محمد الحمامصي من القاهرة: يسعى هذا الكتاب (أخناتون الفرعون المارق بين الأتونية والموسوية) للبروفسير دونالد ريدفورد أستاذ الدراسات الكلاسيكية والدراسات المتوسطية القديمة بجامعة بنسيلفانيا العامة إلى محاولة وضع إخناتون في سياق عصره، فضلا عن وضع الأدلة الأولية والنصوص الأصلية تحت عيني القارئ، مؤكدا أن إخناتون لم يكن يمثل بأي حال من الأحوال ظاهرة معزولة منبتة الصلة بالزمان والمكان اللذين انبثقت فيهما، فلقد كانت الحركة التي قادها إخناتون في مختلف الأحوال نتاجا طبيعيا للقرون التي سبقت عصره فالعبادة التي دعا إليها ما كان لها أن تظهر إلى الوجود إلا في ذروة إمبراطورية عظمى.
الكتاب يتبنى نظره جديدة تجاه إخناتون وبرنامجه و كذلك تجاه فترة أفول بيت أو عائلة التحامسة، والكتاب يسند هنا إلى النتائج التي أسفر عنها البحث الحالي في الكرنك و إخناتون (تل العمارة) وأماكن أخرى في الشرق الأوسط، ويقول دونالد ريدفورد : لقد تحاشيت استخدام اسم العمارنة عند لإشارة إلى موقع أخيتاتون كما لجأت طلبا للاتساق التاريخي إلى أطلاق أسم إخناتون على الملك الفرعون بعد السنوات الخمس الأولى من حكمه وحسب. وعلاوة على ذلك رفضت اسم (ياتي) الذي نصادفه في بعض الأحيان في الأدب الأكاديمي كاسم للإله الذي دعا إليه إخناتون ليس لمجرد أن الاسم ينطوي على رسم غير صحيح وحسب بل ولأن فكرة وجود إله يسمى (ياتي) إنما تنبع من فهم خاطئ للكيفية التي نظر خلالها إخناتون إلى إلهه.
ويضيف دونالد ريدفورد : تعتمد معظم المواد العلمية أو المعلومات في هذا الكتاب على الأعمال التي انصبت في إطار (مشروع معبد إخناتون )، و منذ 1966، على الآثار التي وصلت إلينا للفرعون المارق في الكرنك و الأقصر في طيبة القديمة. ولما كان إخناتون قد قضى سنوات حكمة الأولى، وحسب، في هذه المدينة الجنوبية، فإن الكتاب قد يبدو وكأنة يقتر في الحيز الذي يفرده للسنوات الأطول التي قضاها من عمره في عاصمته الجديدة في (أخيتاتون)، ولكن هذا الخلل إذا ما سلمنا أصلا بوجوده، قد تثبت جدواه، فالسنوات الأولى هي فترة التفتح والتجريب،والتقديم الصحيح لها سوف يكون أمرا على جانب كبير من الأهمية في تفسير مجمل الحركة التي قادها إخناتون هل حقا هناك تشابه يجمع إخناتون بنا فلنحشد أدلتنا ونمتنع عن المخاطرة بتقديم إجابة ما على هذا السؤال إلا في الفصل الأخير.
ويري دونالد ريدفورد إن إخناتون كشخص تاريخي مختلف بصورة ملموسة عن الصورة التي خلقها لنا كتاب العوام الواسع و الانتشار عنه. فلم يكن إنساني النزعة، وبكل تأكيد لم يكن ليبه ذلك الرومانسي الأنسانوي العطوف.أما المحاولة التي ترمي إلى رسمه كشخصية تراجيدية أشبه بالمسيح فليست سوى تزييف بحث كما لم يكن معلما لموسى : بون شاسع يفصل بين وحدانية جلالته التي تتسم بالصرامة والجبر والتعالي وبين الواحدية العبرانية التي نطل عليها في سائر الأحوال خلال منشور مشوه من النصوص التي دونت بعد 700 عام من وفاة إخناتون وبين المزمور رقم 104، و إلى ضرورة أن نأخذ هذه التشابهات على محمل الجد إلا أن الأمر هنا ليس أمر تأثير أدبي بل أمر استمرار في التقاليد الشعبية في المراكز الشمالية للإمبراطورية المصرية التي كانت يوما ما عظمي لموضوعات تلك الترنيمة التي تعد عملا شعريا رائعا.
