عبد الله كرمون: لم أستسغ، منذ سنوات عديدة خلت، أيا من كتاب نوبل. لأن الجوائز والتشريفات لا تضفي، في نظري، أية قيمة على عمل أدبي معين، كما لا تجعله يرقى إلى الجودة. غير أنه قد يكتسب حظوة إضافية لدى نوع خاص من القراء أو بالأحرى (اللاقراء)! عريس هذه السنة رجل رزين. يحيا كتابته منذ أعوام، باحثا فيها باستمرار عن شيء أفضل وأجمل. فإن لم يستطع أن يحقق روعة نص فإنه مع ذلك يعيش خلاله لحظات انفلات من سلطة الإسمنت وقسوة الناس، مادام يؤمن بالتجاوز، وينزوي في الأماكن المحببة أكثر إلى روحه في منأى عن أضواء الظهور.
بالرغم من أن لوكليزيو كاتب متفرد بفنه وبطريقته الخاصة به في الكتابة والعيش، وبالرغم من كونه جد مطلع وجد عارف بمناطق شاسعة من الأرض من خلال أسفاره الدائمة، وبالرغم من انسدال سربال وقار عليه واعتداد، بالرغم من كل هذا، وهي خصال قلما تجتمع في كاتب واحد، فإن رواياته ليست من أجمل ما كتب في هذا النوع.
غير أنه ككاتب لا يمكن لمهتم بالأدب إلا أن يقدره. فقد كتب الكثير، وضمن كل ما أنتجه جعل في كتاب عدت لقراءته، وقد كتبه الرجل قبل ثلاثين سنة، لهواجسه الدقيقة أجنحة تطير بها، وحاول أن يشغل مخه بتفاصيل تغفل في الغالب الأعم. سماه quot;طفل غريب على الأرضquot;. لم تظهر مفردة quot;طفلquot; في العنوان بالفرنسية ولا المقابل الحرفي لكلمة quot;غريبquot;، غير أن من سذاجة القراءة ترجمته بquot;المجهول على الأرضquot;، كما فعل أحدهم مؤخرا في صحيفة القدس العربي وهو يعدد كتب الرجل. عدم قراءة الكتاب هي التي أوحت له بتلك الترجمة الحرفية، لأن لوكليزيو في كتابه يتحدث عن ولد يتأمل الأشياء، وهذا الولد ليس عاديا، ليس يحق القول عنه أنه مجهول ولكنه غريب، سواء تأتى عنصر اغترابه من علاقته بالأحياء أو من خلال علاقته بالكون حواليه أو، في الأخير، بالعناصر وتعقدها.
الحديث عن المجهول على الأرض قد يصدق أيضا، مادام الكتاب يحدثنا عن بعض التفاصيل التي يميل الناس عادة إلى إهمالها أو تلك الدقائق التي تغيب عنهم من أمور حياتهم ومحيطهم. إلا أن عبارة quot;الطفل الغريب على الأرضquot; التي ترد على طول 317 صفحة من القطع المتوسط بالحرف الدقيق للكتاب، تجعلنا نرجح كون صفة المجهول لم يقصد بها مجاهل المعرفة، وبالتحديد تلك الأشياء الكثيرة التي لم يحسن الإنسان الإنصات إليها ولا حتى مجرد انتباه بسيط إلى كينونتها الهشة، بل أيضا وبشكل جلي، غرابة ذلك الشخص الذي يطاردها وكون صفة المجهول قد يكتسيها وضعه الهامشي كمنقب عن حقائق الأرض.
أمر آخر هو أنه ليس من السهل إنهاء قراءة الكتاب، إن لم نأخذ على أنفسنا نوعا من العهد أو إن لم يكن لنا جلد وانتظار المنقبين على الذهب. ذلك أنه ليس جميلا في كليته. فإن كنا لا نعثر في كثير من تربه إلا على تبر قليل، فهو لامع وثمين!
ليس هدفي بالمرة أن أعرف بأحد الفائزين بنوبل، ولا أن أعرف القراء بلوكليزيو، مادام معروفا، وإنما أردت أن أشارك القارئ فرح بعض الأفكار التي وضع عليها هذا الأخير إصبعه. ألم يكن هو الذي كتب: quot;يجب أن نكتب فقط عن الأشياء التي نحبها. نكتب كي ننسق بين قطع الجمال ونجمعها فيما بينها، ثم نعيد بالتالي تركيب وإنشاء ذلك الجمالquot;.
لقد جعل الكاتب، في الواقع، من الولد الغريب شيئا كالأسطورة، إذ تركه يتأمل الكون والعناصر في الوقت الذي جعل الناس يشرئبون إليه وهم يهمسون بأنه يلوح لهم أن طائرة تمرق في الأعالي، غير أنهم يفتشون، في الحقيقة، عن الطفل الغريب الجالس فوق غيمته على شكل تل!
ما يتطلع إليه الناس في أقصى تقدير هو الضياء. النور والنهار هما في الواقع ما يلف أكثر أفكار لوكليزيو سوداوية. أحيانا يكون الولد الغريب في انتظار الضياء ثم يجيء شيء أخر لم يكن في الحسبان. كأن تأتي حافلة في اللحظة التي يكون فيها في انتظار أشياء أخرى.
quot;ها هنا حافلة تأتي. قد تكون هي ما أنتظره. قد تكون الحافلة جاءت من أجلي، قد تكون تحمل شيئا ما، أحدا ما أو الموت؟quot;
أما تحت المطر quot;فتحدث أشياء مدهشةquot;. quot;لكن الجبل آلهة، وأنظار الناس موجهة إليها على الدوامquot;. quot;في جبل واحد توجد طاقة هائلة، فيه كثير من الزمن، فضاء شاسع، وقوانين حقيقية كثيرة. وفي حجره تكمن أفكار عديدةquot;.
