تواصلاً مع مقالتي السابقة والمعنونة بـ quot; الإبداع الروائي والتقنية الرقمية quot; أعود هنا لأبدأ من ذات الإشكالية التي مازالت على مايبدو غامضة وغير معرّفة بالدرجة الكافية، الإشكالية هي التمييز بين الإبداع الأدبي كمنتج معرفي خاضع لآليات فكرية متعددة مثل التأسيس، التحليل، الإستنطاق، التأويل، وبين حالة الإسقاط التدويني التي تمثل المنتج الأدبي في بنيته الفلسفية والشكلية الأخيرة، أي الشكل الأدبي للنص بعد ولادته من الحاضنة الفكرية المثيرة ألا وهي العقل. هنا وفي هذه المرحلة نجد أن المنتج الأدبي يكون مهيئأً للتداول في المرحلة اللاحقة، أي المرحلة التدوينية التي تؤثث المنتج من خلال الأدوات الإخراجية، وحقيقة حدوث اللبس التأويلي تكمن في الغموض الذي يكتنف منطقة التمييز بين الإبداع كطاقة فكرية خلاّقة تبثها الماكنة الفكرية وبين أداة التدوين المتمثلة بالطباعة بمحتلف أشكالها.

وإذا ما تمكناّ من إضاءة المناطق المحيطة بمفردة الإبداع الأدبي بمعزل عن أدواته نكون قد أسسنا لفهم ما تعنية الأدوات الرقمية الجديدة التي أدخلت لحقل الإبداع الأدبي كبديل غير مقنع خصوصاً إذا ما حاولنا أن نعرّف الأدب الحديث أو أدب الحداثة وفقاَ للتصور الآني، فالكثير من الدارسين والنقّاد يتناولون مفردة الحداثة الأدبية على أنها الإستحالة التالية لإرهاصات مابعد البنيوية والتفكيكية إذا ما اعتبرنا أن هذين النظريتين هما المحرض الأساسي لإنطلاق وتشكيل مصطلحي الحداثة ومابعد الحداثة، ولم يتم التطرّق أو حتى التنويه إلى ما تعنية الأدوات التدوينية بمختلف أطوارها وتقنياتها في تفنيد صور الحداثة في النص الأدبي. من هنا علينا أن نواجه مفردة الأدب الرقمي على أنها مفردة غير دقيقة وفيها الكثير من الظلم للنص الإبداعي، لأنها تحيل الجزء الأكبر من طاقة وملكات المبدع للأداة التدوينية، وتعطي مفتاح الإبداع لأدوات جاهلة يتم تسييرها وفق لغة برمجية معدّة سلفاً ولايمكنها بأي شكل من الأشكال أن تجوس ذلك التوقد الفكري الممزوج بالإنثيال الشعوري الذي تختزنه الحاضنة الفكرية الأم.

ثمة إشكالية أخرى في تبنّي الأدب الرقمي على أنّه هو الوريث الجديد للأدب الورقي، الإشكالية هنا في التسمية، فالأدب الرقمي والأدب الورقي هما تسميتان لحالة واحدة، ألا وهي حالة الأدب، المختلف هنا هي الأداة، وفي كلا الأداتين يتأكد الدور التدويني، ومثلما أشرت في بداية المقالة فإن الحالة التدوينية هي حالة ساندة للحالة الإبداعية ولايمكن إعتبارها جزء أو مكون بنائي في العملية المعرفية المتمثلة بالمنتج الأدبي، نعم العملية التدوينية تساهم في صياغة الأطر الجمالية للمنتج الأدبي إنما لاتساهم في تشكيل الروح الإبداعية للمنتج الأدبي، فالكثير من الكتّاب ممن يجيدون استخدام التقنيات الرقمية العالية التأثير يمكنهم خلق نصوص أدبية مثيرة وملفتة من خلال الأداة التدوينية الجديدة، إنما السؤال هو: هل يمكن لهؤلاء الكتاّب أن ينتجوا إبداعاً أدبياً خالصاً من خلال تلك الأدوات الرقمية؟

لايمكن إختصار مايقال عن الأدب الرقمي بهذه السطور القليلة، فالكثير من الكتاب الّذين وجدوا في بوابة الإنترنت نافذة لتدوين نصوصهم مازالوا يجهلون التمييز بين حقيقة المنتج الأدبي من الناحية الإبداعية وبين حقيقته من الناحية التدوينية، ومازال الكثير من الكلام عن حقيقة الإبداع الأدبي وعلاقته بالإبداع الرقمي، فالإبداع الرقمي حقيقة واقعة وملموسة مثلما هي حقيقة الإبداع الأدبي، إنما لها ميزاتها وجغرافيتها التي تتمركز على الذكاء الإصطناعي، فهل يمكننا اعتبار الفلم السينمائي المبني وفق أحدث الأدوات الرقمية الإخراجية والذي يتناول مجرد حكاية بسيطة أو حادثة يومية رواها عامل بسيط يعمل في البلدية أو في مكتب البريد على أنها إبداع أدبي رقمي؟ نعم هي تندرج ضمن حقل الإبداع السينمائي الذي هو الآخر يتوخى البذرة الأساسية في موهبة المخرج وليس الأداة. فالكثير من الأفلام الحديثة المنتجة في ستوديوهات مدينة السينما العالمية هوليود تراجعت أمام أفلام أنتجت في أوربا أو أمريكا الجنوبية أو الهند وبأدواة إخراجية لاتضاهي أدوات هوليود، ترى أين دور التقنية هنا!، التقنية لاتضاهي الإبداع، فالإبداع حالة تنوير فكري ومعرفي تسبق الكينونة التدوينية، وتسمية الأدب الرقمي إذا فهمت على أنّها مجرّد تسمية أفرزتها حالة التدوين يمكن إعتبارها تسمية مناسبة ضمن تلك الحدود أما إذا تم تداولها على أنّها حالة حداثية في هرم العملية الإبداعية فعلينا أن نستهلك الكثير من الوقت لفهم العملية الإبداعية بحد ذاتها.


[email protected]