فينوس فائق خاص بايلاف: إلتقيت الشاعرة التونسية المتألقة لمياء المقددم لأول مرة في نشاط نظمته السفارة العراقية بمناسبة يوم المرأة لهذا العام في الـ 8 من مارت، وقد أعجبني بها تواضعها الراقي وكبرياءها الموزون.. وهاتين صفتين قلما تجتمعان في إنسان واحد.. وهما صفتان تلازمان الشاعرة الشرقية، خصوصاً التي تفتخر بأنوثتها.. وهذا الشيء ايضاً لمسته من خلال قصائدها الجميلة التي ألقتها في ذلك الحفل..
قصيدة (مكاملة هاتفية)

التي تقول فيها
ماذا تعدين للعشاء...
هناك على الضفة الأخرى...
ضفة البدء
الخط الذي فتحته بيني وبينك...
لم يكن للحوار
بل لتسريب رعشتي الباردة إلى موقدك...
هذا المساء سبحت الى البدايات التي غابت في نهاياتها
ولم تعتبر

هذه الكلمات ظلت عالقة في ذهني بعد ذلك لأيام، تحمل معها في مخيلتي ملامح شاعرة من طراز مختلف.. فهي شاعرة ذات طابع خاص، في زمن تختلط فيه المقاييس التي نقيس بها شاعرية الشعراء وخصوصاً عندما يكون الحديث عن الشعر الذي تكتبه المرأة..
تقول عنها الكاتبة والناقدة زينب عساف تصف شعرها بقولها quot;شعر مراق من نوع الماء أو الدمع، إلا أن ماء قصيدتها مخادع، فهو سرعان ما ينساب ليجتمع في قعر ورقي لا يمكن النفاد منه. وعن ديوانها الذي بين ايدينا تقول العساف: قد يتبادر إلينا أن أول ما تتصف به النصوص التي بين أيدينا هو العفوية، وهذا استنتاج صحيح. لكنها عفوية مركّبة، لأن الشاعرة تحاول، ومن داخل هذه العفوية، تفكيك كل شيء بما فيه الكتابة نفسها، من خلال اللجوء إلى التشبيه حيناً..quot;
أما أنا ومن خلال قرائتي للديوان وجدت نفساً شعرياً آخر، لمياء المقدم تخترع لغة أنثوية متميزة تخاطب بها المتلقي من خلال صورها الشعرية، تبني جسورها من النصوص وتهدم ما تبقى من جدارات تفصلنا وتقيم على خراب الجدارات المهدمة أبنية قرمزية من القصائد وتضعها كقلادات في أعناقنا، فتأخذنا إلى حيث هي، بكلمات أخرى لا نقرأ نصوصها حيث نجلس نحن، وإنما تأخذنا على جناحي قصيدتها لتلقي علينا نصوصها..
نصوصها طقوس فريدة تحتوي مفاهيم الغربة والوطن والأمومة والأنوثة والحب والعشق بطريقة عذبة قلما أجد شاعراً نجح مثلها في أن يتلاعب بالأدوات اللغوية بأنامل أنثوية غاية في التقنية الشعرية..
ديوان (بطعم الفاكهة الشتوية) محاولة لكسر الحواجز والموانع التقدليدية التي تفصل المتلقي وتمنعه عن فهم دواخل الشاعر، فهي تفتح أبوابها وتنكشف أمام أمام القاريء بكل جوارحها وبجرأة، لتكشف عن نصوص صادقة مثل صفاء المياه..
بالنسبة لي لم يكن ديواناً مثل كل الدواوين، ربما كان من الدواوين أو أجملها من بين ما قرأتهم عام 2007.. فقد حملتني النصوص على جناحيها لتطوف بي بين دهاليز أفكار شاعرة بصحبة مفردات لغوية وشعرية على بساطتها وشفافيتها تبني جسوراً متينة بينها وبين المتلقي المتذوق.. هكذا بدت لي نصوص لمياء في كتاب بطعم الفاكهة الشتوية.. علاوة على ذلك فهي أثبتت أن أدواة الزينة لا تنحصر في القلادات والأساور وأدوات مكياج الوجه من حمرة شفاه وخدود وماسكارا وما إلى ذلك، وإنما قد تكون النصوص الجميلة أدواة زينة من طراز آخر، نصوص شعرية تزينها بإحساس أنثوي فريد، وهذا بالمناسبة ليس تصنيف أدب لمياء في ما تسمى بالأدب النسوي، لأنه وفي إعتقادي ليس هناك وجود لأدب بإسم الأدب النسوي، ولكي لا أظلم لمياء الشاعرة البدعة أصنفها على أنها من الشاعرات التي تحجز لها مكانة أدبية مرموقة على ساحة الأدب الإنساني الشامل، وهي بذلك تثبت أن الأدب إنساني بكل ما يحمله من معاني إنسانية كبيرة..
أبهرتني وهي تقول:
بم اكتفي منك
وأنت المهاجر في حواسي دون توقف
أشمك من دون أن أراك
و أراك من دون أن ألمسك
وألمسك من دون أن أحسك
وأحسك من دون أن أسمعك
وأسمعك من دون أن تكون
هل أنت كائن فعلاً
أم أنني من خلقك لتبديد وحدتي واحتياجاتي الكثيرة
بم أكتفي منك
وهل يكتفي الظل من ظله بشيء
هل أصبك كحنيني على آخر قطرة في نص قادم
أم أنني وقتها أنهي موهبتي على يديك
جدول أوقاتي وزعته بين حضورك وغيابك
بالتساوي
إن كنت حاضراً أعيشك
وإن كنت غائباً أكتبك
ولا فرق حتماً
بين أن أنام على صدرك أو تنام على كراسي
حين يكون وجودك أو غيابك
كلاهما شرط جزائي لاكتمالي

