عبد الجبار العتابي من بغداد:حين تمر ذكرى رحيل الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، لابد من احياء الذكرى، واقامة احتفالية مناسبة له، وكان الادباء ومحبو السياب يوم الاربعاء (الرباع عشر من كانون الثاني / يناير) على موعد مع اصبوحة مميزة ضمن اصبوحات اتحاد الادباء والكتاب في االعراق، كان صاحبها الاستاذ الدكتور مالك المطلبي، لذلك كان الحضور مميز ايضا، وهذا ما دعاه الى ان رحب بهم ويحييهم تحية خاصة لانه كما قال يؤمن ان حضور اصبوحات الاتحاد عفوي للفائدة التي فيها.
ابتدأت الاصبوحة بتقديم للناقد علي الفواز قال فيه: (السياب ظاهرة عراقية وعربية تحول معطفه طوال خمسين عاما الى مايشبه معطف غوغول، وتحول قميصه الى مايشبه الخطايا، السياب وضعه عقل الشعر العربي في منطقة الشاعر الثوري والمجدد، ووضعه الشعراء الستينيون فاضل العزاوي وسامي مهدي في منطقة الشاعر التقليدي الذي اعاد انتاج قصيدة العمود الشعري، لكن السياب رغم كل هذا ظل ظاهرة كبيرة وصاحب خطوة مولدة في النص الشعري العربي)، واضاف الفواز متحدثا عن ورقة المطلبي التي سيقدمها في الاصبوحة: (تحاول ورقة المطلبي ان تقرأ مرجعيات السياب الكلاسيكية واثرها في خطابه الشعري الذي يبدو في نظر المطلبي بأنه شاغر كلاسيكيا ايضا، لكنه اسهم في خرق النظام الاستعاري للقصيدة العربية وهو بهذا التوصيف يكون احد الذين ورثوا مغامرة ابي تمام الشعرية).
وكعادته كان مالك المطلبي يتحدث باسلوبه المحبب الشيق، ترى بين يديه اوراقا يقلبها بين حين واخر، لكنه لم يتطلع اليها الا للتذكر كما يبدو، فهي بمثابة رؤوس اقلام تفتح امامه آفاق الحديث ليس الا كما قال، وانه في حديثه المباشر مع الحضور يمنح نوعا من التواصل، ثم قال انه يريد التحدث حول (الاصول الكلاسيكية في شعر السياب)، في رحلة مع قصائد السياب وايقاعاته وتجديده، ثم رفع نظارته ووضعها على المنضدة وبعد لحظة تأمل قال مفتتحا حديثه باستهلال: ان الحركة شبه النقدية التي رافقت موجة الستينيات الشعرية، والتي انصبت على التنكر للارث الخمسيني بكونه القاعدة التي انطلق منها التجديد والتحديث في بنية القصيدة العربية الكلاسيكية، ومن ثم التقليدية، وقد اكد المطلبي انه حين قال (شبه النقدية) ذلك لانها تمثلت بانطباعات واشهارات ولقاءات صحفية، موضحا: كانت الجماعية الراديكالية في الشعر الستيني، التي كان الشاعر فاضل العزاوي، رأس الحربة فيها، قد عملت على بناء ذلك الانطباع النقدي في مجرى النتاج الستيني، وكان ذا الامر يمثل القوالب التقليدية داخل الحركة الستينية، فالثورة الخمسينية على القوالب القديمة المتصلبة للشعر ومضامينها المستنسخة التي تحولت الى نوع من الايدلوجيا، كانت اشبه بعاصفة اكتسحت العقل الشعري القديم وظلت على قوتها في الستينيات.
