1
دأبَ صلاح أبو سيف، عَلَمُ السينما المصرية، على التأكيد بأنّ النصّ الجيّد من الممكن أن يخلق فيلماً بسويّته الجيّدة، نفسها. هذه المقولة، نحاولُ هنا مقاربتها بالنسبة لرواية quot; السمّان والخريف quot;، للكاتب الكبير نجيب محفوظ، والتي حُوّلتْ إلى عمل سينمائيّ في عام 1967، من بطولة محمود مرسي ونادية لطفي. هذا العمل، المُتعهّد إخراجه حسام الدين مصطفى، إعتبرَ واحداً من أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية. ثمة أفلام اخرى للمخرج، في القائمة تلك، العتيدة؛ لعلّ من أهمها quot; رجال في العاصفة quot;، العائد لمرحلة بداياته في خمسينات القرن الماضي. ويبدو أنّ مخرجنا هذا، كان في مستهل رحلته، الإبداعية، يَعِدُ فعلاً مع آخرين، من أنداده، بمستقبل باهر لسينما موطنه. وكان أن قدّمَ بعضاً من الأعمال الجيّدة، عموماً، في عقد الستينات، التالي؛ مثل quot; النظارة السوداء quot;، عن قصة لإحسان عبد القدوس، و quot; الطريق quot; عن رواية لمحفوظ، و quot; جريمة في الحيّ الهادئ quot;، المُقتبس من أحد أفلام هيتشكوك. ولكنّ حسام الدين مصطفى، الذي كان يصِفُ نفسه بـ quot; عبقريّ الإخراج quot; ـ كذا، ما أسرعَ أن تهافتَ في مهبّ الأعمال الرديئة، التجارية، إعتباراً من عقد السبعينات وحتى وفاته في عام 1997. ويمكن القولَ هنا، بأنّ عدداً من أسوأ الأفلام، من تلك المرحلة الموسومة، قد إرتبط بإسم هذا المخرج؛ كما في quot; مدرسة المشاغبين quot; و quot; الباطنية quot;.
2
في هذه المقام، يتوجّب تبيّن مغزى مقولة المخرج أبو سيف، عن أهميّة النصّ بين عناصر الفيلم، الاخرى؛ هذه المقولة، التي جسّدها بنفسه خلال تعاونه المطوّل، المُثمر، مع نجيب محفوظ؛ وخصوصاً، في فيلم quot; بداية ونهاية quot;. إنّ الأعمال الأدبيّة، كما هوَ معلوم، منذورة أساساً للقراءة. ولكنّ الفنّ السابع، المُقتحم حياتنا الروحية منذ بدايات القرن العشرين، الآفل، قد حقّ له أن يواشجَ نوعاً من عروةٍ، لا تنفصم، مع النصّ روائياً كان أم قصصياً أم مسرحياً. الفيلم، مثله في ذلك مثل النصّ، يُقدّم بالأساس حكاية. إنّ مخرج الفيلم، والحالة هكذا، عليه أن يكون ذا ذائقة أدبيّة، مرهفة، وأن يُسهم في كتابة أو إعداد السيناريو مع الكاتب أو السيناريست. علاوة على أنّ من الأهميّة بمكان، أن يُدرك المخرجُ أفقَ النصّ، المُراد تجسيده سينمائياً، وأن يستلّ منه مغزى الحكاية، عبرَ المَشاهد المُقترحة. العناية بإختيار الممثلين، المناسبين، المُلقى على عاتقهم أداء أدوار الشخصيّات، الرئيسة، لا يقلّ أهمية أيضاً. فيلم quot; السمّان والخريف quot;، على رأينا البسيط، قد نجح إلى هذه الدرجة وتلك في أن يكون أميناً لبعض المعايير تلك، الفنيّة، التي ذكرناها. وفضلاً عن صواب إنتقاء النصّ المحفوظيّ هذا، فإنّ المخرج إعتمد في السيناريو على أحد أبرز الكتاب الصحفيين آنذاك؛ وهوَ أحمد عباس صالح. كما كان موفقا جداً ترشيحُه للممثلين الرئيسيين في الفيلم. بيْدَ أنه يبقى التأكيد، بأنّ هذا العمل، السينمائيّ، لم يتمكن من الإرتقاء لمستوى نصّه، الروائيّ، فبدا بتشتت لقطاته إلى تفاصيل ثانويّة، كما لو أنه أسحَقَ بعيداً عن جوهر الحكاية ومغزاها.
