا
و شاعر مريض أقفل رئته للتو
في التلفاز صور انفجار
و اللحام يكشط الدم عن بلاط دكانه)
إذن تحضر صورة الأنثى في ديوان (بواب الذاكرة الفظ) و هي ترفض قدرها و تكمل دربها ضاغطة على جرحها الوجودي المضاعف، أقول المضاعف باعتبارها أولا تحمل لعنتها / صليبها الأبدي كامرأة و ثانيا بانتماءها (الروحي) لفضاء لا يأرخ إلا للسواد و الأحزان (أستدل هنا بقصيدة القمر أول النفق التي يمكن اعتبارها توصيفا دقيقا للجرح اللبناني عامة و الجنوبي خاصة)، كما تحضر (أنا الشاعرة) في هذه الأضمومة الشعرية بنفََسها الملحمي المتدفق واضحة و مجلجلة، بحيث لا يمكن لنا تناول هذا المتن و الدخول في مغامرة تأويله و فك أكواده خارج هذه (الأنا) الحاضرة بقوة و المسيطرة على صوت القصيدة و على العالم الخارجي المصطبغ برؤية الشاعرة و بأحاسيسها:
أنا نظرة النساء المنتحرات
اللواتي أضرمن النار في جلابيبهن
اللواتي ابتلعن السم
و متن ببطء حياة طويلة
كثيرة هي القضايا التي تحمّلها زينب عساف في تضاعيف قصيدتها المشحونة برؤية نقدية لعالم السيليكون و مستحضرات العناية و الكوكاكولا... و المحتفية في نفس الوقت بقطع كل الصلات مع تركة الماضي و خروجها الواضح على لحى المعممين و على كل المناهج التعليمية و التربوية الرسمية التي تسعى إلى إفراغ الإنسان من معناه و تجريده من كل قيم الحب و العدالة و المساواة:(يعلموننا في المدارس / كيف نطلي الصمت بكل سخافات اللغة الممكنة / يلوثون صمتنا الأصلي / حقيقتنا الوحيدة)، لكن تبقى قصيدة زينب عساف مع ذلك، قصيدة ترفع ـ رغم قتامة المشهد من حولها ـ من شأن الحب و المحبين، و هو ما يتجلى في أكثر من مقطع و أكثر من قصيدة: (الحب بيت نربيه داخل النافذة / مانعين الغرباء من التلصص عليه).
و إذا كان الطابع الذاتي هو الملمح الأساسي للديوان، فإن ما يثير فيه أيضا هو استحضار أسماء و رموز معاصرة و أخرى تاريخية و أسطورية تتوزع بين مختلف الإتجاهات الفنية و الفكرية و السياسية: (رامبو ـ فريدا كاهلو ـ المعري ـ دانتي ـ شارون ستون ـ سيمون دي بوفوار ـ سارتر ـ هنري ميلر ـ أخيل ـ محمد ـ هتلر ـ نتشه ـ يهوذا ـ المهدي ـ شهرزاد ـ روبن هود) أسماء تترسب في لا وعي الذات الشاعرة التي تعرف كيف توظفها في ثنايا القصائد و تجعلها مكونا أساسيا فيها، تتفاعل معها و تحمّلها أحيانا أفكارها و رؤيتها للعالم و الوجود، و للتدليل على هذا الأمر، أسوق هنا قصيدة (مسام) على سبيل التمثيل لا الحصر:(لم يعجبني إلا المجانين يا هنري ميلر/ أكره الناس الذين يبدون دائما بخير:/مسام نظيفة/ ابتسامات بلهاء/في مصح عقلي شاسع/يمتد/ من نيويورك إلى البقاع).
ربما تتعدد المداخل إلى ديوان الشاعرة زينب عساف (بواب الذاكرة الفظ) بسبب شبكة العلاقات الصريحة و المضمرة التي تنسجها الذات الشاعرة بين خصوصياتها و خصوصيات الفضاء الذي تتحرك فيه و أيضا بينها و بين (الموضوع) بأوجهه المختلفة و المتعددة، و ربما تتعدد التأويلات أيضا بتعدد القراءات، لكن الديوان يبقى في الأخير و من وجهة نظري تمثيل صادق للأنثى في حالاتها النفسية و الوجودية المختلفة، أنثى تراوح بين حالات الرقة و الغضب على كل مظاهر الظلم و التشييئ التي تسود العالم، أنثى تبقى مع ذلك واعية بحدودها و إمكانياتها البشرية الهشة، عاجزة ـ مهما حاولت ـ عن الوصول إلى أسباب التغيير، رغم أنها لم تكتف بدور المشاهد المحايد بل تعدته إلى مستوى النقد و الشجب و الصراخ:
لقد وزعنا الكثير
من بيانات الإحتجاج
و لم نمنع شتاء من القدوم
شطبنا بالحبر وجه الأرض
و لم نغير نهاية واحدة
لقصة واحدة