1. عودة إلى الرّوح:
عبداللّطيف الوراري: بعْد انشِغاله بتحليل الشعريّات وبِنْيات الْخِطاب الْأَدبي والْبَلاغي لسنواتٍ من مجْد المغامرة البنيويّة ومابعْدها، يتوجّه المؤرّخ والمفكّر الفرنسي من أصولٍ بلغاريّة تزفيتان تودوروف(1939 ـ )إلى الاهْتِمام بِنَقْد الْخِطاب الثّقافيّ الّذي تعْبرُه الْقَضايا الْمُسْتعجلة والْمُلحّة لعالم اليوم فيما هو يُسائِل، برُوح الْعالِم وأرْيحيّته، مستحقّات الفكر الغربي من غيْر أن تأسره عقائديّته الفكرية. من quot;نحن والآخرونquot;1989، مروراً ب quot;أخلاق التّاريخquot;1991وquot;الحياة المشتركةquot;1995وquot;الفوضى العالمية الجديدةquot;2003وquot;الأدب في خطرquot;2005، وانتهاءً ب quot;روح الأنوارquot;2006*الّذي يواصل فيه الكاتب من أصولٍ بلغارية تجذير نهْجه النّقدي الّذي لا يكلّ في صياغة تصوّرات جديدة ومُغايرة بخصوص قضايا الفكر الإنساني المعاصر. وكما يظهر من عنوانه اللّافت، فإنّ الكتاب يندرج في إطار الدّراسات الجيوسياسية والفكريّة والتّاريخية الّتي عادت إلى عصر الأنوار تتناول أفكاره وقضاياه بالدّرس والتّحليل، لكنّ الكتاب الجديد يخرج عنْها في أنّه يقدّم مراجعة نقديّة وإبستمولوجيّة لذلك العصر في ضوْء متغيّرات السياق الحضاري، والواقع الغربي الراهن تحديداً، مستدلّاً على الممارسات السياسية الغربية، من الأنظمة الشمولية إلى الإيديولوجيا الاستعمارية، الّتي أدارت ظهرها لفكر الأنوار، وخذلته بوصفهquot;مشروعاًquot;. إنّه quot;بيان نقديquot; ينتقد فيه تودوروف التوظيف الغربي المُسيء إلى روح العقلانيّة والاختلاف والتعدّد الّتي أنشأت روح التنوير. من هنا أهميّة الكتاب وضرورته وهو يفكّر من جديد في quot; المشروع الأنواري quot;، ويلفت إلى نزعة الإنسيّة فيه.
2. الأنوار بوصفه مشروعاً:
يتأمّل تودوروف في الكتاب تيار الحركة الإنسانية في عصر الأنوار باعتباره تياراً فكريّاً، وحساسيّةً ثقافيّة جديدة، وأيْضاً مُنعطفاً ساهم، إلى حدّ كبير، في تشكيل الهويّة الأوربيّة من خلال نصوص الفلسفة والسياسة والعلوم والفنون والآداب، الّتي قطعتْ مع المنْظور الكلاسيكي للأشياء والعالم، وترافقت مع خطابٍ يقول بquot;موت الإلهquot; وانْهيار اليوطوبيات. يتأمّل ذلك بقدرما يكون مسْعاه الفهم الأعمق لهذه النّقْلة الجذريّة بدون إغْفال مشكلات العصر الّذي نحياه.
إنّ الأفكار الكبرى للأنْوار الأوربيّة، فيما يرى الكاتب، لا تعود إلى القرن الثّامن عشر للميلاد، بل إنّ كثيراً من آثارها رأت النّور في أواخر العصر الوسيط الأوّل، وعصر النّهضة والعصر الكلاسيكي، غير أنّ هذه الأفكار لم تخرج من مظانّ الكتب إلى عالم الواقع إلّا بفضْل جهود المفكّرين، الّتي سرعان ما تفرّعت عنْها مدارس فكريّة ما تزال تتصارعُ حتّى اليوم. لهذا، يؤكّد quot;إنّ عصر الأنْوار كان عصر مُناظرةٍ أكْثر ممّا كان عصْر إجْماعquot;، ويعترف بأنّه ليس هناك من مانعٍ من الحديث عن مشروع الأنوار الّذي قام على ثلاثة أفْكارٍ أساسيّة لم تنفكّ أنْ تطوّرت، وهي:
أ ـ الاِسْتقلالية الّتي تتمثّل في التحرّر وعدم الخضوع لسلطةٍ كنسيّةٍ أوْ وصايةٍ خارجيّةٍ. ولمْ يكن هدف مفكّري الأنوارquot;رفْض الأدْيان، بل هدْي النّاس إلى موْقف يتّسم بالتّسامح، وحثّهم على الدّفاع عن حريّة المعتقدquot;(ص. 12)، لكنّهم ركّزوا على اسْتِقلاليّة المعرفة الّتي تُعلي من شأْن العقل والتّجربة لأنّهما في متناول كلّ إنْسان، ورأوا كيْف أنّ الأجْناس الأدبيّة الجديدة وضعت النّاس في قلب اهْتِماماتها وهم مُنْغمسون في شؤونهم الخاصّة كالرّواية والسيرة الذّاتية، عدا الرّسم.
