التأويل البصري للشعر والصورة الفوتغرافية
(علاء عبد الهادي نموذجاً)
1) استنطاق الصمت, وروح الشعر:
صورة رقم 1
فاضل سوداني:
لا تُفهم أبدية الشعر إلا من خلال علاقته بالمجهول, والمستحيل, والسري, واللامرئي، وهذا يفرض أحيانا استعارة بصرية مركبة باستخدام وسائل تأويل أخرى متعددة, مثل تركيب المعنى الذي يتكون بين اللغة الأدبية ووسائل أخرى كاللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية. وفي هذا الصدد هنالك تجربة متفردة في الشعر العربي المعاصر, وأعني بذلك تجربة الشاعر علاء عبد الهادي، في ديوانه (شَجـِن) حيث رافقت الصور الفوتوغرافية كل قصيدة في الديوان، فاستخدم الشاعر إمكانيات تأويل الاستعارة البصرية في الجملة الأدبية, وفي الصورة الفوتوغرافية, على نحو أدى إلى تكوين علاقة متداخلة وإيحائية, بين النص الشعري والبصري (الفوتغرافي) , بالرغم من اختلاف احدهما عن الآخر في معنى كل منهما التأويلي المنفصل، وذلك إذ لا يفسر احدهما الآخر وليس هنالك أي تطابق بينهما كما عو شائع في بعض التجارب العربية. وقد خلق الشاعر هوة بين القصيدة الشعرية والصورة الفوتوغرافية كي لا يكون أحد النصين البصري أو اللغوي تعليقاً على الآخر, على نحو لابد فيه للناقد أو للقارئ أن يملأها.
صورة رقم 2
يكشف النقد الحديث روح القصيدة وليس روح الشاعر، ومن هنا فإن القصيدة المتفاعلة تمتلك سريتها وغموضها وتجليها، وإذا قدر لها أن توجد فلا يمكن أن توجد إلا في هذه التجليات التي تشكل التفاعلية الشعرية المستندة على البعد الشعري الرابع لزمن القصيدة، مادام روح القصيدة وروح الشعر عموماً سواء كانا في الفن, أو في الجمال, أو في الحياة, أو في الطبيعة, هما اللذان يشكلان الإبداع الذي يمتلك زمنه الخاص،
بصريات الشعر, وشاعرية الصورة:
يفرض علينا هذا المدخل أن نفكر بالعبور من النص الشعري, ونص الصورة الفوتوغرافية(التي فرضها الشاعر كوسيلة لغوية) إلى نص آخر، أي العبور إلى لغة التأويل البصري، وبهذا يمكننا التأثير على مصير القراءة والقارئ. وهذا ما يجعل من النص البصري بكل وحداته (الكلمة، الصورة الفوتوغرافية المرافقة كما في ديوان شَجِن لعلاء عبد الهادي), لغة غنية وحية وقابلة للتأويل بصرياً من أجل تحليل نص الصورة الفوتوغرافية, بالإضافة إلى النص اللغوي الشعري.
وقبل الدخول في هذا أود أن أؤكد حقيقة هي أن علاء عبد الهادي كان واعياً لمهمته بوصفه شاعراً بصرياً, ولهذا فانه لا يفرض مفردات لغتنا على الشعر, وإنما يجعل من الشعر خروجاً على الأيقونة اللغوية الساكنة, مما يجعلنا نحلم ونحن في يقظة. وفي ديوانه quot;شَجِنquot; يمكننا أن نتلمس ست مهمات أساسية للوصول إلى شعرية العمل والتأويل البصري فيه وهي: العلاقة بين الكلمة الشعرية , واللون, والإيقاع، وكذلك الاهتمام بتجوهر ذاكرة الأشياء، إضافة الى تجلي ذات الشاعر والآخر في معادلة بين الرفض والتماهي أحيانا بالرغم من اعتماد الشاعر على أسلوب المفاجئة غير المتوقعة، وكذلك التأكيد على إمكانات السرد الدرامي ـ الشعري في الديوان، والميزة الأكثر أهمية هي التأويل البصري والشعري للصورة الفوتوغرافية.
