الحقائق الأربع لسنة لم تكن كالأخريات

كامل الشيرازي من الجزائر: كانت الجزائر على مدار عام كامل quot;عاصمة للثقافة العربيةquot;، وراهنت السلطات هناك على استعادة رونق الموروث الثقافي واستدراج منمنمات التاريخ، لعرض بواباتها أمام الأشقاء العرب على درب استكشاف الوجه الآخر لجزائر الآثار والعمق الحضاري، وساهمت التظاهرة في تحقيق حراك ثقافي لم تعهده الجزائر منذ استقلالها قبل 46 سنة، حتى وإن انطبعت النشاطات القياسية التي شهدتها السنة بثمة نقاط ضعف ونقائص لها تبريراتها، لكن هل تحققت الوثبة الفنية والثقافية المرجوة؟ وعلى مبعدة ساعات قليلة على إسدال الستار على هذه التظاهرة، ليلة الاثنين، واستلام دمشق الشاهد، ارتأت quot;إيلافquot; إجراء تقييم عام لما طبع هذه السنة الثقافية الأولى من نوعها في الجزائر، ومساءلة أهل الاختصاص من كتاب وباحثين وفنانين وشعراء، فكانت هذه الحوصلة:

طبع ألف كتاب خلال عام
شهدت التظاهرة مشاركة 15 دولة عربية، وكانت فرصة للجزائريين ككل ولفئة الشباب بشكل خاص لاكتشاف التراث الثقافي لبلادهم والتعرف على خصوصيات العاصمة الأولى للفكر الإسلامي (مالك بن نبي ومحمد أركون...) والرواية (محمد ديب، آسيا جبار، الطاهر وطار، رشيد بوجدرة، واسيني الأعرج، أحلام مستغانمي، مليكة مقدم..)، تماما مثل بقية البلدان العربية الأخرى المشاركة والتي تمكنت من مد جسور التواصل مع الثقافة الجزائرية.
وشكلت المناسبة ثورة ثقافية ndash; على الورق- للنهوض بواقع راكد، بإقدام الجزائر على طبع 1008 كتاب جديد بمعدل وصل ثلاثة ملايين نسخة بينها 600 كتاب كلاسيكي لكتاب جزائريين وأجانب، بينها 90 ترجمة لروائع الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، إضافة إلى إصدار 40 عنوانا لكتب فاخرة عن المدن الجزائرية، وإعادة طبع بعض المؤلفات العربية المشهورة، أما باقي الكتب فتوزعت بين مائة كتاب فني ومائتي كتاب للأطفال -، ناهيك عن مسابقات أجريت على مستوى المحافظات الـ48، إضافة إلى تقديم 50 قافلة مكتبية متنقلة تجولت عبر المحافظات، وهو ما سمح بإعادة الدفء للعلاقة بين القارئ وأعمال كتاب جزائريين مثل رشيد بوجدرة ومرزاق بقطاش وعبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار وجيلالي خلاص ومفدي زكرياء وياسمينة خضرا والشيخ بن شنب وعبد الرحمان الجيلالي وأبو العيد دودو ومصطفى فاسي ومحمد ديب ومصطفى الأشرف وغيرهم.
وفي سابقة أدبية لم تشهدها العواصم الثقافية العربية التي نظمت من قبل، أسست التظاهرة أيضا لـquot;الإقامات الإبداعيةquot;، حيث جرى تنظيم نحو 30 إقامة إبداعية عربيةquot;، وهي توليفة فريدة من نوعها جمعت عشرات الشعراء المبدعين من الجزائر، سوريا، لبنان، اليمن، العراق، البحرين، مصر، ليبيا، المغرب، وتونس، واختصت بالاشتغال على نصوص شعرية بألوانها العمودية والنثرية والشعبية وكذا قصيدة التفعيلة، على درب تفعيل سياق ثقافي عربي مشترك، وتوّجت المبادرة بطبع دواوين شعرية مشتركة، فضلا عن عقد quot;ليالي الشعر العربيquot;، وملتقى الكتاب العرب في المهجر.

