...لم يدرك من أوروبا إلا فنون الحرب

من سعد القرش القاهرة: في كتاب غير مشهور للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور يحاول خلخلة quot;مسلماتquot; تاريخية أصبحت بمضي الزمن في حكم الثوابت منها أن مصر كانت فوضى إلى أن قام محمد علي بتأسيسها كدولة عصرية في مطلع القرن التاسع عشر. وبعين عبد الصبور الشاعر فان محمد علي quot;اية زمانه في الظلم والقسوة والتعذيب والجشع الى المالquot; وكان حريصا على ترسيخ صورة ذهنية عن نفسه كباني مصر الحديثة وباعث نهضتها في مواجهة الامبراطورية العثمانية وألح بهذه الافكار على ضيوفه من المؤرخين الاجانب الذين كرسوا تلك الصورة في دراساتهم التي انتقلت الى كثير من كتابات مدرسة التاريخ المصري الحديث.
ويقول عبد الصبور في كتابه (قصة الضمير المصري الحديث) ان محمد علي quot;حاكم شرقي تقليدي... لم يدرك من أوروبا الا صناعتها الحربية أما حضارتها وفنون وحقوق محكوميها على حكامها فلم تكن تخطر له ببال... كان حاكما مطلقا الى حد لم يعرفه العصر الحديثquot; اذ لم يكن يعنيه من أمر المصريين الا أنهم قوة منتجة ووقود لجيشه الذي كان الذراع الطولى لطموحاته الشخصية.
وكان محمد علي جنديا طموحا في الجيش العثماني وأتى الى مصر ضمن قوات أرسلها السلطان العثماني في سنوات مضطربة أعقبت خروج الحملة الفرنسية على البلاد (1798- 1801) وتمكن من الوصول الى الحكم عام 1805 وكانت أسرته اخر موجات الحكم الاجنبي لمصر وتخلل حكمها الاحتلال البريطاني عام 1882 والذي انتهى عام 1956 كاحدى نتائج ثورة يوليو تموز 1952 التي خلعت الملك فاروق اخر من حكم مصر من أسرة محمد علي. وصدرت الطبعة الاولى من كتاب عبد الصبور عام 1972 ثم أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب في الاونة الاخيرة طرح طبعته الثانية. ويقع الكتاب في 184 صفحة متوسطة القطع. ولعبد الصبور (1931-1981) دواوين شعرية منها (الناس في بلادي) و(أقول لكم) و(أحلام الفارس القديم) ومسرحيات شعرية منها (مسافر ليل) و(مأساة الحلاج) وعند التأريخ لمسيرة الشعر العربي ينظر لعبد الصبور كأحد أبرز رواد حركة التجديد في الشعر العربي مع اخرين منهم العراقيان بدر شاكر السياب (1926- 1964) ونازك الملائكة (1923- 2007).
ويقول عبد الصبور ان محمد علي كان بامكانه أن يدع المصريين يمارسون quot;لونا من الديمقراطية الساذجة.. لكنه لم يحاول.. لم يقرب اليه أحدا من المصريين ولم يشركهم في جهاز حكمهquot; واستعرض بعض الذين استعان بهم في ادارة شؤون البلاد وكانوا من الارمن أو الاتراك. ويعلق قائلا quot;لن تجد فيهم مصريا واحدا... أراد أن يجعل من مصر ضيعة هو مالكها وصاحبها الوحيدquot; وفي سبيل استثمارها استخدم كل الوسائل الممكنة. لكنه يتوقف عند زاوية أخرى من الصورة فلا يهون كثيرا من شأن محمد علي الذي quot;نشر مناخا من اليقظة والتفتح ربما لم يكن هو شخصيا مدركا لابعادهquot; مستشهدا ببعثات محمد علي لاوروبا حيث ضمت بعض النابهين من الشباب المصريين.
ويذكر عبد الصبور أسماء وبلدان عشرة من هؤلاء الذين أصبحوا quot;بعد عودتهم هم صناع اليقظة المصرية الحديثة وأعلام تاريخها الفكري والعلمي.quot;
ومنهم علي باشا مبارك (1824-1893) الذي يعد أبا للتعليم في مصر بعد رفاعة الطهطاوي (1801-1873) quot;ألمع ذهن مصري في النصف الاول من القرن التاسع عشر... المندهش الاول في تاريخ الوجدان المصريquot; في تلك الفترة وصاحب المؤلفات المهمة ومنها (تخليص الابريز في تلخيص باريز) و(مباهج الالباب المصرية في مناهج الاداب العصرية) و(المرشد الامين للبنات والبنين).
ولا يخصص عبد الصبور كتابه لمحمد علي وانتقاد تجربته بقدر ما كان يعنيه أن يقدم بانوراما عن quot;وجدان مصرquot; في مرحلة حاول الحاكم الالباني أن يصورها كعصر للظلام عاشته البلاد التي لم تكن لتصبح دولة قوية من فراغ.
ويتناول المؤلف في تأملاته quot;أبطالا تراجيديين فقد نما معظمهم كما ينمو البطل التراجيدي في ظل مقاومة كأنها القدر المعاندquot; وتعلموا مصادفة في الغالب ومنهم الثائر عبد الله النديم (1824-1896) صاحب صحيفة (التنكيت والتبكيت). وكان عبد الصبور ينطلق من نهايات القرن الثامن عشر وما تلاه من صحوة في بدايات القرن التاسع عشر للتدليل على أن قصة العنقاء تلخص التاريخ المصري اذ يحترق هذا الطائر الخرافي كل فترة ثم ينهض من رماد الحريق بريشه الزاهي. ويرى أن هذا هو حال مصر التي quot;تموت وتحيا مئة مرة في التاريخ... أستطيع أن أتجول في تاريخي الى عشرين ألفا من جدودي فأجد أحدهم يهندس الهرم الاكبر وأحدهم يفتح الجمجمة فيداعب جراحها بأصابعه الحساسة ثم يعيد تسوية الشعر في تواضع حبيب وثالثهم ينشد أغانيه الرقيقة وتأملاته العذبة.quot; (رويترز)