صورة رقم 3
في استنطاق الصمت وروح الشعر البصري:
إن مايفرضه البحث السميائي للصورة الفوتوغرافية هو الكشف عن البعد الدلالي/ التأويلي, وسبر المعنى المستتر للصورة ومحتوياتها, والسر الخفي لموضوعها. وهذا يدفعنا الى اكتشاف لغة أخرى تأتي من خلال التناقض بين معنى المفردة الأدبية المتناقضة مع معنى الصورة الفوتوغرافية (كما استخدمها الشاعر). وبالرغم من أنني قمت بدراسة مايقارب 22 صورة فوتغرافية والقصائد المرفقة بها، إلا أنني هنا سآتي ببعض الأمثلة فقط لتحليل هذه العلاقة:
ذات المرآة.. الصورة والمظهر:
وفي صورة (رقم 1) وهي اللوحة الوحيدة في الديوان والتي تعكس فتاة تنظر إلى مرآتها نظرة خاصة تشكل علاقة لامرئية وغير مباشرة مع صورة لامرأة تبدو في الكتاب الذي تتصفحه الفتاة، وحركة الفتاة توحي أما كونها حزينة لفقدانها لصاحبة الصورة العزيزة عليها، أم أن الفتاة تحاول أن تقارن نفسها بجمال صاحبة الصورة؟
صورة رقم 4
ولكن النظر إلى المرآة يشكل التعرف على عالمين تضج فيهما ذوات متعددة، وليس ذات واحدة. وهذا يوحي لنا بمفهوم القرين او الذات الأخرى. فالفتاة تبدو حالمة وكذلك المرآة فهي أكثر حلمية منها لانها تمتلك القدرة على عكس دواخل الذات الصادقة التى ترغب في رؤية دواخلها الذاتية وليس فقط ذاته الخارجية (الداخلية والخارجية) فالانسان في عزلة مع المرآة تتحول الاخيرة إلى صندوق الأسرار، إن الناظر إلى المرآة أحيانًا يرهبها عندما يحاول ان يستذكر ذاته الداخلية، لأنه يعرف بان المرآة كاتمة لأسرار جسده الفيزيقية، وأسراره الداخلية. المرآة تفرض على الانسان التعري امامها سواء واقعيا أم داخليا أم خفية. وفي مثالنا هذا فان الفتاة تنظر الى ذاتها الداخلية وفي الوقت ذاته فان المرآة تنظر الى ذات الفتاة فتسبر أعماقها، لكن الفتاة أيضا تقوم برد فعل ما لتسبر أغوار مرآتها وبهذا فإنها تقوم بتأمل ذاتها في الواقع و ذاتها الأخرى (في المرآة). عندما يتأمل الإنسان مرآته يتحول التأمل إلى رغبة للهمس السري، فكم من البشر يهمس أسراره الى مرآته. لكنّ هنا من يتأمل الآخر المرآة أم الفتاة؟ وكأننا نرى قرائن وعدة ذوات في ذات واحدة، هي ذات الفتاة وذاتها الأخرى المعكوسة في المرآة، و ذات المرآة أي سر(الذات ـ المرآة) أيضا.
إن هذه الذوات تتبادل الادوار والهمس والتأمل والكلام السري، وفي هذا يحدث نوع من العلاقة بين خارج الذات وداخلها، بمعنى بين ذات المرآة وعالمها الخارجي عندما تعكس ما يحيط بها. وكذلك بين ذات الفتاة وعالمها الخارجي والداخلي (السري) في آن واحد. وما يحدث هنا هو نوع من التلصص الذاتي بين خارج الذات(الفتاة في عزلتها) وبين داخلها، أي أن المرآة تتلصص على الذات الداخلية للفتاة وبمعنى آخر فأن الفتاة تتلصص على مرآتها (ذاتها) الداخلية، وكذلك فإن المرآة تتلصص على عالمها الخارجي المحيط بها والذي يشمل الفتاة والمكان وما يحيطها. ومن خلال حركة يدي الفتاة وتكرار جسدها بوصفه قرينًا معكوسًا في المرآة، يتم تكرار الذات او المشهد في الحاضر و(الآن) بخاصة، لأن التكرار عادة ما يتم من خلال التحول من الماضي واستذكاره في الحاضر، لكن تمتلك المرآة هنا القدرة على تجاوز الماضي, وعدم تكراره, وتأكيد الحاضر, وتكراره, مرة أخرى. ولهذا يمكن القول إن كلا من المرأة والمرآة له فلسفته, وشعوره, ومثيولوجيته، وهذا مايؤكده شعور الفتاة بوجودها أمام المرآة, وشعور المرآه بوجودها أيضا.
