كان من الضروري والواجب أيضاً، أن يدفن هذا الحصان، الذي مات منذ فترة طويلة على ما يبدو.
هذا ما همسا به الشيخ والطفل، بعدما صدمهما مشهد تعفن وإنتفاخ الحصان.
كان الحيوان نصف المتعفن، ملقياً في قعر الوادي، ويبدو أن فارساً ما قد تركه هناك، لكي يلقى هذا المصير.
ولكن لم يره أحد ماشياً.
لقد توارى عن الأنظار منذ أسابيع عديدة.ومع هذا ما زالا، الشيخ والطفل ينتظران.
كانا جالسين على مدار الوقت، منذ شروق الشمس الى هذا المساء.الخيَّال الذي ابتلعته الريح، كأنه ذاب بعيداً عند حافة العالم، هناك بقيا مسمّري النظر خلف غيابه الغامض، على أمل مرير بالرجوع.
من القمة أعلى سفح الوادي، كانا يجوبان بنظرهما المرتفعات والمنخفضات، في السهل المترامي الأطراف، الذي يمتد فوق التلال، بينما يتراءى لهما بين الحين والآخر خَيَال قامة إنسان، هي في الواقع جذع شجرة محروق.
الشمس ما زالت معلقة ً، مثل عليل متورم العينين، من الجهة المقعرة لدرع السماء، حيث ينبسط شعاع إحتراقها.
أولى الغيوم بدأتْ تبين في الأفق، ولولاها لكانت السماء عادية جدا ً مثلما هي، زرقة خفيفة وحلم هادئ.
شئ ثقيل من حقيقة، هنا إذ تجتمع الأحلام والآمال في شئ واحد.
ولكن أحداً لم يره ماشياً.
ولم يترك أثراً سوى هذا الحصان الميت.
الشيخ والطفل كانا قد عزما منذ وقت، على أن يحفرا قبراً، بينما الشمس تعلن عن مقدم المزيد من الغيوم.السماء التي كانت تسلب العقل بألوانها المدهشة، أصبحت ملطخة ً ببقع كأنها الرماد.وهذا ما دفعهما بقناعة مطلقة أن يحفرا في أسفل السفح.
لم يتبق من جسد الحصان، سوى جلده وبقايا فخذ، بعدما قضى في هذا الوادي.
ذباب كثيف يتطاير حول بقايا الحصان.بينما الشمس تصبُّ حرارتها على الفطيسة بدون إنقطاع.لذلك ليس ثمة داع لهذا التأخير، وليست هناك فائدة، من هذه الإطالة في عملية الدفن إلى هذا الحد.
قطرات المطر الأولى بدأت تنث، ضئيلة وواهنة، وقد كان هذا كافياً بأن يزيح القشرة الخفيفة لأرض الوادي.
الشيخ والطفل شرعا بأذرعهما يحفران في الطين، وبأكفهما إنهمكا يزيحان التراب الذي بدأ يتطين.
الكف تلو الكف.حتى غدت الحفرة واسعة بما فيه الكفاية.وبجهدهما الذي فاق قدرتهما، تمكنا أخيراً من سحب بقايا الحصان إلى قاع الحفرة، وأودعاها إلى القبر البليل، الذي غُطيَ بكتل التراب والأعشاب.
بينما كان المطر يهطل بغزارة.توقف الأثنان برهة من الزمن وتأملا المكان بأسى، ثم أدارا ظهريهما إلى القبر ومضيا صعودا ً.
المطر ما زال يعصف.ومن القمة التي وصلا إليها للتو، والتي كانت تشرف على سفح الوادي، من هناك مدا بصريهما عبر القرية التي كان يغسلها المطر المدرار.
لكن متى سيعود ذلك الخيَّال؟
فلم يره أحد ماشياً.
السماء كانت تصرخ مطراً، عاصفة من نيران الطلقات.ثقيلة من شدّة السقوط، ومبللة من الألم. كانت الريح تُجَمّدُ الخدود وحبات البَرَد تجلد الوجه، دون جراح، إنما تذوب مُلهبةً قشعريرة الجلد، صوت المطر يصمُّ كل شئ، فيما الشيخ قد سمح لرؤيته أن تمسَّ السماء.
كان هنالك شخص يردد مع نفسه بصوت خفيض:
أهي دائماً هكذا؟
ثم مسك يد الطفل ولاذا بعيداً في الوادي..
لا أحد رآه ماشياً
ولا أحد أيضاً رآهما ماشيين.
إنشقت السماء والمطر يهطل عاصفاً. الأرض كأنها ذابت. ببطء أصبح الوادي ممتلئاً بالمياه الموحلة..
لكن أحداً لم يرَهما ماشيين.
في الأخير كان الفيضان قد جرف الحصان الميت المقبور، الذي لم يبق منه سوى نصف جمجمة ضاحكة باتجاه الغيوم السوداء.
أهي دائماً هكذا؟

*يعقوب ستيرموسه كاتب دانماركي.