جواد سليم الحاضر في المشهد العراقي

47 عاما على رحيله

عبد الجبار العتابي من بغداد: بين 23 كانون الثاني / يناير عام 1961، و23 كانون الثاني / يناير 2008، يمتد رحيل الفنان التشكيلي العراقي الخالد جواد سليم، على مسافة مقدارها (47) عاما، ليست قليلة في قراءة اوراق الزمن، لكننا لن نبحث عن صاحب الذكرى، بل اننا نراه شاخصا امام اعيننا، نتأمل وجهه ونقرأ في ملامحه حكايات من آلاف الايام العراقية التي تمر، ونتهجى كل يوم حروف ما صنعته يده، مثلما نتلفظ اسمه على غير العادة العراقية التي تضع حرف الالف المكسورة امام اسم (جواد) فيلفظ (اجواد) بل انه ظل فصيحا (جَواد) بفتح الجيم ومميزا في لفظه، انه اذن جواد سليم الذي جادت به الارض العراقية وكان جوادا كريما ووفيا لها، مازال يلوح للناس بعبقريته ويذود عن حضارة بلده، ما زال يرفع افكاره الجميلة لتحلق مثل طيورحمام الزاجل في سموات العراق، نحتا ورسما، ما زالت (بغدادياته) حاضرة تتألق بألوانها معبرة عن مكنونات البيئة البغدادية وهي تغني تارة وتقرأ المقام العراقي، وتارة تتأملنا هي بتلك البراءة التي هي فيها لتترسح في وجداننا، جواد سليم في ذكراه لا نجد بدا من الالتفات الى نصبه الخالد الذي يرتفع في بقعة مهمة من بغداد (الباب الشرقي) التي كانت في الاصل (باب كلواذى) البابلية، هذا النصب الذي لا يمر منه احد الا ورفع رأسه اليه، ولا عبره احد الا وكحل عينيه بتلك الملامح الثابتة المتحركة للشخصيات المجسدة من برونز، ولا يمكن لمن يعبر من الجهة الاخرى لجسر الجمهورية الا وغطى فضاء الطريق امامه،نطل عليه ونتطلع بذلك الشغف الجميل المستلهم الى النصب ونرى اجزاءه تتحرك متناغمة مع بعضها في عزف جماعي مترابط، يسمعه بحسه اي عابر مهما كان مختلفا في وعيه وثقافته، لان العنوان يوحي والدلالات تعطي لمحة من تفاصيل، والاجمل ان النصب على الدوام تزوره العصافير وطيور الحمام كأنها تنسحم مع حكاياته(النصب يبدأ من الوسط اي المركز ليعبر عن السجين السياسي وعنفوان الثورة ثم ينتقل البصر الى اليسار ليعبر عن مكاسب الثورة ومنجزاتها، اما الجانب الاخر فهو مكرس لسرد تاريخ المجتمع العراقي ونضاله المستمر ضد قوى الظلم) لاسيما انه يتحدث عن ثورة (14) تموز 1958، (فالجدارية بعرض 50 متراً وارتفاع 8 امتار وهذا رمز لسنة الثورة 1958 وان عدد قطع النصب 14 قطعة وهذا اشارة الى 14 تموز وارتفاعه عن الارض، كما ان ارتفاع الافريز النحتي عن الارض يساوي 8 امتار وان عرض الافريز 6 امتار في اشارة اخرى الى الرقم 14).
جواد.. حين انظر النصب يجعلني اتذكر جملة قالها في افتتاح المعرض الاول لجماعة بغداد للفن الحديث عام 1951: (إن الفنان يتابع ما يجري حو له و يعبر عنه بأخلاص، و لكن عليه أن يعرف كيف يحقق هذا التعبير)، انه كان هكذا، تابع ما جرى حوله وعبر عنه باخلاص وعرف كيف يحققه لتظل صورته خالدة، وايضا اتذكر جملة قالها في ذات المكان: (والان قبل أن انسى احب ان اذكركم بجملة تتردد على ألسنة كثيرة: (يابه دجوز احنا نريد ناكل خبز)، جملة باللهجة العامية تعبيرا عن ان الفن لايصنع خبزا ولايشبع بطنا، وانه خزعبلات لاتقدم ولاتؤخر، تذكرتها وانا اقف امام النصب الخالد واعاين رموزه، وما زالت الكلمة تتردد في الارجاء وتنتج جهلا يكاد يمنعنا من التأمل والانطلاق في آفاق الحضارة الانسانية، فقلت: لقد اكل الاخرون خبزا ولكن جواد (ماجاز) وظل يعمل وها انت ايها النصب خبز جواد (الحار والمكسب) دائما.