صورة رقم 5
الهمس الإستعاري السري:
صورتان تشكلان علاقة على قدر كبير من التشابه والاختلاف في الشكل والمعنى مع صورة اخرى رقم 3 توحي بالهمس السري. فالبعد الاشاري للصورة رقم (2), ترينا كفاً نسائياً مقلوبة على ظهرها وفوقها كف طفل صغير, وكأنها تتحرك ببطء على الكف الأولى. فالكفان يوحيان بالعافية, والعيش الهادئ المستقر، وهذا يؤكد البعد الطبقي والايديولوجي والنفسي والاجتماعي. ولكن النص اللفظي مختلف تماما.
(بَعْدَمَا مَاتَ..زَوْجُهَا..
غَطَّتْ شَفَتَيْهَا بالصُّرَاخِ,
فَقَدْ كَانَ العَشِِيقُ حَاضِراً..
وَهِيَ..
تسْتَدْعِيَ أَمْطََاراً غَزِيِرَةً,
كَي تُخْفِيَ فَرَحَهَا)
ومانراه فان العشيقة بعد أن مات زوجها, لابد ان تكثر من الصراخ لتمويه شعورها, فالعشيق كان حاضرا. ولكن بالرغم من الصراخ (الهمس السري) فان دواخلها السرية تستدعي أمطارا غزيرة quot;دموعاًquot; حتى تخفي فرحها بموته (همسها ـ نصف الجريمة) الذي سيكون موت الزوج سببا للقائها بالعشيق في مأتم هو العرس بعينه لأن العشيق سيكون حاضرا ولابد من استدعاء المطر ـ الفرح لموت الزوج وامتلاك العشيق كديمومة للحب ـ القناع من جديد. ولكن الصورة ترينا همس اليدين وكأنه همس يوحي بهمس الحب لأن(العشيق كان حاضراً) ويوحي أيضاً بحنين الطفل إلى رحم الأم غريزيا.
وقد استخدم الشاعر صورة اليد ذاتها مرة أخرى في مكان آخر من الديوان ولكن مع نص لغوي آخر, فهنالك همساً سرياً بين اليدين, يؤكد طبيعة العلاقة بين طفل مغمور بالحنان والعافية, مع أم معافاة في ظروف طبيعة دون حروب أو مجاعات من خلال تلامس الأيدي (الجزء) الذي يعبر عن (الكل). لذا فإننا نشعر وكأن حركة يد الطفولة تلامس يد الأم ببطء, وكأنها تريد أن يأخذ الهمس وقته الكافي. وما يوحي به النص اللفظي والصورة..
(عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أَنَّنَا نَنَامُ..
َلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ..
فَإِنَّ..
أَحْلامَنَا..
مُخْتَلِفَة)
صورة رقم 6
وبالرغم من هذا الهمس المتناغم بين الأيدي أو بين المرأة والرجل أو العشيق والعشيقة،إلا أن الأمنيات والأحلام مختلفة، وهذا بالتأكيد يشكل هوة حقيقية تدل على أن الحب بأهداف غير طاهرة، لا بد أن يحمل خلافه وموته.
وإذا قارنا هاتين الصورتين مع صورة أخرى (رقم 3) , لها ذات الحركة لكن مكان يد الطفولة في الصورة الأولى والثانية حلت محلها يد توحي بأنها يد طبيب تمسك يد سوداء معروقة صغيرة وكأنها محروقة (بسبب المجاعة والمرض) لدرجة أنها تبدو مثل يد مخلوق يعيش خارج كوكبنا. فإن مثل هذه اليد بخشونتها وضعفها تذكرنا بتاريخ الحروب, والأمراض والمجاعات والاستغلال في عالنا هذا، وكذلك بأزمنة الاضطهاد والنهب والعنصرية التي كانت تمارس ضد القارة السوداء. يشكل كل هذا موضوعاً مغرياً لشاعر يعبر من خلال الجزء عن الكل و يبحث عن ذاته, أو عن سبب البؤس في العالم الذي يحوطه, إنه همس سري خاص بين عالمين متناقضين.