مثل ذلك مثل الكهرباء التي تتبطنها أشياء واحتكاكات وحركات طبيعية مهموسة، يقول: quot; يقينا، هناك كهرباء في كل مكان. (...) عندما ينظر رجل إلى امرأة فهذا يحدث شرارة. وعندما تصادف سيارة أخرى في الطريق العامة، فثمة شرارة تنطلق. وعندما تنبت بذرة هناك نوع من كركرة كهربائية. وعندما تلامس أولى أشعة الشمس حصاة في السادسة وخمس دقائق صباحا فذلك أيضا أهميته مثل شعلة أو كلمة أو فكرة. فالكهرباء تنوس دائما على الأرض. لذلك نرى أناس كثيرين ينطون ويرقصون.quot;
لكنه يفضل أكثر، بل يحب، الضياء، ليس أيا كان بل، يقول: quot;أحب أحلى ضياء، دافئا، أصفر، والذي يظهر أحيانا بعد الزوال، قبالة الجنوب، على حائط غرفة. وأرغب أن أقطن فيه، خلال أيام، شهور وسنين. مرن، دافئ، حي، عذب، أصفر مثل التبن، أصفر مثل شعلة ثقاب، يتسلل من النافذة المفتوحة دون أن أدرك من أين يأتي...quot; فإن كان سر الضياء مبثوث في الكون على الدوام، كما يقول، فإنه سر لا يلزم أن نحاول فهمه!quot;
أما الحدائق التي يحبها أكثر فليست هي الحدائق الكبيرة والمليئة بالنباتات الغريبة ولكنها quot;حدائق بسيطة مصفرة قليلا حيث ينمو عشب مجنون!quot; إذ الحياة أيضا كما يقول ليست انفجارا، بل هي quot;اختمار بطيء، وجهد يوميquot;.
بعد الضياء الذي يعتبره أصل كل شيء، وبعد روعة الحدائق، تحدث عن جمال الطرقات. غير أن العوالم الأخرى التي يسير إليها الإنسان لا ترغب فيه، إذ تنأى عنه بمقدار ما يدنو منها، لأن الإنسان قد اخترع أيضا الكلام. وبسبب ذلك، يرى لوكليزيو، أنه quot;قد جعل من نفسه أكثر الكائنات التي تعاني من الوحدة، بأن حرم نفسه من الصمتquot;. quot;ليس هناك ما هو أغرب من الواقع!quot;.
أولم يكن الضياء هو الذي حال دون العزلة؟ يكتب لوكليزيو: quot;عندما نتحدث عن الضياء، يلزم أن نذكر قليلا العظايات، نقترب، في الصباح، من السور القديم ذي الأحجار المتنافرة. السور الذي نخرته الريح والأمطار وأحرقته الشمس. توجد حولها حقول وزال وشوك (...) الغبار، الجفاف والحر. البحر ليس بعيدا وكل شيء مكلل بالملح. (...) ننظر إلى كل حجرة، كل شرخ، وقشات عشب أصفر هنا على أسافله. لا يحدث أي شيء. لا أحد. ولكننا نعرف أن السور مسكون. تختبئ الحيوانات الصغيرة في حفره وتراقب الذي ينتظرها.quot;
أما الغيوم فهي لا تطير مثل الطيور والطائرات وليست تبذل مجهودا كبيرا، فهي تبقى في الهواء على طريقة بالونات مفعمة بهواء ساخن. يحبها لوكليزيو كثيرا لأنها بطيئة وغير جدية!
هل لأن الطفل الصغير الذي لا يكاد يرى كان يحب الضجيج؟
أم لأنه انحني مرة أخرى على ثمار الأرض وطفق يحب الخضر: quot;إن كان علي أن ابتلي بجمع شيء، فإنني سوف أجمع الخضر. أحب أن أراها معروضة في الأسواق، متراكمة أو منضدة بعناية في علب من خشب أبيض. الخضر ليست جدية! (...) إنها ودودة، غير أنها غير جدية، وأحيانا تكون غريبة. لها حدبات مضحكة وألوان لم تخطر لنا قط إمكانية وجود مثلها. إنها معروضة هاهنا كي تباع، تطبخ وتؤكل، لا غير. لا غير؟quot;
وإذا كنا قد نبتسم ونحن نتأمل الخضر فإن الابتسامة لدى لوكليزيو هي لحظة العزلة القصوى، العزلة الرائعة! quot;الابتسامة تجئ من عمق أعماق الكائن، ربما من عالم النوم، وتصعد، مجتازة الجسد ببطء، على شكل رعشة التذاذ، حتى طرفي الفمquot;.
وتظل تأملات لوكليزيو، على ما تنطوي عليه من نوايا عمق، سطحية في غالبيتها العظمى. يمكن لنا أن نرافق طفله أي هو نفسه عبر الشواطئ والتلال متقصيين عن قصة المجهول الذي يخيفنا به رافعين ستر اللغة عن هشاشة المحتوى ولنا أن نقفو أثره إذ قال: quot;أنتظر وفي الآن نفسه لا أنتظر!quot;
[email protected]