ب ـ وغائيّة الأفعال الإنْسانية الّتي تحرّرت وهي quot;تنزل إلى الأرض، ولم يعد مقصدُها اللّه بل النّاسquot;(ص. 16). على هذا الأساس، يُعْتبر فكر الأنوار مذهباً إنْسانيّاً يقوم على مركزيّة الإنسان.
ج ـ ثمّ الكونيّة الّتي تعني الاِنْتماء إلى الجنْس البشري، أي إلى الإنْسانيّة بما هي صِفةٌ كونيّةٌ. بناءً عليه، يكون مطلب الكونيّة بمثابة الحدّ الّذي تقف عنده ممارسة الحريّة، ويكون المقدّس الّذي غادر مجالَ العقائد ورفاهَ القدّيسين مجسَّداً في quot;حقوق الإنْسانquot;. ومن الكونيّة انْبثَقت ضروبٌ من الكفاح لا تزال متواصِلةً حتّى السّاعة.
وهو يقيّم عصْر الأنْوار بعد مائتيْن وخمسين عاماً، يرى تودوروف أنّ فكر الأنوار اسْتطاع أنْ يحقّق نصْراً، لكنّ الأهداف المأمولة منه لم تتحقّق كاملةً وإلّا كيْف نفسّر أنّ النّظام القائم، بوحْيٍ من روح الأنوار، لا يزال محطّ انْتِقاد بعد الّذي شهده القرن العشْرون من مجازر وحربيْن طاحنتيْن وقيام أنْظمةٍ شموليّة في أوربّا وخارِجها، بالإضافة إلى ما أدّتْ إليه الاِخْتراعات التقنيّة من دمار وتقتيل. يقول:quot;إنّ هذا القرن بدا كأنّه يُسفِّه نهائياً جميع الآمال المعبّر عنْها في الماضي ممّا دفع الكثيرين إلى الكفّ عن الانتساب إلى الأنوار، وصارت الأفكار الّتي تتضمّنها كلمات من قبيل quot;إنسيةquot;، quot;تحرّرquot;، quot;تقدّمquot;، quot;عملquot; وquot;إرادة حرّةquot; فاقدة لكلّ اعتبارquot;(ص. 20). وعليْه، يعتبر أنّ كلّ قراءةٍ متفائلةٍ للتّاريخ تفاؤلاً شديداً هي من قبيل الوهم، كذلك الاعتقاد في التقدّم الخطّي واللّانهائي لمسيرة الجنْس البشريّ، الّذي أغْوى بعض مفكّري الأنوار. من هُنا، يرى ضرورة أنْ يُعاد تأسيس الأنوار إعادةً منْ شأنها أنْ تحافظ على إرث الماضي، ومراجعتهquot;مراجعة نقديّةquot; من غيْر أن يعني ذلك خيانة الأنوار.