الصورة الأخرى في الديوان (رقم4) ترينا طفلين ميتين ومقذوفين على الأرض بشكل مروع نتيجة لقصف كيماوي بالتأكيد. وبالرغم من اختلاف الزمان والمكان والموضوع فان هنالك علاقة ما بينهما. فالطفلان يوحيان إلينا, وكأنهما نائمان ببراءة, لولا آثار الدم على ملابسهما, ولولا خيط الدم المنساب على طول الخد الأيسر للفتاة, والذي يشكل وخزاً بالنسبة إلى القارئ. كما أن قبضتي الطفلة والطفل المضمومتين تتشبثان بالأرض بالرغم من جحيمها.
أما الملابس فتوحي بأنهما طفلان فلسطينيان أوكرديان, وهذا يحيلنا إلى العدوان الإسرائيلي, أو القصف الكيميائي لمدينة حلبجه, أو الى اطفال هوريشيما وناكازاكي بعد قصفهما, أو الى عارنا في الحروب الطائفية في افريقيا أو العراق. وهذه الصور بالذات هي التي دفعتنا أن نرجعها إلى مرجعيتها, إلى الماضي ومثيولجياته، وبهذا خلقت وجودها بوصفها صور واخزةً ومؤثرة، ومن خلال مكوناتها, ومرجعياتها, وترابطها مع صور أخرى فرضت وجودها وغنى تأويلها.
2) الانتظـــــــــــــار:
صورة رقم 7
في ديوان (شَجِن) هنالك عدة صور فوتغرافية مشتركة ولكن النص الشعري مختلف بينهما، و في كل صورة امرأة أو أكثر، هذه الصور تشترك في حالة واحدة هي الانتظار, وما يعبر عن هذا هو طبيعة جلوس وحركة جسم كل واحدة منهن.
ففي صورة (رقم5) نرى امرأة تجلس على شرشف فراش ملآن بالزهور, شابكة يديها على ركبتها، وهذه الحركة تدل على الانغلاق, وعدم السماح للآخر باقتحام عالمها، وكذلك غطاء رأسها, وثوبها الأبيض, ووقار الشيخوخة, ووجهها، الذي يوحي بالجَلد, كل هذا يحد من حيوية الانسان, وهذا ما يؤدي بها على أن تغلق عالمها, وتركن إلى العزلة, بعيدة عن هذا العالم الجديد الذي لاتفهمه. ومما يؤكد عزلة هذه المرأة النصُّ اللفظي المرافق أيضاً, فما يحدث أمامها لا يمكن أن تتفاعل به, لأن وجودها بوصفها إنساناً أصبح فائضا, بعد ان كانت هي التي تلد الحياة وتخصبها. إن النص يؤكد موت الخصوصية بالنسبة للمرأة بحيث أن كل شئ يمر داخلا وخارجا دون إذن سيدة الخصب.
(هَوَاءٌ لا يَنْتَهِي,
َمُرُّ..
دَاخِلا ً..
خَارِجاً..
دُونَ إِذْنِي)
ولا يختلف الأمر كثيرا لو نظرنا إلى صورة (رقم6) وقد جلست أربعة نساء من شمال أفريقيا بملابسهن البيضاء (وهو لون مشترك في هذه الصور) ونقابهن الذي لانرى منه سوى العيون. إنهن جالسات في حركة انتظار الغائب، المخلِّص، الأمل...الخ. و انتظارهن شبيه بانتظار المرأة التي نراها في صورة (رقم7), وهي تجلس متلفعة بعباءتها, أمام الأسلاك الشائكة, وبجانبها ابنها الصغير وقد وضعت أطراف أصابعها على شفتيها ونظراتها توحي بعدم التصديق لما تراه, إضافة إلى أن هذه الصورة تذكرنا بالمرجعيات التاريخية للاضطهاد، فوضع اليد أمام الفم يعبّر لا شعورياً عن إجبار الإنسان على التزام الصمت وإلغاء وجوده ككائن وذات.
إن الأسلاك, وحركة الجلوس, توحي إلينا بأنها تنتظر أمام سجن, أو معسكر للحجز أو هي في داخل هذين. إن نظرة ابنها الصغير هذا الذي يرافقها إليها, برأسه المائل خلقت علاقة وحواراً صامتاً عن عذاباتها. وما تفكيك النص اللفظي يدفعنا الى القول بان المرأة كفراشة سقطت, وبالتأكيد فإن الفراشة بهذا ستُحرم من فضائها, كما المرأة كذلك من أفقها الإنساني.