وومضى المطلبي ليقول: (كان السياب يمثل الجنس الشعري في هذه العاصفة، وكان البياتي يمثل نوعا في هذا الجنس على مصطلح المناطقة في حين كان ينظر لنازك الملائكة برغم اقترانها بالسياب في تأصيل تلك الثورة الشعرية بكونها ناقدة اكثر مما ينظر الى متنها الشعري)، واشار الى ان هذا السجال المحلي تعرض لعامل خارجي وذلك بانخراط النص الادونيسي فيه، وعلى وجه التحديد ديوانه الشعري (كتاب التحولات والهجرة في اقاليم النهار والليل)عام 1965، اما عملاه اللذان سبقا كتاب التحولات وهما (اوراق في الريح / 1958، واغاني مهيار الدمشقي / 1961) فلم يكن لهما التأثير الذي كان لكتاب التحولات، واوضح المطلبي: (وكان هذا النموذج الفعلي قد احدث هزة في منظومة التقبل التي كنا عليها انذاك، الامر الذي لم تبلغه الصرخات التي القيت في وجه النص السيابي والنص الادونيسي الملتبس، حيث بدأ النص السيابي يأخذ طابع التقديس عند جماعة لاتستوي الا بالمقدس كما يبدو، مؤكدا: (ليحدث تحول في الوعي الشعري الستيني من استعباد النص الى رفض منطق الاستعباد ذاته وهذا هو الامر المهم وليس تفوق نص على نص، ادونيس وليس السياب هو من زعزع فرضية المقدس في وعينا واسهم في جعل الانطباعات الراديكالية المحلية عن شعر السياب التي لم يأخذها الكثيرون على محمل الجد وفسرها اخرون تفسيرا ذاتيا اسهم في جعلها قضية جديرة بالنظر).
ثم تحدث المطلبي عن المصطلحات التي انبثقت من المباحث النقدية والتي قال ان لها صارت قوة تداولية في السجال النقدي، وبحث في القيم الاخلاقية بين تلك المصطلحات (الكلاسيكية والتقليدية والعمودية) بكونها مصطلحات مترادفة مشيرا الى ذلك بقوله (في حين يعد او ينبغي ان يعد الخلاف بينها ضرورة وجودها بالمعنى الفلسفي للضرورة وهو خلاف يتصف بالطابع الحقلي) ثم اوضح: فالكلاسيكية الشعرية هي محصلة الابداع في نطاق المعايير القبلية التي اتخذها الشعر في تلك الحقب مقياسا للتفوق الفني في حين مصطلح القصيدة التقليدية نسخة مكررة اتخذت المعايير القبلية ذاتها اما مصطلح الشعر العمودي فهو امر لايتعلق بصراع المفاهيم بل بالمجال التقني حيث يعني بناء القصيدتين الكلاسيكية والتقليدية.
ثم قال متحدثا عن قصائد السياب: (باديء ذي بدء ينبغي لنا عزل القصائد العمودية عن القصائد الحرة وسنستخدم مصطلح الشعر الحر لتوصيف نتاج حركة الشعر الذي ثار على القوالب القديمة ومنح من ثم صفة صفة الريادة بازاء الشعر العمودي متجنبين شعر التفعيلة لسببين، الاول: تجنب الايحاء بأن تلك الثورة الشعرية متعلقة بالانتظام حسب، والثاني: ان الشعر العمودي هو شعر قائم على التفعيلة ايضا، على هذا النحو سنعزل القصائد التي تضمنتها مجموعات بواكير وفجر السلام وقيئارة الريح واعاصير والهدايا، وكل القصائد العمودية التي تضمنتها مجموعته الشعرية ازهار واساطير وديوانه انشودة المطر، موضحا ان هذا العزل يفرضه امران، الاول انه سيقصر على فحص السجل الشعري الحر لدى السياب الذي انقلب على القصيدة العمودية، والثاني: ان القصيدة العمودية كفت عن الابداع منذ اخر دورة لمولدها على يد الشاعر ابي الطيب المتنبي وتحولت من ثم الى نسخة تقليدية حتى بمجيء من سموا بالشعراء العمالقة بعد الفترة المظلمة امثال الرصافي والجواهري واحمد شوقي وحافظ ابراهيم وبشارة الخوري وبدوي الجبل وشعراء ابولو وشعراء المهجر، الى اخر ما فاتنا من اسماء لها وقع سياسي دون وقعها الفني.