3. الأنوار... تاريخٌ من الرّفض والتّحريف:
منذ ظُهوره وفكْر الأنوار يُواجَه بالاِنْتقاد والرّفض، بدايةً من اتّهام المحافظين له الشّطط والتّقصير إلى الاِنْتقادات الّتي وجّهت إليه بأنّه وفّر المستندات الإيديولوجية للاستعمار الأوربي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. ولقد كانت السياسة الاستعمارية تتخفّى وراء المثل العليا للأنوار، لكنّها في الواقع كانت تمارَس باسْم المصلحة القومية لهذا البلد أو ذاك. مثلما عِيب على روح الأنوار أنّها نفْسَها أنتجت الأنظمة الشموليّة الّتي جلبت مواكب من الآلام والعذابات والإبادات الجماعية، وأذاقتْها لملايين من البشر. وكتب الشّاعر الإنجليزي طوماس إليوت:quot;إنْ كنتم لا ترغبون في أنْ يكون لكم إله(وهو إله غيور) فقد وجب عليكم الخضوع إلى هتلر أو ستالينquot;، كذلك انتقد الكاتب سولجينستين قائلاً:quot;إنّنا اليوم عندما نتمسّك بالعبارات المتكلّسة الّتي تعود إلى عصر الأنوار إنّما نكشف عن رجعيّتناquot;، فيما يرى جان بول الثّاني أنّ مأساة quot;الأنوار الأوربيةquot;تتمثّل في رفضها للمسيح ممّا فتحت معه الطّريق أمام تجارب الشرّ المدمّرة. إنّ ما يرفضه المنتقدون في قضيّة الحال أمْرٌ واقِعٌ فعْلاً، غير أنّه يجب التّمييز بين المواقف الرافضة تماماً للأنوار، وتلك الّتي تمثّل تحويلاتٍ لوجْهتها. يعود تودوروف إلى بعضٍ من المناظرات لإثْبات الأمر قبل أن يستنتج أنّ أفكار الأنوار الّتي مثّلها روسو وديدرو وغيرهما أعطت التّجربة والعقل دوْراً أهمّ بالقياس إلى التّقاليد، وهو ما أمكن للشّعب أن يتحرّر، وللفرد أن يحصل على استقلاليّته، وأن يعبّر عن أفكاره في الفضاء العمومي، وأن ينظّم حياته الخاصّة وفْق ما يرى(ص. 41). لا تعني الاستقلاليّة، هنا، الاكتفاء الذّاتي مثلما قال بذلك الكاتب الفرنسي ساد الّذي صارت أقواله مضادّة لروح الأنوار، وللحسّ المشترك أيضاً. تلك الساديّة. أمّا الرأي العام فـمتى كان قويّاً جدّاً فهو يقلّص حريّة الفرد الّذي لا يملك في نهاية الأمر سوى الخضوع إليه. لكن ما ينبغي الدّفاع عنه هو تنمية الرّوح النقدية الّتي هي من روح الأنوار وفكرها، ولا سيّما في وجه أولئك الّذين يضيقون بالنّقد فيرفعون القضيّة أمام المحاكم. إنّه مبدأ يحمي حريّة الرّأي بما في ذلك حرّية التّعبير عن الآراء المزعجة(ص. 58).
ويذهب إلى أنّ كلّ المحتمعات الغربيّة المعاصرة تطبّق صيغاً متنوّعة من اللّائكيّة الّتي أصبحت، بدورها، محلّ تساؤل منذ تسعينيّات القرن الماضي. فإلى جانب انْتشار صيغةٍ أصوليّة عن الدّين الإسلامي بعد أن استتبعت، في نظره، أعمالاً إرهابيّة وهيمنةً على النّساء، هُناك شيوع أشكالٍ من رفض هذه اللّائكيّة، وتحْويل مقاصدها بالتّبسيط والتّعميم المُخلّ. كما أنّ سيْر الحياة السياسية يتهدّدها خطران هما:الأخلاقويّة والعلمويّة. تهيْمن الأولى عندما يكون الخيْر فوق الحقيقة، وعندما يتمّ التّلاعب بالحقائق. فيما تهيْمن الأخرى عندما تبدو القيم وكأنّها تنْبع من المعرفة، وعندما تتنكّر الاختيارات السياسية في ثوب استنتاجاتٍ علميّة. يقول تزفيتان تودوروف: quot; فالْعلمويّة والأخْلاقويّة كلْتاهُما غريبتان عن الرّوح الحقيقية للأنوار. وثمّة خطرٌ ثالِثٌ قائِم أيْضاً، ويتمثّل في نزْع النّجاعة عن مفهوم الحقيقةquot;(ص. 91). لقد حوّل هذان التيّاران مكتسبات الأنوار عن وجْهتها الحقيقيّة من ضمن تيّاراتٍ أخرى من مسمّياتِها الفردانية والدعوة إلى الشّطب الراديكالي للقداسة والقول بفقدان المعنى والنسبيّة المعمّمة.
كـمِثالٍ على امْتلاك السُّلطة، يستشهد الكاتب بالولايات المتّحدة الّتي تدلّ المَشاهد في حياتِها العامّة على اسْتِخفافٍ جديدٍ بالحقيقة الّتي ما انفكّت تضيقُ بها، وما انْفكّت تقضّ مضجعها مُشيراً إلى طريقة تبريرها السّخيفة للحرْب على العراق بحجّة امْتِلاكه أسلحة الدّمار الشّامل، وإلى معاملتِها الظّالمة لأسْرى معتقل غوانتانامو حيْث تُعطى الأولويّة للاِنْتصار السياسي أو العسكري على قوْل الحقيقة الّتي يتمّ التّلاعب بها والكذب عليها.
