بعد لقاء سيغموند فرويد بألبرت أنشتاين في برلين عام 1926 أعجب فرويد بعبقرية أنشتاين الفذة وأنشتاين كان يصغر فرويد بأكثر من عقدين، وقارن حينها فرويد بين laquo;الصعبات الكأداء التي واجهت أنشتاين والنجاحات التي أصابها في عمله كعالم فيزياء استثنائيraquo; وبعض الباحثين خصّ العباقرة المعاقين ببحث مستقل كما فعل (أحمد الشنواني) في كتابه-المليء بالأخطاء الفادحة والمضحكة أبرزها خلطة بين الفيلسوف الوضْعي quot;أوغست كونتquot; وبين الفيلسوف المثالي وصاحب نقد العقل المحض quot;عمانويل كانطquot;- وأعني به كتاب (علماء وعباقرة معاقون غيروا مجرى التاريخ) وضرب المثل بنيوتن وداورين وبيتهوفن وغيرهم. وبعضهم خصّ من فشل في الدراسة النظامية وأبدع في العلم والتقنية كما فعل إبراهيم البليهي في كتابه (وأد مقومات الإبداع) والبعض جعل للعبقرية استثناءات سلوكية كما فعل ميخائيل أسعد في (العبقرية والجنون).
فرويد في النص السالف يأخذ إخفاق أنشتاين الواضح في بداية حياته كسبب أساس لنجاحه. فأنشتاين عانى ممن ينظر إليه باحتقار واشمئزاز في بداية حياته حتى وصف بأنه بـraquo;غريب الأطوارraquo; ولاعجب فأنشتاين أعجب بشخصية (جيمس ماكسويل) العالم الفيزيائي الذي اشتهر بغرابة أطواره، فماكسويل هذا له عاداته اليومية الاستثنائية فهو درج في أيام الطلب على النوم من بعد الظهر حتى التاسعة مساءً ليتوافر له الوقت لإجراء الأبحاث والتجارب أثناء الليل، وكان جيمس يمارس الرياضة في آخر الليل، الأمر الذي جعل الباحث (رمسيس عوض) يجعل من (غرابة أطوار ماكسويل) سبباً رئيساً لإعجاب أنشتاين به. وصفات ماكسويل اكتسبها أنشتاين وزيادة، فأنشتاين لديه ما هو أغرب خاصةً في حياته اليومية العادية وطريقة احتكاكه بالناس وتواضعه الذي يرفضه الناس أنفسهم. فالغوغاء يستكثرون تواضع رمزهم! خاصةً أن أنشتاين ولظرافته وقفشاته مع الصحفيين وتصريحاته المتعددة ودخوله في السياسة واستهداف النظام النازي له لكل ما مضى أصبح بشهرة نجوم laquo;السينماraquo;. وحينما وجد أحدهم أنشتاين يقف في الطابور لشراء آيس كريم فانيلا تعجّب! وفي آخر الأمر فإن الطرح الذي يربط بين الإخفاق والنجاح لم يعد من المسائل النخبوية بل تحوّل إلى حديث عام. وفي رأيي أن الفشل حينما ينتاب المرء في بيئة تسودها العدالة وتساوي الفرص وتوافر حقول الإبداع يتحوّل إلى طاقة دافعة لإكمال التحدي، خاصةً حينما تكون laquo;المسؤوليةraquo; الذاتية لها الدور الأساس في تتميم الطريق نحو الفرص العلمية والعملية.
من ضمن المشكلات التي تواجه البيئة التي تنشأ في رحمها عقول الأجيال- خاصةً بيئات التعليم- أنها ترسم لهم خطوطاً متشابهة وتجعل منها النموذج الأبرز الذي يجب على الجميع احتذاؤه وكل الذين لا يستوعبون المناهج والمقررات ينظر إليهم بإيعاز من الرمز التعليمي على أنهم من المعاقين ذهنياً أو لغوياً, بينما مؤسسات التعليم ليست سوى محاضن للتربية ومراكز لتنمية السلوك النظيف ورسم الطرق للتلاميذ نحو مكامن إبداعاتهم واكتشاف طاقاتهم. ومشكلة التعليم ليست مشكلة سعودية أو عربية ولكنها مشكلة جذرية تضرب عصب (نظرية التعليم). فمعرفة حدود المنهج وقياس الخيط الرفيع الذي يبنى على أساسه المنهج، واكتشاف هذا الخيط ضرب من التخمين الصرف أو أحد فروض الدجل إلا على سبيل التقريب والبحث الدقيق الاجتماعي والعلمي. فالعقول تختلف بيئاتها وتكوناتها وكون الأغلبية يناسبها المنهج الفلاني لايعني أنها هي النموذج الأذكى، ووفق تاريخ التعليم في العالم ثمة استثناءات كثيرة أخفقت في انتهاج الخيط المزعوم ورفضته ومع الأيام وضح أن المنهج الموضوع أقل من مستوياتهم العقلية وإجادة الحفظ ليست دليلاً على العبقرية أبداً. كما أن كراهية الحفظ أيضاً لاتدل على العبقرية المسألة فردية وعقلية وليست نظرية.
إن ولادة الطفل ورعايته وتسمينه وركله في سيارة خاصة بجوار السائق وتعبئته بالساندوتشات المتنوعة وتترسه بأنواع الألبسة وأفخر الشنط والأقلام ليست نهاية المهام التي يجب على البيئة الحاضنة القيام بها. فأصعب وأثقل مهمة يجب على البيئة الأولى عملها هي محاولة اكتشاف المواهب التي يجنح نحوها الابن واستدعاء الموهبة المختبئة أو محاولة ذلك لإبرازها. فالعقل التقني أو العقل النظري يجب أن يكتشف من الصغر. وكم أتمنى من مؤسسات رعاية الموهوبين أن تكفّ عن اعتبار الحفّاظ من الموهوبين لمجرد الحفظ وأن تعمل على إيقاظ العقل, ذلك المارد النائم الذي نحن بحاجة ماسة إليه، نحن إزاء نماذج كبيرة من الفشل وكل يوم تبرز نماذج الفشل أمامنا ولكن أين laquo;العبقريةraquo;؟
إن الفشل وحده لا يولد العبقرية، البيئة هي التي تولدها، إن التجاهل الممض الذي يمارس ضد علماء أجلاء في الفيزياء والفلسفة والكيمياء وغيرها مقابل التقديس الأخرق الذي يمارس مع من لم يعْرق جبينه أو يجتهد في العلم والبحث لأمر يبعث على السخرية. في مجتمعاتنا نصفّق لقصيدة أكثر مما نصفق لمن حلّ نظرية أو لمن اخترع دواءً، وحينما تعقد ندوة فيها صراخ وأمجاد وفخر مزعوم يتقاطر الناس، أما حينما يحاضر فيزيائي سعودي عن laquo;نظرية الأوتار الفائقةraquo; يحضر القلة وينعس بعضهم ذلك أن العلوم الفلسفية النظرية والتطبيقية laquo;غير قابلة للتصفيقraquo;! وهي علوم laquo;مضادة للتصفيقraquo; لأنها لا تقدم إجابات نهائية ولا شاطئ لها ولا نهاية لمسائلها على الإطلاق.

كاتب سعودي.
[email protected]