أب الفنون.. الحاضر الذي كان غائبا
المسرح الجزائري بأعلامه الكبار كمحي الدين باشتارزي وعبد الرحمان كاكي ومصطفى كاتب ورشيد قسنطيني وكاتب ياسين، ومدارسه (القلعة) و(القوّال)، استعاد العام الماضي بريق زمن الحكواتي وquot;الجراجوزquot; أو العين السوداء باللغة التركية التي ظهرت أثناء الحكم العثماني للجزائر، ورائعة ابراهام دانينوس (نزهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة الترياق في العراق) وهو أول نص درامي جزائري عربي نشر على الطباعة الحجرية في 1847 بمدينة الجزائر.
واقترح القائمون على تطبيقات أب الفنون نحو 45 عملا مسرحيا، إلى جانب تظاهرات نقدية حول راهن وأفق الفن الرابع في الجزائر والوطن العربي، مع الإشارة إلى تنظيم مهرجان عربي للمسرح المحترف، لكنه بعيدا عن الكم، لم يحضر النوع، ولم تكن الأعمال المسرحية المقترحة لترتفع بالأداء الركحي العام، ما جعل المسرح تائها في خضم التظاهرة وحوّله إلى حاضر برتبة غائب.
كما جرى تنظيم 16 معرضا حول التراث والتقاليد الجزائرية والعربية، فتمّ تسليط الأضواء على الآثار الرومانية بتيمقاد، وقصبة العثمانيين، فضلا عن كقلعة الحماديين ومغارة بني عاد وحظيرة الهقار والطاسيلي، إضافة إلى مغارة ابن خلدون، التي كتب بها العلامة الشهير رائعته في فلسفة التاريخ quot;المقدمةquot; بقرية بني سلامة في محافظة تيارت، من خلال ملتقيات حول التاريخ والأنثروبولوجيا من بينها ثلاثة معارض كبرى، الأول عن العلامة ابن خلدون، والثاني يتمثل في معرض العصر الذهبي للعلوم العربية، وآخر عرّف بالفلكلور المحلي من قبائلي وشاوي وتارقي ونايلي، وهي مجموعات إثنية أصيلة في البلاد.

الموسيقى.. المنمنمات وأشياء أخرى
ذاكرة الجزائر الفنية المنطبعة بآلة ''الموندولين''، وquot;الجوقة البسطانجيةquot; منذ ثلاثينيات القرن الماضي، والتي أنجبت مطربيها الشعبيين على غرار محمد العنقى والهاشمي قروابي واعمر الزاهي وكذا مغنيي الراي والراب، وكذا عميد فن المالوف quot; الشيخ عبد القادر التومي quot; أحد كبار تجليات الموسيقى الأندلسية عبر العالم، كانت قبلة للموسيقى العربية، من خلال ما يزيد عن 15 مهرجانا موسيقيا و11 لوحة إبداعية في الرقص والكوريغرافيا.
من جهتها، كانت الفنون التشكيلية حاضرة عبر عبر 21 معرضا تناولت الفن والثورة الجزائرية، انطلاقا من فناني المنمنمات محمد وعمر راسم، فضلا عن الرسامين الإنطباعيين محمد إسياخم وباية، وصولا إلى الفن التشكيلي الجزائري عبر مختلف الأجيال، إضافة إلى معرض quot;المستشرقونquot; الذي أبرز أثر الجزائر في إلهام فنانين عالميين على غرار quot;ديلاكرواquot; في لوحته الخالدة quot;نساء الجزائرquot;، والأديب الإسباني دون كيخوت.

سينما عانقت أمجاد الماضي
بإنجازها 44 فيلما طويلا وقصيرا، تمكنت السينما الجزائرية خلال سنة 2007، من معانقة أمجاد ماضي الفن السابع الجزائري، وما حققه المخرج الجزائري quot;لخضر حمينةquot; الذي نال اليوبيل الذهبي في مهرجان كان 1967 عن رائعته (وقائع سنين الجمر)، وكذا أحمد راشدي بفيلمه (الطاحونة) الذي اشترك فيه الفنان عزت العلايلي والنجمة ماجدة الرومي، والمخرج عمار العسكري بأفلامه الثورية وأجودها (دورية نحو الشرق)، إضافة إلى الراحل جمال فزاز وكذا سيد علي كويرات، سيد أحمد أقومي، والمخرجة يمينة شويخ التي نالت جائزة خاصة في مهرجان كان 2002 عن فيلمها (رشيدة).
وتصدّر لائحة الأفلام التي انتجت أو هي في طريقها للتجسيد، فيلم quot;أسد الأوراسquot; لأحمد راشدي، والدراما التاريخية quot;يوغرطةquot; للمخرج بختي بن عمر، ناهيك عن quot;الأندلسquot; لمحمد شويخ quot;، كما تمّ تنظيم عديد الأسابيع السينمائية العربية على مدار أشهر السنة الماضية، إضافة إلى المهرجان الدولي الأول للفيلم العربي الذي احتضنته محافظة وهران (400 كلم غرب)، الصائفة المنقضية. بالمقابل خاب رهان الجزائر بإنجاز فيلم ضخم حول رمزها الخالد quot;الأمير عبد القادرquot;، وتأجل المشروع إلى أجل غير مسمى.