واكد مستدركا: ونقول كف المولد العمودي عن الانتاج بقراءة تناصية له تأخذ بمبدأ وقوع النصوص الشعرية وكل الابداع الادبي والفني في مغطس واحد بكونها نصوصا لازمانية.
مشيرا الى: (سنلاحظ ان نسبة تقارب الـ 50% من شعر السياب ستطرح من متن السياب الشعري البالغ 220 قصيدة تقريبا) !!، وموضحا (يعد طرح المعايير القبلية الركيزة الاولى لحركة الشعر الحديث، وما تم في حركة الشعر هو ان معايير الانتظام للقصيدة العمودية ظلت هي الشرط لضرورته)، ثم ضرب مثلا القصائد الحرة التي تضمنتها مجموعة (ازهار واساطير) قائلا عنها (نوع من الشعر العمودي بتقطيع خارجي) ومن ثم قرأ:

(تعالي فما زال لون السحاب
حزينا.. يذكرني بالرحيل
رحيل ؟
تعالي، تعالي.. نذيب الزمان
وساعاته في عناق طويل
ونصبغ بالارجوان
شراعا وراء المدى
وننسى الغدا
على صدك الدافيء العاطر
كتهويمة الشاعر
تعالي، فنلء الفضاء
صدى هامس باللقاء
يوسوس دون انتهاء)
واشار المطلبي الى ملاحطته فقال: (هذه محاولة فتى لم يبلغ الثانية والعشرين من عمره، تتعلق بكسر الترتيب دون بناء تركيب يفرضه هذا الكسر) مؤكدا (ان احداث فجوة في ذلك الجدار المتصلب بفعل الزمان يعد في حد ذاته عملا كبيرا، لكن الاهم منه هو ذلك الفضاء الذي يأخذنا الشاعر اليه) ثم يستشهد المطلبي بقول للسياب جاء فيه (ومهما يكن، فأن كوني انا ونازك او باكثير اول من كتب الشعر او اخر من كتبه ليس بالامر المهم، وانما الامر المهم هو ان يكتب الشاعر فيجيد ما كتبه، ولن يشفع له ndash;ان لم يجد- انه كان اول من كتب على هذا الوزن او تلك القافية)، ويعلق المطلبي على ما قاله السياب قائلا: انه لايمثل تواضعا اخلاقيا بل وعي وان كان بسيطا بمقوم الشعر وهو اللازمانية).
ويمضي الدكتور المطلبي في قراءة عدد من القصائد ومن ثم يشرحها مشيرا الى كلاسيكياتها، ناثرا التفعيلات و(خائضا)) في بحور الشعر بما عرف عنه من منهجية، وعازفا ايقاعاتها على طبقات اسلوبه المميز، فكان يقطع الابيات والمقاطع ويشكلها على الفعولات والمفاعيل والمستفعلن والمفعولن، ويأتي بتفكيكات وتركيبات،فيما كان الحضور في اصغاء ودهشة لما يقوله حيث ايقاع السرد ممتع ويستدرج السامع الى ان يكون منصتا وسط هدوء جميل في القاعة المليئة بالحضور.

وبعد انتهاء المطلبي فتح المجال للمداخلات التي اغلبها كان عبارة عن تساؤلات حول ما ذكره الدكتور المطلبي ومنهم المترجم عبدالله الراضي والشاعر حسام السراي والناقد باقر جاسم والشاعر عبد الستار الاعظمي والناقد فاضل ثامر الذي اوضح ان السياب كان شاعر رؤية واسلوب وصناعة استثنائية وليس شاعر تجاوزات عروضية او شاعر عروضي.