وفي صورة (رقم8) لامرأة أفغانية, وهذا ما توحي به ملابسها السود, وربطة الرأس التي لا تسمح لنا بأن نرى شيئاً من وجهها أو جسمها، نراها وقد جلست في المقبرة أمام شاهدة قبر. إن حركة يد المرأة وانسيابية أصابعها وهي تلامس شاهدة القبر توحي إلينا بعلاقة الحب والحنين بينها وبين صاحب القبر. ومما يزيد هذا هو رباط الحب الأبيض الملفوف حول شاهدة القبر، فإذا كان الهواء (الحب) الذي كانت تتنفسه هذه المرأة مع حبيبها، هو الذي يخلق وجودها، وتحاول أن تستبطئ الزمن عندما شعرت بأن حياتها ستتأكسد, وستُفرغ من ذلك الأمل (الهواء) الذي يود المغادرة. أن هنالك إحساس بعبثية الموت وهذا ما تؤكده خلفية الصورة التي امتلأت بشواهد قبور كثيرة تعبر عن عبث الموت ـ الحرب. ويمكننا القول إن موضوعات جميع هذه الصور, وكذلك نصوصها اللغوية المرافقة هو الانتظار والموت, وتاريخ الاضطهاد, وقد منحتنا أيضاً معرفة مرجعيتها المثيولوجية والآيديولوجية والميتافيزيقية.
صورة رقم 8
- أسطورية التاريخ والزمن:
يرى رولان بارت أن التركيب (syntax) من العناصر المهمة التي تؤثر في إنتاج المعاني الإيحائية وتعميقها في الصورة الفوتوغرافية، ويعني اجتماع عدد من الصور المتلاحقة لحدث ما من التاريخ المؤثر في حقب زمنية غابرة، أو من الواقع المعاصر، من أجل أن يكون تأثيرها الإيحائي واضحاً. وفي ديوان(شجن) هنالك نص بصري مكون من صورة مركبة تمثل شخصيتين ينتميان إلى ثقافتين أو إلى حضارتين مختلفتين (صورة رقم 9). وجمع الصورتين في صورة واحدة بالتأكيد يساعدنا على أن نفكر بمرجعيتهما التاريخية والأيديولوجية والأسطورية.
إحدى هاتين الصورتين كانت لأحد الهنود الحمر بشعره الطويل, وبقلائده المتنوعة ووجهه الأسمر المعروف الذي تشعر بسماحة دواخله, وطيبة روحه, بالرغم من قسوة ملامحه بسبب الحذر والخوف من التهديد بالإبادة التي تعرضت لها القبيلة الهندية دائماً، وفي وجهه المدور عينان صغيرتان حادتان كأنهما عينا الصقر الذي يعتبره رسول إلهه الأثير. هنالك قسوة أخرى بسبب العيش في طبيعة غاضبة في الكثير من الأحيان.
إن ملامحه هنا هي عكس الصورة التي رسمتها السينما الهوليودية للشعب الهندي الأحمر, الذي استغلته الأقوام الأخرى التي نزحت إلى أرضه, واحتلتها بحجة إنقاذه من التخلف, ومنحه إمكانية العيش في حضارة الرجل الابيض، وصورته كما لو كان لايُتقِن سوى القتل والسرقة, وأن وجوده على الارض غير ضروري مالم ينتمِ إلى الحضارة البيضاء. بجانب هذه الصورة صورة أحد فرسان السلاح الامريكي, بكل رفعته وتكبره, ومن السهولة أن يتبادر إلى ذهن القارئ اختلاف الحضارتين، حضارة تعتمد الحس في تفسير جميع الظواهر الطبيعية، وحضارة أخرى مرشدها القمر أوالشمس أوالليل أوالنهار والنار, بوصفها أسراراً معقدة, لايفهمها إلا رئيس القبيلة (السحابة الحمراء), وساحرها المقدس صاحب الكلمة ـ القانون. إنه يمتلك القدرة على الإصغاء لروح هائمة في الأثير ترعاه وترشده مستجيبةً إلى من يناديها من القبيلة.
هذا هو الهندي الأحمر بخياله الواسع الذي يمنحه قدرة الامتزاج بالطبيعة ومكوناتها، فالأرض عنده هي الرحم والأم الأولى. إنه الهندي الاحمر الذي يعتبر الكون والارض والسماء ملك للجميع يمكن أن يعيشوا بسلام، فينتمي إلى شعب يضيق بالمكان الواحد، يلتحف السماء ويتوسد رحم الارض، شعب يحمل خيامه ورماحه وخيله ليبارك أرض أخرى. وفي الليل يجعل من النجوم أرواحاً نيرة تضيء روحه, تقول إحدى اغانيهم:
(إنهم
هناك قلوبنا
في تلك السموات التي لانهاية لها).