3
رواية quot; السمّان والخريف quot; ( 1962 )، كانت أحد أعمال نجيب محفوظ، التي شكلت منعطفاً في أسلوبه، بشكل خاص، بُعيدَ إصداره quot; الثلاثية quot; في أواخر خمسينات القرن الماضي. وإذ تخلى هنا، في أسلوبه الجديد، عن تقريرية السّرد والحوار، فإنّ واقعيّته قد تماهت مع لمحات وجوديّة في تناول المشكلات الإنسانيّة، وبشكل أكثرَ عمقاً. موضوع هذه الرواية، المتمحور حول التغيّرات التي طرأت على إنسان الطبقة المتوسطة إثرَ الثورة الناصرية؛ هذا الموضوع، سيعتمده كاتبنا أيضاً في رواياته اللاحقة، خلال عقد الستينات. والطبقة المتوسّطة، التي عمادها فئة موظفي الدولة، كانت التربة الخصبة للحركة الوطنية في مصر بين الحربين. لا غروَ إذاً أن تحتضن هذه الطبقة حزبَ quot; الوفد quot;؛ المُعارض اللدود للملكية والحماية الإنكليزية على السواء. على أنّ محفوظ، وبالرغم من جوّ الإرهاب الناصري السائد وقتذاك، لم يتوانَ عن تقديم نظرة موضوعية في quot; السمّان والخريف quot;، حدّ أن يتعاطف مع بطلها quot; عيسى الدباغ quot;؛ العضو النشط في الحزب الوفدي. ولكنّ السيناريست والمخرج، حينما تمّ إعداد الرواية كفيلم سينمائيّ، ما كانا بجرأة مؤلفها ونزاهته وموضوعيّته. محمود مرسي، الممثل المبدع، المُجسّد دور quot; عيسى الدباغ quot;، هوَ المتعيّن عليه بأدائه الفائق الكمال في تعبيره، أن يلافي ثغرات السيناريو، الموصوفة، كما وأن يشدّ عواطف المشاهدين للشخصية تلك. ربما لن نتجنى هنا، إذا ما أكدنا أنّ محمود مرسي ( الذي سبق له ودرس الإخراج، في باريس وروما ) كان أكثر وعياً من المخرج حسام الدين مصطفى، في فهمه لشخصيّة بطل quot; السمّان والخريف quot;، وبالتالي نجاحه المؤكد، الباهر، في رسم ملامحها وإنفعالاتها وأهوائها وتناقضاتها.
quot; عيسى quot;، بطل الفيلم، كان موظفاً مُعتبَراً ومناضلاً حزبياً، يعيش في دعة شبابه وعزوبيّته، وينتظر أياماً سعيدة، واعدة. على أنه لا يلبث أن يلج في أزمة فكريّة، داهمة، أصدَتْ في نفسيّته آثارها وكادت أن تودي به إلى الإنهيار التام. ها هوَ بطلنا في القاهرة، مسقط رأسه، يعاني من الضياع والإحباط بعدما شعرَ بأنه صورة عن جيله ذاته، الحالم، المفيّق على هدير مجنزرات الإنقلابيين في 23 يوليو / تموز 1952. سلبيّة المثقفين إزاء ما يجري، والمتمثلة بصديقه الوفدي، القديم، quot; سمير عبد الباقي quot; ( النجم عبد الله غيث )، تجعلُ بطلنا يصمم على قطع كلّ صلة بالماضي. ما عتمَ أن وجدَ نفسه في الإسكندرية، باحثاً فيها عن أمان الروح كما عن متطلبات الجسد. ليلة إثرَ الاخرى، يمضي إلى quot; الكورنيش quot;، المُحاذي للبحر الساحر، متأملاً عِبَرَ ما مضى من حياته، أو سعياً ربما خلف إحدى بنات الهوى، اللواتي تعجّ بهنّ هذه المدينة الكوسموبوليتية. quot; ريري quot;، المومس الفتيّة، تلتقي في إحدى ليالي البحر تلك، مع quot; عيسى quot;. إنها قادمة من القرية، وترغب أيضاً ببتر كلّ ذكرى من ماضيها، المؤلم، الذي سلمها لحاضر، مُزر، ينتهكُ جسدها وكرامتها. بطلنا، الباحث عن