عبد الله كرمون من باريس: عندما أتممنا قراءة كتاب بيير جورد، (الواقع في أزيد من أربعمئة صفحة، والذي صدر مؤخرا ضمن سلسلة أغورا): quot;كتابات سيئةquot; ويمكن ترجمته حرفيا ب quot;الأدب بدون معدةquot;، أحسسنا بمرارة مبهمة. اتضحت قليلا معالمها عندما فكرنا قليلا في تلك الحماسة التي كانت ديدننا لما قلبنا أولى وريقات الكتاب. هل لأن أملنا خاب في الكتاب؟ أم هل لأن الذين طالهم نقد الكاتب كُثر، وأفسدت علينا رداءتهم بعض ملاحظاته الذكية؟
لم يخفق بيير جورد مع ذلك في أن يجرجرنا في ما يشبه مستنقعات مقززة، لما وفّق في أن يشبع القارئ بإلقامه عددا هائلا من المقتطفات نفسها والتي انتشلها، ربما بيدين مخبأتين في قفازين من صوف، من تلك الكتب التي أعد لها، مثل ما نعده للعدو، من عتاد هائل.
استعار جورد من جوليان غراك، الذي رحل مؤخرا، بسخرية سافرة، روح كتابه عن الأدباء المرتزقة ومعداتهم التي يملأها الطمي، كي يشن غاراته بطعنات هي من فولاذ.
أقْنَعَنَا في يسر بمشروعية عمله، لما أوضح بأنه آن الأوان كي نفضح الرداءة ونسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، دون تخفٍّ وبلا مراوغة كانت أو مجاملة أو تغاض متى وجد.
قال أننا لا نفتأ نكتب عن الكتب التي نحبها ونؤمن بجمالها أو بتوفيقها، ونهمل الكتب التي لا نحبها ونحن نعلم quot;علم اليقينquot; بأنها سيئة إطلاقا. إذ يخيل إلينا أن ذكرها إنما سوف يحسب لها ولكتابها أكثر مما قد يؤخذ، في حديثنا عنها، ضدها ويلصق بها ما تستحقه من قسوة أي من تقييم.
شجب ذلك، ولم يكتف بالقول، بل أردفه بالعمل، إذ قال بأنه لا بد اليوم، وليس في صبحِ غدٍ، أن نهتم عن قرب بهؤلاء الكتاب الذين يتكاثرون مثل أعشاب طفيلية، وينتجون كتابات هي أقرب إلى فضلات (أما هو فيوظف لفظة خراء). أن نقرأهم، مجبرين، كي نعري تعاستهم بكثير من الموضوعية وبقليل من السخرية.
فإذا كان من المحتمل أن تكون بعض الكتب التي تناولها جورد قد ترجمت إلى العربية، فإننا لا نعرف في الواقع مدى إطلاع القارئ غير الفرنكوفوني عليها، ولا درجة معرفته بها، في حال حدوث نقلها إلى لغات وسيطة كالإنجليزية مثلا. غير أن الذي نسجله، وذلك حقيق بنا، هو أن ما قام به الكاتب الفرنسي بيير جورد قد لا يعلمنا الكثير، إن لم يكن نقذه اللاذع للكُتَّاب، الذين خصهم بسوطه السليط، يلقننا هو، عن جدارة، درسا بليغا: فضحُ الضحالة التي تعاني منها كتابات بعض كتابنا ورهط من شعرائنا ومترجمينا. ثم كسر حواجز الإخوانيات والمجاملات والمصالح والصداقات التي تعيق كلها السير العادي لممارسة نقد حر وموضوعي، على ما يشكله ذلك من صعوبة قريبة من الاستحالة. إلا إذا كان أحدنا يهبط من سحب عالية، لا يعرف أحدا ولا يسلم على أحد ولا يحتسي بُنًّا مع أحد ولا يحتاج لأحد، فيعلق ألواحه على فروع quot;دوح الكنهبلquot; ثم يعود أدراجه إلى سمائه الشامخة. ما أصعب هذا أيضا!
أراد جورد أن يفضح تلك الدوامة الجهنمية التي تصنع تقعر الكتابة والتي تعمد أيضا إلى تأبيدها، بدءا بالذي صنع النص أي كاتبه، مرورا بناشره وبالصحفي الذي يحرض الناس على قراءته وشرائه باعتباره عملا عظيما، وانتهاء بقارئه الذي لم يقرأه وإنما أشبع فقط في ذاته لذة الشراء، مادام استهلاك المنتوج الثقافي (المتاحف، السينما، الكتب) قد صار اليوم في الغرب quot;موضة زينةquot; لا فكاك من التبجح بكسبها.