فهل تعكس ملامحه كل هذا الذي ذكرناه؟
صورة رقم 9
صورة الفارس الأمريكي تجعله يبدو وكأنه كان عائدا للتو هو وفرقته من البحث عن الشعب الهندي الأحمر ليصطادهم كما الأرانب، إنه أحد ضباط جيش الفرسان الأمريكي بملابسه العسكرية الزرقاء المعروفة وقبعته العريضة المائلة إلى الجانب الأيسر, على شعر طويل, وربطته الملفوفة على عنقه، ونظرته الحادة الثاقبة، وشاربه الطويل المفتول، وقد عقد يديه بحيث كانتا مطويتين على صدره بكل عنجهية وصدود وتفوق، محاولة للاختباء من موقف غير مريح، وهو شعور ورد فعل سايكولوجي كما يؤكد ألن بيز في كتابه المهم (لغة الجسد), فصاحب هذه الوقفة بذراعين متصالبين يجعل منهما درعاً على صدره للدلالة على عدم قبول الآخر, وللدلالة أيضاً على الموقف الدفاعي والعدائي والسلبي، ربما كان ذلك نتيجة لشعور هذا الضابط بأنه يدافع عن الحضارة الغربية ضد السكان الأصليين، وهو في الوقت ذاته صاحب موقف سلبي إزائهم.
إن هذه الصورة لابد أن تحيلنا إلى تاريخ الإبادة الطويل حد الإلغاء ضد الشعب الهندي الاحمر، هذا هو الوخز الخفي الذي يجرح القارئ ويجذبه في آن، فهو لابد أن يرفض هذا التاريخ المتوحش. والقصيدة المرفقة تعبر وتتطابق مع هذا التاريخ:
(كُلُّ ظفْرٍ قَاطِعِ.
لَهُ ذِكْرَى..
لاتَحْتَفِظُ الْيَدُ بِهَا،
إنْ فَتَحَتْ.. قُبْضَتَهَا
لِغَريبْ)
لدينا إذن إشارات, ودلالات, توحي بتأويل سميولوجي في مثل هذا الشعر البصري, أوالصورة الشعرية الأدبية, والصورة الفوتغرافية بوصفها فضاء دلالياً بصرياً.
يمكننا القول إن القراءة السميولوجية, والتأويل البصري للصور الفوتعرافية واللوحات التشكيلية والمعمار والنحت, تمنحنا مجالات, وفضاء آت مهمة لدراسة أيديولوجيات, وأساطير المجتمعات. لهذا فإن تحليل الصورة الفوتغرافية المرافقة للنص الشعري, يجعلنا نؤكد أنها تشكل لغة بصرية رفيعة مرادفة للغة الأدبية. وفي هذا المجال فإن الإمكانات التي يمنحها شعر علاء عبد الهادي للتأويل البصري في هذا العمل المتفرد, لا تخضع إلى استعارات لغوية فحسب, بل إلى لغة بصرية تؤدي إلى تأويل بصري غني بالرمز والدلالة، وهذا متأت من خلال وعي الشاعر بثقافته البصرية, وخلفيته الدرامية بصفته شاعراً وناقداً مسرحياً أكاديمياً، وهذا ما يمنح مجالاً للتحليل, فأنت ترى ما بعد الحدث أو ما بعد المفردة من خلال تجاوز تقنين اللغة الأدبية المعجمية المغلقة في كثير من الأحيان.
كان استخدام الصورة الفوتغرافية في ديوان شجن لعلاء عبد الهادي بوصفها لغة كائنة بذاتها, وليست لغة تفسير لمعنى الكلمة فحسب، مما منحها أفقاً شعريا. وبلاغة الصورة وسريتها هي التي تمنحها سمتها المرئية من خلال تأكيد بصريات التأويل الشعري, ومن خلال التراسل البصري بين الصور. (فالصورة احتفاء بالأشياء والجسد، وهما أساس الصورة وجوهرها, هذه الصورة التي غالباً ما تكون مقاومة للموت وللزمن).
كوبنهاكن