4 ـ إنْسيّة وبشريّة مشتركة:
إنّ ما يلْفت الاِنْتباه عند قراءة المؤلَّفات الأوربية في ذلك العصر رغم تنوّعها من حيْثُ أجْناسها الأدبيّة، ومن حيْث مواطنها أو من حيْث قناعات أصحابها هو كوْنُها تقدّم لنا عالماً طبيعيّاً نرى فيه الكائنات البشريّة في صراع مع قوى معادية هي قوى بشريّة خالصة، ونراها تسعى للوصول إلى حالةٍ من الانْشراح والسّعادة عبر وجودها في الحياة على هذه الأرض، ولكن لا وسيلة تقدر على ضمان بقائِها. ولم تعد السّعادة هدفاً لوجود الفرد فحسب، بل كذلك للحكومة والدّولة الّتي تحت مسؤوليّتها سعادة الأفراد بإزالة العوائق الّتي تحول دون ذلك، إلى انتصرت اسْتقلاليّة الفرد فصارت الدّولة موفّر خدمات أكثر منها محطّ آمال(ص. 101). لقد شكّل ذلك انْقِلاباً بحيْث نزل الفعل من علْياء السّماء إلى الأرض، وصار يتجسّد في البشريّة لا في الإله بعْد التخلّص من الغائيّة الربّانية بمحض الحركة والإرادة، وهو ما جعل العصر الّذي نحياه، يقول الكاتب، ينْسى الغايات ويقدّس الوسائل، وبدا النّاس في هذه المجتمعات كأنّ شغلهم الشّاغل هو النجاح على الصّعيد المادّي والحصول على المال الّذي به تُشْترى سائر الملذّات. ولئن كانت حريّة الأفعال محدودة بغائيّتها الإنْسانيّة وجوباً فإنّها تستوجب كذلك الوعي بأنّ جميع النّاس ينتمون إلى النّوع نفْسه، ولهم الحقّ بالتّالي في الكرامة بالدّرجة نفسها، لأنّ ما يجمع بيْن بني الإنْسان هو أكثر ثباتاً ممّا يفرّق بيْنهم. يقول مونتسكيو:quot; أنا إنْسان بالضّرورة، ولسْتُ فرنسيّاً إلّا بحُكْم الصّدفة quot;، وإن كنّا نجد أنّ المفكّرين الّذين تشرَّبوا روح الأنْوار كانوا أكثر اعتزازاً بانْتِمائهم إلى بلدهم.
وفي الوقت الّذي نجد فيه إجْماعاً على عالميّة حقوق الإنسان فإنّه لا تزال هناك ممارسات حاطّة بالكرامة الإنسانية مثل عقوبة الإعدام والتّعذيب، وهو ما يشكّل رفْضاً للكونيّة الّتي تنتسب إليْها الأنوار. إنّ الكونيّة لا تبرّر اسْتعمال القوّة خارج كلّ إطارٍ قانونيّ، ولكن احْتِرام كلّ إنْسان لا يعني بالمقابل أنّ القيم المشتركة لا حقّ لها في الوجود. أمّا المُساواة في الحقوق فهي مسألة غيْر قابِلة للتّفاوض أصْلاً، مثلما أنّ الاِعْتراف بالتعدّدية ضمن النّوع البشري لا يدفعنا إلى التخلّي عن بشريّتنا المشتركة(ص. 123).
5ـ quot;الأنوار الأوربيّةquot; هبّتْ من الشّرق!
يعترف تزفيتان تودوروف أنّ روح الأنوار نجد مكوّناتها حاضِرةً على مدى عصورٍ متنوّعةٍ في كلّ حضارات العالم الكبْرى(الهند، الإسلام، الصّين). في حضارة الإسلام نجد آثار هذه الرّوح لدى quot;المفكّرين الأحرارquot; مثل الطّبيب الرازي الّذي دافع عن المعرفة الّتي يسْندها العقل والتّجربة، وغيره ممّن أحرزوا تقدُّماً في مجالاتٍ علميّة من قبيل الرياضيات والفلك والبصريّات والطبّ، إلى جانب المتصوّفة. لكن سرعان ما تمّ قمعهم بشدّة منذ القرن العاشر للميلاد.
غيْر أنّ هذه الرّوح لم تتمكّن من فرض نفسها إلّا بداية من لحظة معيّنة هي لحظة القرن الثّامن عشر للميلاد في أوربا الغربيّة. تتمثّل خاصية الأنوار الأوربية في كوْنها هيّأت الاِنْبثاق المتزامن للمفهوميْن التاليين:فرْدٌ وديمقراطيّة داخل أوربّا الواحدة والمتعدّدة في نفس الوقت. يكون لمسألة التعدّدية نتائج إيجابيّة في الفضاء السياسي باعْتِبار أنّ آراء المواطنين واخْتِياراتِهم الّتي يتكوّن منها هي، بصفة عامّة، شديدة التنوّع.