متعة عابرة، يمضي معها إلى شقته الصغيرة. على أنّ ما لم يكن في حسبانه، أنّ اللقاء العابرذاك، سيكون فاتحة لعلاقة وثيقة، مديدة، مع فتاة الليل، لن يفيق منها إلا حينما تفجؤه هذه بالقول: quot; أنا حامل، منكَ quot;. تشديد quot; ريري quot; على المفردة الأخيرة، كان ولا شكّ إحالة ً للمهنة البائسة التي كانت ترتع قبلئذٍ في وحُولِها. على أنّ quot; عيسى quot;، في ثورته العارمة على الفتاة، لا يريد أن ينصت لشيء، ولا يلبث أن يطردها بفظاظة إلى الطريق. المشهد التالي، الذي نجدُ فيه quot; ريري quot; خلف نافذة المقهى، تنظر مُستعبرةً بتوسّل وأمل إلى quot; عيسى quot; الجالس ثمة، غير المُبالي بحالها؛ هذا المشهد الفذ، أعتبره من وجهة نظر شخصيّة، من أروع ما قدّمته السينما المصرية، في تاريخها المئويّ بأسره: إنها نادية لطفي، الممثلة القديرة والإنسانة المثقفة، التي رسّخت شخصيتها الألقة، الفاتنة، في وجدان محبي الفنّ السابع وإعتباراً من نجاحها، الساحق، في أداء دور quot; ريري quot; في فيلمنا هذا.
من ناحية اخرى، لكأنما هذا الموقف، المتعيّن على البطل quot; عيسى quot; مواجهته، إن هوَ إلا إشارة خفية من كاتب النصّ، الروائيّ؛ إشارة في غاية الرمزية، عن العلاقة الإشكالية بين الريف والمدينة في تلك الأيام العصيبة، المتأثرة إنقلاب العسكريين: فهؤلاء الأخيرون، المنحدرون عموماً من القرية، إقتحموا المجتمع المدينيّ بشعارات براقة، مضللة؛ تماماً كما تفعله مواطنتهم هذه، quot; ريري quot;، الريفيّة، المُقتحمة حياة quot; عيسى quot; بكلمات الحبّ، الكاذبة ـ بحسب إعتقاده طبعاً. على أنّ بطلنا، لن يجد الراحة والإستقرار، بعد طرده لعشيقته. الحاجة الماديّة، تدفعه إلى تجربة زواج، تعسة، مع إمرأة غنيّة تكبره سناً. وكان quot; عيسى quot; آنئذٍ في أشدّ حالات الوحدة والخيبة، عندما تشاء المصادفة أن يعثر ثانية على quot; ريري quot;. المُفارقة هنا، أنّ فتاته كانت على حال بيّن من الإستقرار والدعة، تدير بنفسها بقالية موروثة عن رجلها الراحل، المسنّ، الذي سبق له وتبنى الطفلة التي أنجبتها. أكثرَ من محاولة، جاهدَ خلالها quot; عيسى quot; عبثاً أن يُعيدَ علاقته بعشيقته، القديمة، أو على الأقل، أن تسمح له لقاء إبنته. ها هوَ تحت تمثال ملهمه، سعد زغلول، مؤسس quot; الوفد quot;، المُشرف على حديقته، الأثيرة، التي أعتاد قضاء أوقات ضجره فيها. يلتقي هنا مع شابّ، مثقف ( النجم عادل أدهم )، من مرتادي المكان. إنه مثله؛ quot; مناضل سابق quot;، ولكن في أحد الأحزاب اليسارية، ويحاول جاهداً التأقلم مع الحياة الجديدة. رواية quot; السمّان والخريف quot; تختتم بمشهد لقاء آخر، مُلتبس، بين quot; عيسى quot; والشاب ذاك. ولكنّ صانعي الفيلم، لم يأبهوا بالمرامي الرمزيّة لمؤلف الرواية، حينما عدّلوا المشهدُ الختاميّ نفسه: على أنغام النشيد الوطنيّ، تقتربُ quot; ريري quot; المحتضنة إبنتها من quot; عيسى quot;، ثمّ لا تلبث أن تعتنقه تحت أنظار صاحبه، الشاب المثقف، كما وصاحبه الآخر، التمثال المُلهم.. !