جواد سليم الذي ولد عام1921 في انقرة لابوين عراقيين كانت عائلته تشتهر بالرسم فقد كان والده الحاج سليم واخوانه سعاد ونزار ونزيهة فنانين تشكيليين، لذلك كان قد تعلم الرسم وتتلمذ فط عليه نشاطات هؤلاء الفنانين، وتبلورت عبقريته منها، فنال وهو بعمر 11عاما الجائزة الفضية في النحت في اول معرض للفنون اقيم في بغداد سنة 1931، وواصل شغفه حتى اذا بلغ الثامنة عشرة من عمره ارسل في بعثة الى باريس (عام 1938)، وبعد اندلاع الحرب العالمية الاولى ذهب الى روما ثم عاد الى بغداد وعمل مدرسا للنحت في معهد الفنون الجميلة كما عمل مرمما للتحف الاشورية والسومرية، وفي شتاء 1942 ألتقي بمجموعة من الفنانين البولونيين اللاجئين الى العراق باحثا معهم اساليب الفن الحديث فأنجز عام 1945 منحوتته (البناء)، وواصل دراستة الفنية في انكلترا على يد هنري مور، وفي اواخر 1949 يعود الى العراق بصحبة زوجتة الفنانة لورنا سليم للتدريس في معهد الفنون الجميلة ويؤسس قسم النحت فيه وفي عام 1951 أسس (جماعة بغداد للفن الحديث) مع نخبة من الرسامين والنحاتين والمعماريين والكتاب والمنظرين، وفاز نصبه (السجين السياسي المجهول) بالجائزة الثانية في مسابقة نحت عالمية وكان المشرك الوحيد من الشرق الاوسط وتحتفظ الامم المتحدة لمصغر من البرونز لهذا النصب، وعام 1954 يلبي دعوة جمعية اصدقاء الشرق الاوسط الامريكية ويعرض اعمالة في الرسم والنحت في واشنطن ونيويورك وشيكاغو ومدن اخرى،وفي 1959 شارك مع المعماري رفعة الجادرجي في (نصب الحرية) ولجسامة المهمة، ومشقة تنفيذ هذا العمل الهائل ففد تعرض الى نوبة قلبية شديدة اودت بحياتة في 23 كانون الثاني -يناير عام 1961.
وبعد.. ما الذي يبقى من جواد سليم بعد مرور 47 عاما على رحيله؟ هذا السؤال اطرحه على النحات العراقي نداء كاظم،فأجاب قائلا: جواد سليم كله باقي، يعيش في ذاكرتنا،يعيش معنا، انه حي يرزق فينا، لانه انسان فنان عرف مايقدم للفن العراقي لذلك سيبقىخالدا وما اعتقد انه سيغيب عن الذاكرة، خالد وحاضر والثقافة والمشهد الثقافي والوطني والانساني والتشكيلي، وكل ما يضع هذا الشعب قدمه على التطور والتقدم يصير هناك وعي حقيقي بجواد وبكل المبدعين العراقيين، واضاف نداء: انا اعتقد ان جواد لم يكرم التكريم المناسب له، وكل ما يحدث هو وسائل استعراضية ليست من اجل ان يعطوه حقه، بل من اجل ان يفال ان المسؤول عمل شيئا، وعلى وزارة الثقافة ان تتذكر جواد سليم بمهرجان كبير، والتكريم لايجب ان يكون شكليا بل ان يكلف مجموعة من المخلصين للعملية الثقافية برنامج تكريم شامل ليس في شهر او شهرين بل خلال سنة او سنتين وجمع تراثه في متحف واستنساخ اعماله او طبع كتاب عنه يجمع فيه كل ما كتب عنه، واستطرد نداء حول اللذين طالبوا بهدملنصب الحرية لانه يمثل سحرا اسود: هؤلاء اناس مخربون لايفهمون اي شيء، ولا ما يحدث في العالم ويلجؤون الى السفسطة بحثا عن شهرة زائفة، واكد نداء: كل يوم امر من النصب وانظره واكتشف شيئا جديدا وجمالا لاينتهي، واتمنى ان تكون هناك دراسة حقيقية وموضوعية لتأسيس متحف حتى لو صغير لنضع فيه آثار جواد، فقد كان هنالك مشروع عام 1975 لذلك واقيمت حملة لجمع اعماله وتبرعت انا بسبعة اعمال كانت لدي لوزارة الثقافة ولكنني كما يبدو اعطيتها الى ايد غير امينة وعبثت بها، ومن تلك الاعمال جدارية جبسية(الاشورية) في المتخف العراقي، ومن المؤسف ان اجد هذه الجدارية مصبوبة بالبرونز في عمان، ومن المؤكد ان الجدارية الاصلية قد سرقت.
جواد سليم.. الذي نمر على ذكراه، نتوقف باحثين عن احتفالية له، عن من يستذكره ويكلل ابداعاته بورود الوفاء والمحبة، عن اهتمام به تبتسم له سنوات رحيله، عن رعاية حكيمة لكل آثاره، اتمنى ان لا تمر ذكراه الخمسين (بعد ثلاثة اعوام) بدون ان تتهيأ لها سبل الاحتفال الكبير الذي يليق بالفنان الكبير.