إنّ درس الأنوار يتمثّل في القول إنّ التعدّدية يمكن أن تُفْضي إلى وحدة جديدة من خلال الحثّ على التّسامح، وتنمية الفكر النّقدي الحرّ والتجرّد عن الذّات بما يسمح بالاِنْدماج مع الآخر. وعليْه، فإنّ هويّة أوربا وتبعاً ل quot;إرادتها العامّةquot; يمكن أن تقْوى عبْر القدرة على دمْج الاِخْتلافات دون القضاء عليها؛ وإنّ ذلك هو ما يميّز أوربّا عن غيْرها من المجموعات السياسيّة العالمية الكبرى حيْث الأفراد على أقصى درجة من التنوّع، ولكنّهم مُجْبرون على الاِنْتماء إلى أمّة واحدة. فأوربّا لا تعترف بحقوق الأفراد فحسب، بل كذلك بحقوق الجماعات الّتي تتمتّع كلّ واحدة منها بتاريخٍ وثقافةٍ وسياسةٍ مشتركة، أي الدّول الأعضاء في الاتّحاد الأوربي.
إنّ الأنوار الأوربيّة ليست إرثاً من الماضي بلْ أيْضاً راهنيّة يعنيها المستقبل بقدرما تُعاني من أجله. من هُنا، نفهم لماذا يشدّد الكاتب والمفكّر الفرنسي من أصولٍ بلغاريّة على روح الأنْوار أكثر من فكرها. الرّوح الّتي اسْتوحاها وتعرّف عليْها بشكل أفضل من الكتّاب والعلماء والرسّامين والموسيقيّين والشّعراء. وهي لا تمضي، لكنْ تتجدّد فيما هي تُحيل، في آخر التّحليل، على موقفٍ من العالم لا على quot;مذهبٍ فكريquot; حتّى تبقى حيّةً بالكدّ والعلم. يقول:quot;فالأنوار مازالت معاصرةً لنا ومردّ ذلك إلى عاملٍ مزْدوج، فنحن جميعاً أبناء الأنوار حتّى عندما نُهاجمهاquot;(ص. 142).
6 ـ أيّة quot;أنْوارquot; عربيّة؟
الواقع أنّ quot;الأنْوار الأوربيّةquot; صارت quot;ماركة عالميّةquot;، ونموذجاً تسعى الثّقافات الّتي تعرّفت عليْها إلى الاِحْتذاء بها وقد أسال نعيم أوربّا ريقَ جهات الأرْض. وفي عهد نهضتهم سعى العرب بدورهم إلى ذلك لكنّهم فشلوا. فشل المصريّون والشّاميّون والمغاربيّون فشلاً ذريعاً. تعدّدت مبرّرات الفشل وفْق الجرح ودرجتِه. منهم من يقول افتقار الفكر العربيّ إلى الوعي التاريخي بالحاضر وبأسئلته ومتطلباته، ومنهم من يعتبرعوائق التقدّم لدى العرب ذهنيّةً أساساً ولن نتحرّر منها إلّا بالممارسة العقلية تحرّرنا منها، ومنهم من يرى أنّ النُّخَب الثقافية العربية عجزت عن التّواصل مع مجتمعاتها وأنّ معاركَها الإيديولوجية تبعدها عن الواقع والتأثير فيه، وكثيرون قالوا لا مجال للقطْع مع الماضي نهائيّاً وأنّه بإمكان الدّين أن يلعب دوْراً تحرّرياً وتنويريّاً. لكنّهم يتّفقون أنْ لا شيء يمنع العرب من أنْ يصْنعوا quot;أنوارهمquot; ويخوضوا تجربة التّنوير لأنّها تجربة ليْست حكْراً على ثقافةٍ دون أخرى، ولا سيّما في هذه المرحلة من تمزُّق الأمّة وانْحطاطها الجديد، بعد فشل النظام العربيّ القائم، وتراجع الأحزاب، وانْكفاء المثقّفين، وإخفاق مشروع الفكر العربيّ وانْتشار قيم الرّداءة والأنانيّة والسّلطويّة واليأس وهو ما يعرّض هويّتنا ووجودنا لخطرٍ داهِم.
*
للإشارة فإنّ الكتاب ترجمه إلى العربيّة حافظ فويعة، وصدر عن دار محمد علي ـ تونس2007، وعن مؤسسة الانتشار العربي بالاشتتراك مع دار الفارابي 2008

كاتب المقال شاعر وناقد من المغرب