ديمومة الاستثمار الثقافي.. ورياح الانتقاد
تعهدّت وزيرة الثقافة الجزائرية quot;خليدة توميquot;، باستكمال الحركية الثقافية بعد اختتام التظاهرة، وأوعزت أنّه سيعاد بعث مشروع الألف كتاب وكتاب خلال العام 2008.
ورغم انتقادات كثير من المثقفين والفنانين لحصيلة السنة، فإنّ تومي ترى إنّ ما شهدته احتفاليةquot;الثقافة العربيةquot; هو بحسبهاquot;انتصار للثقافة والاقتصاد معاquot;، لكنها أحجمت عن ذكر قيمة الغلاف المالي الذي رصد للمحفل، وقالت الوزيرة إنّها تراهن على مواصلة الحراك الثقافي في بلادها لخمس سنوات مقبلة، بما ينهي إشكالات الكتاب في الجزائر، على حدّ تعبيرها.
وعبّرت المسؤولة ذاتها، عن رضاها التام بما حققته التظاهرة الثقافية العربية، ورأت أنّها أسست لفعل ثقافي حقيقي سيتواصل خلال السنوات القادمة، مشيرة إلى معارض للفن التشكيلي وأخرى مسرحية وسينمائية ستتواصل إلى غاية شهر مارس/آذار المقبل.
من جهتهم، يتصور المنظمون إنّ التظاهرة أسست لاستثمار ثقافي بعيد المدى، ويؤكدون اعتزامهم الاستمرار في تحقيق منجزات ضحمة في آفاق السنوات القادمة، والنسج على منوال السنة الماضية، حتى تستمر الجزائر مشعة كإحدى أهم العواصم الثقافية العربية والمتوسطية.
وإذا كان المستشار بوزارة الثقافة الجزائرية quot;نور الدين عثمانيquot; يحمّل مسؤولية الاختلالات الحاصلة للمثقفين الجزائريين الذين تقوقعوا على أنفسهم، وفضلوا الانسحاب، فإنّه يجزم أنّ التظاهرة الجزائرية كانت من بين quot;أنجحquot; التظاهرات المنظمة على مدار الأعوام الماضية، على طرف نقيض، تذهب أصوات فنانين ومبدعين إلى اعتبار السنة quot;كارثيةquot; بهذا الصدد، حيث ذكر قطاع من هؤلاء إنّ السنة لا يمكن اعتبارها إنجازا quot;مريخياquot; على حد تعبيرهم، لأنها لم تغير من واقع الأشياء، ويقدّر المخرج السينمائي الجزائري quot;بلقاسم واحديquot;، إنّه quot;لم يتغير شيء في هذه السنةquot;، معتقدا أنّ الحصيلة هزيلة، وليست الأرقام الفلكية والدعاية الحكومية من سيزركش حقائق يدركها الجزائريون قبل غيرهم.
من جانبه، يشدّد نجم التمثيل الجزائري quot;عبد النور شلوشquot;، إنّ ''السنة كارثية.. والجو الفني طبعه نوع من الارتباك والارتجال''، وتؤيده المغنية quot;نعيمة عبابسةquot; بقولها:quot;لم نسجل أي جديد في المجال الغنائيquot;، فعدا ما جرى اجتراره، لم تلاحظ أي ابتكار، على حد تعبيرها، وعلى المنوال ذاته، ينسج الأديب والباحث السميولوجي quot;سعيد بوطاجينquot;، السعيد بوطاجين، الذي يلاحظ إنّ ''التظاهرة ارتبكت لغياب استراتيجية ثقافية جادة''، ويطرح إشكالية الامتداد لما بعد السنة، ويثير أيضا مشكلات التأطير والبرمجة وكذا نوعية الضيوف الذين استوعبتهم التظاهرة بينما همشت النخب وجعلتهم في خانة المتابعين لا أكثر.
بالمقابل، استحسن فريق آخر من المثقفين، نتاج التظاهرة، بهذا الشأن، يشيد الروائي الجزائري الطاهر وطار، بتمكن عرّابي الاحتفالية من ربط الصلة الروحية بين الجزائر والعرب، كما يثمّن تجسيد مجمل البرامج وانتعاش حركة التأليف والترجمة والممارسة الركحية والسينمائية والتشكيلية.
وتشاطر الوزيرة السابقة والأديبة quot;زهور ونيسيquot; رأي وطار، من حيث الجزائر أصابت في تسيير أول تجربة ثقافية باقتدار، لكنها تهيب بالفاعلين لتسطير سياسة ثقافية واضحة تواكب الأحداث، وتستمد عنفوانها من التراث الثقافي العربي الإسلامي الجزائري، بإحيائه ونفض الغبار عنه.
ولا يخفي الشاعر الجزائري quot;الحبيب السائحquot; قلقه لمآلات السنة، فهو إذ يهمّن بأنّ التظاهرة لم تخلّف سوى الكتب، فإنّه يبدي جزعا مضاعفا لكون عام الثقافة العربية لم يكن له صدى محسوس في المخيال الجمعي الجزائري، تبعا لعجز التظاهرة عن إحداق أي رجة في صدور الجزائريين، ما أفرز شعورا مدميا بالإفلاس والهواء الثقافي.