ويكشف دونالد ريدفورد أن أخناتون : رجل يعد قبيح المنظر بالمقاييس المقبولة لعصره ويعيش صباه في عزلة تامة في القصر الملكي بالقرب من أمة على وجه التأكيد ولا يحظى من جانب والده سوى بالتجاهل على وجه التقريب، يبزه أخوته وأخواته وغير واثق من نفسه، ثم يعانى سوء حظ لا مثيل له بارتقائه عرش مصر بإمبراطوريتها، وفى هذا الصدد لا نعرف شيئا عمن أو عما آثر عليه في سنوات تكوينه الأولى، لكنه لم يترب على مقربة من بلاط والده كما أننا لا نملك أي دليل على إقامته لمدة ما في (أون) ونتيجة لذلك تولد عنده خوف و نفور نحو حاشية والده التي ضمت إداريين موهوبين، وكذلك نحو العائلات النبيلة التي ينتمون إليها وامتدت ظنونه وشكوكه إلى أولئك الملوك الذين أحتفظ والده بعلاقات حميمة معهم. وهناك ما يدل على أن الرجل كانت تعوزه القدرة على الحكم على الأشخاص، وكان فريسة لتملق المتملقين، ورغم أنه كان على وعي بافتقاره إلى الحزم إلا أنه تبنى سياسة تتسم باللين تجاه أقاليمه الشمالية وهي السياسة التي حالت بينه وبين اتخاذ إجراءات حاسمة لا تعرف التردد في المجال الأسيوي، ولما كانت تعوزه المواهب الإدارية فلقد كان راغبا في ترك إدارة شؤون الحكم اليومية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي في أيدي الوسطاء العسكريين منهم والمدنيين كي يتابع هو برنامجه في الإصلاح الديني كما تصوره.
ويضيف دونالد ريدفورد : لم يكن إخناتون بصرف النظر عمن يكونه على صعيد آخر، بالمثقف ذي الوزن الثقيل فلقد عجز على أن يفهم وإن كان قد فعل فإنه يكون قد عجز عن أن يقيم الدور الفعلي والمحتمل للأسطورة الدينية، وقد يكون قد تصور أنها وسيلة لإخفاء الإلاه بدلا من إبرازه للعيان وقد يكون موقفه هذا بمثابة رد فعله على النزعة الكلبية المضللة للعصر، تماما مثلما فعل لوثر في القرن السادس عشر بعد الميلاد، ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن إخناتون يكون عندئذ قد ارتكب خطيئة الخلط بين شوارد النسق وبين جوهره، ذلك لأن الأساطير تمثل عناصر البناء في أي دين حتى اليهودية ـ المسيحية، فرغم أن الأساطير انحدرت إلينا في غالب الأحيان كأمتعة بالية من مراحل موغلة في القدم أو مربكة نوعا ما من مراحل تطورنا العقلي إلا أنها تضع تحدي إعادة التفسير على مستوى أرقى، فضلا عن التكامل الواحدة مع الأخرى في سبيل توفير رؤية جديدة ومتماسكة لما وراء الطبيعة، ولقد أرتفع اللاهوتيون المصريون القدماء على غرار ما يفعل اللاهوتيون المحدثون إلى مستوى التصدي لهذا التحدي ونجد في وثائق من قبيل (اللاهوت المنفي) و(ترانيم المملكة الحديثة للإلاهين بتاح وأمون )رسائل فلسفية على درجة عالية من الإنجاز، فما الذي جاء به إخناتون كبديل لها طالما أعلن عليها اللعن؟ الجواب لا شئ، و إذا كانت مجموعة الأساطير في أوسع معاني المصطلح الوسيلة الوحيدة للوحي المقدس بصرف النظر عن رؤية الصوفي فإن ما نافح عنه إخناتون فليس إلا إلحادا بالمعنى الدقيق للكلمة.
وينهي دونالد ريدفورد كتابه قائلا : يظل أخناتون في جوهره وبصرف النظر عن كل ما يمكن أن يقال لصالحه حاكما شموليا، إذ كان يجهل كل الجهل حق الفرد في أن يختار بحرية، ولقد انتصر لوجود قوة سماوية كلية تطلب خضوعا كليا وتزعم أنها الحق الكلي، ولا يتوقع أحد أي وحي أو أي إلها آخر، الحقيقة أنني لا أستطيع أن أتخيل نظاما آخر أشد إرهافا يقود الحظ خطى المرء إلي العيش في ظله.
والكتاب يجئ في مقدمتين إحداهما للمترجم بيومي قنديل والأخرى للمؤلف دونالد ريدفورد، وخمسة عشر فصلا، و معجم خاص بهوامش المؤلف وآخر لشرح الأشكال الواردة في الكتاب، وملحق خاص باللوحات والأشكال والاختصارات.