إنها تحقق معادلة الحضور والغياب داخل جسد نص حزين حد البهجة وفرح حد الزجع، إنها ملاطفة رقيقة للمعنى وصولاً إلى بلوغ اللانهاية في المشاعر رغم الغياب وبدون الحضور..
هذا التضاد والإنسجام المفعم بالأنوثة والملغوم بالحنين، هذا التناسق في المعنى بين ماهو غائب وماهو في المتناول، بين ماهو كائن حقيقي وما هو غير حقيقي، توافق وتقاطع بين الحضور والغياب في آن واحد.. إنه خيال خصب تنتقل فيه المعاني بين صور شعرية فينتقي ما يخدم الحالة الشعرية ويشدنا إلى حيث تريدنا لمياء أن نكون، كعادتها..
يقول عنها جهاد الترك الكاتب والناقد الأدبي، quot;تنتقل لمياء المقدم من هذا النص إلى ذاك وفي ظنها أن تستكمل ما فاتها في الاثنين معاً، لتذهب بعد ذلك إلى ثالث ورابع وخامس. والأرجح انها تتعمد أن تفعل ذلك على نحو من التجريب الذي لا يخلو من خطورة البحث الصعب عن الصورة الأكثر تعبيراً عن طبيعة الأشياء وهي تتحول من بعد إلى آخر.quot;
فعلى هذا النحو تطل علينا الشاعرة المبدعة لمياء المقدم هذا المساء من خلال باكورة مؤلفاتها لتقول لنا بلغة الفاكهة وطعم الشعر ومذاق الأدب وبحلتها اللغوية الراقية وتقدم لنا مشروعها الأدبي الأول وهو ديوانها (بطعم الفكهة الشتوية) الذي صدر عن دار النهضة في بيروت..
مبروك لمياء على هذا المولود الجديد إذا جاز لي أن اسميه، وإلى نتاجات غزيرة أخرى وإبداعات أكثر، دمت شاعرة، دمت لمياء المتألقة..