على أن هناك رأيا شائعا، حسب جورد، يؤكد أن الكتب الجيدة لا تنشر عند دور النشر الكبيرة والعريقة وإنما لدى الدور الصغرى حديثة العهد بالحرفة، والتي تؤدي اليوم الدور الكفيل حقا بكبرياتها. على أن ذلك، في نظره، ليس صحيحا بالمرة، إذ أن كاتبا، من أصل تونسي اسمه مهدي بلحاج قاسم نشر أول مرة لدى دار نشر تريسترام وجرجر رداءته بعد ذلك إلى دور أخرى. لكنه نال لدى جورد، إذ لم يستثنيه، حصته من النقد، هدمت ما قد يكون بنيانا أدبيا أو فلسفيا شوهد، في سرابٍ، قيامُه من قبل. وليس هو الوحيد الذي تلقى طعنات الناقد المميتة بل ضرباته القاتلة. فقد أصيب فيليب سولرس أيضا، وبحق، حتى النزع. وهو من أعرق الكتاب الذين انتقدهم جورد بعنف ساحق. على أنه لا يستحق تعاملا ألطف، وإن شهد له التاريخ بدور أولي فعال إلى جانب آخرين، غير أنه سرعان ما استسلم لابتذال فظيع، حتى أن دريدا قد قال عنه يوما: quot;لم أكن أتصور أن سولرس سوف ينحط إلى هذا الدرك ويتمرغ في بؤس الإعلام!quot;
إضافة إلى نقده لكريستين أنغو وفريديريك بيغبيدر، وهما ربما معروفان لدى القارئ، فإنه تعرض لآخرين أقل منهما شأنا وكال لهم جميعهم نقدا يستحقون أكثر مما خصص لهم. وعرّض قراءَه لِوِرْدٍ فظيع، إذ فرض باستشهاداته من كتاباتهم أن يذوقوا طعم الموت الزؤام: موت الكتابة!
وبما أننا لن نعرض كل ما أتى عليه جورد، ولن نركض خلف قطيعه مهما كانت الأحوال، وإن كنا نتفق معه على العموم، حول الذين وقع عليهم اختياره لنقدهم. على أننا قد نقف قليلا حول تناوله لمن سماه quot;المريب ميشيل ويلبيكquot; سيئ الذكر.
إن الذي صنع شهرة ميشيل ويلبيك ليس هو الإجادة في مجال الكتابة الأدبية وإنما هي أفكاره المعادية للإسلام والمسلمين وشكله الذي يقربه أكثر من إنسان مخبول منه من رجل أدب يحمل أفكارا حقيقية. إذ بالإضافة إلى قوة الدفع به التي هي قوة ناشره، فإن الإعلام كذلك ساهم كثيرا في الترويج لقيئه بل لبرازه الذي سموه روايات وأدبا. على أن الأخذ والرد اللذين أعقبا نشره لرواياته، سواء انتقادا أو موالاة، منحا له، إضافة لمراء منه، نوعا من الظهور، حتى أن هناك من لم يتورعوا واعتبروه كاتبا كبيرا!
أما جورد الذي لا يخفي اشمئزازه من كتابته السيئة، ما عززه بمقاطع من quot;حسائهquot;، فإنه أبان عن حالة من الضعف والانهيار في إعجابه بأفكار ويلبيك وفي استعداده للدفاع حتى عن أحقرها. لأنه قد عزف معه نفس النوتة التي يبتهج لها قلبه.
أراد بيير جورد أن يؤلب القارئ ضد الإسلام في تمسحه ببؤس ويلبيك، مدافعا عنه حتى الاستماتة إذ قارن ما أتاه في حاضرنا، بنشره لتفاهاته، بالمنجز الفكري والفلسفي لفولتير في عصر الأنوار. أية حماقة هذه التي ابتدعها جورد إذن؟
حاول أن ينزع عن كاتبه المريب صفة العنصرية لأنه لم يتأكد جيدا من حقيقة ذلك، غير أن اتفاقه مع أديولوجيا ويلبيك المهترئة، ليس يشفع له، في نظري، في محاولته التذرع بمبدأ حرية النقد، مشيرا إلى ما سماه مسألة مصادرة الرأي، على صحة ذلك، كلما تعلق الأمر بمراجعة أمر من أمور الإسلام. أرى تهافته في سوء طويته، لأن نقده ملغوم بشيء خفي أو مبني فوق جزيرة السندباد!
هنا تسنح دواعي مرارتنا المبهمة والتي أثرناها في المفتتح، مادامت معدتنا لم تهضم أيضا ترهات كثيرة في مسعى بيير جورد. فقد قادنا إلى تذكر تلك الكتب التافهة، وآثرنا، ميزةً، شجاعتَه في نقضها. وفي الأخير، تبقى القراءة كما كتب في (ص. 33) تجربة ذاتية عميقة بامتياز!
[email protected]