دمشق تستلم الشاهد
بعد اختتام العرس الثقافي العربي بالجزائر، ستستلم دمشق الشاهد عبر افتتاحها سنة عربية بطعم متجدد في 19 من الشهر الجاري. وتعود فكرة quot; العواصم الثقافية العربية quot; إلى المؤتمر الذي عقدته منظمة الأمم المتحدة بالمكسيك العام 1982، وتناول وقتئذ السياسات الثقافية في القارات الخمس، وأقرّ المؤتمر في إعلانه الختامي quot;العقد العالمي للتنمية الثقافيةquot; الذي اعتمدته اليونسكو أربع سنوات من بعد بعد تبنيه من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثامن ديسمبر 1986.
هذا العقد الذي شهد طرح أكثر من ألف ومائتين مشروعاً، كان من ثمراته الأبرز ظهور quot; برنامج العواصم الثقافية الإقليمية quot; الذي انطلق أوروبياً، ثم استجابت له المنطقة العربية بعد ذلك، إثر مبادرة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بالتنسيق مع الدول الأعضاء وبالتعاون مع خبراء الوطن العربي، بالعمل على إعداد وثيقة تتضمن العقد العربي للتنمية الثقافية وهو خطة ثقافية عربية شاملة تم عرضها سنة 1985 على مؤتمر وزراء الثقافة العرب.
تجربة العواصم الثقافية العربية انطلقت في الوطن العربي بإعلان القاهرة عاصمة للثقافة العربية عام 1996، وتونس عام 1997، وتواصلت هذه التجربة لتشمل مدينة الشارقة عام 1998، ثم مدينة بيروت عام 1999، قبل أن تتولى مدينة الرياض (المملكة العربية السعودية) ومدينة الكويت (دولة الكويت) - مدينة عمان (المملكة الأردنية الهاشمية) - مدينة الرباط (المملكة المغربية)- مدينة صنعاء (الجمهورية اليمنية)- مدينة الخرطوم (جمهورية السودان) ومدينة مسقط (سلطنة عمان) على احتضان القفافة العربية على مدار السنوات السبع المنقضية.
يشار إلى أنّ مؤتمر وزراء الثقافة العرب في دورته الحادية عشرة المنعقد بالشارقة يومي 21-22 نوفمبر 1998، أقرّ مشروع العقد العربي للتنمية الثقافية الذي قدمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بحيث يغطي العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين (2000/2009).