بموت محمود درويش تنطوي صفحة كبيرة من الشعر الذي كان يستمد وجوده من الصراع العربي الإسرائيلي. لقد استطاع محمود درويش بقدرته

اقرأ أيضا:

محمود درويش: الشاعر الذي خدشته المؤسسة

رحل مجنون التراب وبقي التراب

محمود درويش... لم يكن وفيا سوى لفلسطين

عباس ينعي محمود درويش ويعلن الحداد في الاراضي الفلسطينية

الفائقة على امتصاص ما يتجدد في التجريب الشعري الحديث، وصبه في مسار سياسي نضالي غالبا ما يصطدم وطموحات التجريب الشعري نفسه. ومع هذا نجح درويش في ان يتفرد بتجربته تفردا يميزه، من ناحية، عن جل الشعراء الذين يصنفون في خانته النضالية، ومن ناحية أخرى، عن كل دعاة الحداثة: هكذا أصبحت صورته غامضة لا هو فعلا شاعر مقاومة، وفي الوقت ذاته هو خلاصة هذا الشعر، ولا هو شاعر حديث لكن تجربته تشكل جزءا من هذه الحداثة الشعرية المحضة.

لقد تعرفت عليه، في ظروف اختلط فيها السياسي بالتجريبي: إبان غزو الكويت وتحريرها. في كل لقاء كان يحافظ على صورته، على عكس ما كان يكتبه،كمتفتح سياسيا خصوصا في قضية الحوار مع إسرائيليين، ومتبن لتجربة قصيدة النثر التي كان، في العمق، لا يرى فيها أي شعرية، خصوصا عام 1990. أتذكر اني دعوته ذات يوم دعوته للعشاء في بيت الروائي الإسرائيلي (من أصل عراقي) شمعون بلاص، فلبى الدعوة بكل طيبة وأهدى الي نسخة من كتابه الجديد آنذاك quot;أحدَ عشرَ كوكباquot; (تحمل رقم 51 ، من طبعة مرقمة من 1 الى 125). وكتب على صفحتها الأولى هذا الاهداء: quot;إلى عبد القادر الجنابي الشاعر، والمغامر والصديق مع خالص المودة / باريس 12/12/1994quot;. لم أشعر بإن في إهدائه تملقا.. وإنما على العكس أشعرُ بصدقه، وبالتالي برغبته الصادقة في الصداقة مع كائن كان يدعو علنا الى التطبيع والحوار مع الشعراء الإسرائيليين (وهذا ما يقفالنظام الصهيوني نفسه ضده)،ويكره كل ما يسمى بـquot;شعر المقاومةquot;. بل شارك جديا بقصيدة في quot;فراديسquot; بالاشتراك في استفتاء حول حرب الكويت (العدد الثالث)... لم اكن متفقا معه في كثير من النقاط. وقد نشرت قصيدة وقتها في quot;القدس العربيquot; مهداة اليه تحت عنوان: quot;ليت الحصان كان وحيداquot;! جاء فيها:

quot;القضية، ها هي

كيلو مترات

نجمٌ بليل

في مواجهة البرد

في لجّ سلام

تلحسُ الحربُ ضفافـَه.quot;

مرت الأعواموجاءت حرب تحرير العراق، وسال دم كثير تحت قنطرة التغييرات. بدأت المعالم تتوضح: درويش رغم كل تفهمه لما تقول، يبقى ملتزما بما كان مرسوما سلفا في ذهنه. مكانه المقاومة سواء كانت محقة أم لا، فتجربته الشعرية قائمة في هذه الزاوية من صراع الكلمة شعريا مع العالم. أي خروج على هذا الخط ينهيه شعريا وسياسيا معا... وأعتقد انه كان واعيا بهذا الكابوس الملازم لكل موقف شعريا كان ام نظريا. لذلك كان كل ديوان جديد يصدر له يحمل هذا الهم: الرغبة في ان يكون مساهمة جديدة في الشعر الصافي التجريبي المحض، وفي الوقت ذاته في إرضاء الذوق الشعبي المحدد بالقضية الفلسطينية: بين التصفيق له على طريقةجمهور الدهماءالعامي، وبين همسات الشعراء الشباب بالاقتراب منه كشاعر مجدد.

لقد مات درويش... وفي نفسه شيء من هذه الطفرة التي كان يحلم بها: من الطقسية النضالية للكلمات إلى الكلمات نفسها كطقسية مستقلة بذاتها. لكن موته هذا، الذي قد يبدو مبكرا لأصدقائه،أضفى لمعانا للمأزق الذي كان يتغذى عليه شعر محمود درويش، بينما هناك شعراء عُجُز موتهم سيأتي جد متأخر، إذ كان يجب عليهمان يموتوا قبلسنوات عديدة، حتى يبقى لهم أثر سام في المعضلة الشعرية؛ تاريخ القصيدة الحق، لا مجلدات من الأوراق الصفراء في متاحفهم التي بنوها قبل ان يموتوا.

تحية إلى ذكرى محمود درويش الذيفضّل أن يسير على خيط رفيعبين هاويةالسياسة وفضاء الشعر. والتاريخ هو الحكم.