مثقفو العراق.. يقتبسون اوجاع رحيل علامة بغداد
عبد الجبار العتابي من بغداد: في الرحيل.. تساقط الخطى، ويتفجر منبع الدمع، ويهتز اللحم الحي، تنساب المشاعر صامتة، وتنحني النظرات مضطربة، لا سيما ان كان هنالك فقد موجع، ولفقد العلامة الجليل حسين علي محفوظ.. وقع هز الاوساط جميعا، ليس هنالك وسط لم يهتز للخبر ويعلن في داخله لحظات من الحداد، فالرجل يعد منارا للعلم والمعرفة، انه جزء من حروف مدينة بغداد، كان علمه ينهل منها، من طينها الحري ومن ترابها ومن عمارتها ومن اوجاعها واحزانها، مثلما كانت هي تمد جذورها في اوردته وشرايينه، كانت ملامحها ترتسم على وجهه، وبالتأكيد ان شيئا من ملامحه ارتسم على قسماتها، يوم الثلاثاء، العشرون من شهر كانون الثاني / يناير، كان شجيا، حزينا، متربا، ولا اعتقد ان بغداد لم تشم، لحظة انفجار الخبر، الا رائحة زكية، على الرغم مما يكتنفها من دخان.
الوسط الثقافي العراقي الذي يعد اقرب الاوساط الى العلامة الراحل، اعرب عن تجهمه، مثلما اعلن عن احزانه الكثيفة لرحيل حسين علي محفوظ، فكان له رأي في ذلك.
قال الشاعر الدكتور محمد حسين آل ياسين: حسين علي محفوظ.. عالم كبير، رمز من رموز مدينة الكاظمية والعراق، كثير لبتأليف والتحقيق والبحث والدراسة، وكان استاذا لامعا الى درجة انه نال لقب الاستاذ الاول في جامعة بغداد، رحيل محفوظ.. خسارة كبيرة، وعسير على هذا الجيل ان يسد مسده احد، وسنفتقد هذه الشخصية الثرة علما وادبا وخلقا ودينا مدة طويلة، فضله على الكاظمية كبير، فقد أرخ لها وتحدث عنها وكتب ودرس ما يتعلق بشؤونها العلمية والادبية، ونرجو ان تظهر هذه الكتب التي ما زالت محفوظة، بجهد وزارة الثقافة، وان تتصدى وزارة التعليم العالي لنشر تراثه العلمي الكبير الذي افصصحت عنه كتب التراجم الكثيرة التي تتناول سيرته وكتبه، واضاف: صبرنا الله وصبر الله عائلته على فقده الفاجع وسيكون في الخالدين مع رموزنا الكبار الراحلين.الدكتور آل ياسين قال ايضا: اود ان اذكر ان العلامة محفوظ هو الذي قدم ديواني الشعري الثاني (الامل الظمآن) عام 1968، وذكر فيه خصائص الادب الكاظمي وتحدث عن الشاعر وتجربة الشاعر وقرنها بتجربتي المتنبي والجواهري في هذه المقدمة النفيسة الثمينة.
وقال الناقد فاضل ثامر رئيس الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق: اصالة عن نفسي ونيابة عن زملائي ادباء العراق وكتابه، اعزي الوسط الثقافي والادبي في العراق برحيل علامة بغداد الكبير الاستاذ الدكتور حسين علي محفوظ الذي فارقنا بعد ان صارع المرض العضال لمدة طويلة، وخسارتنا برحيل العالم الجليل الرمز خسارة لا تعوض، ذلك انه كان يمثل احد الرموز القليلة الباقية من جيل قدم الكثير من العطاء وارتبط اسمه بمسيرة الثقافة العراقية ونضالها من اجل الحفاظ على هويتها وذاتها في مواجهة محاولات المسخ والتجميل والتزويق.
واضاف: لقد كان هذا العالم الجليل يعمل بصمت وبنكران ذات من اجل ارساء لبنات قوية ومتينة في صرحنا الثقافي ولم يفكر في مكسب او جاه او مال، وظل حتى اخريات ايامه منكبا على البحث والكتابة وهو في الوقت ذاته يعبر عن اصالة المواطن العراقي والبغدادي حصريا الذي يعشق مدينته بغداد، فكتب عنها في محبة الكثير من النصوص والمقطوعات الشعرية التي تصلح ان تكون مفتاحا لمدينة بغداد.
واستطرد فاضل ثامر: خسرناه لكننا نعتقد بأن الموت اعجز من ان يستطيع ان يطوي صفحة هذا العلامة الجليل التي ستظل متوهجة وحية في ذاكرة جميع المبدعين والمفكرين والمثقفين العراقيين.
اما الاديب المحامي طارق حرب فقال: هو علامة جمع بين الفلسفة والتاريخ والمنطق والشعر والادب والحكمة، فقد شدا بطرف من كل العلوم الانسانية وتمكن منها واحاط باسرارها وادرك مغازيها، لذلك تجده استاذا جامعيا كفئا ومؤرخا قديرا ومن ارباب علم الجدل والمنطق مع دراية واسعة باحكام الفقه الاسلامي بسبب ان دراساته كانت لقرب الى الفقه الاسلامي وخاصة فقه المعاملات، ذلك ان الاديب والمثقف والمؤرخ وكل مشتغل بالعلوم الانسانية ان لم يتمكن من احكام فقه المعاملات الاسلامي يكون بكيء اللسان، كليل البيان، قاصر الحجة، مهزوم البرهان، وهذا مع الاسف نجده في كثير من الاساتيذ ممن يشار اليهم بالبنان، ولكنه حين يجلس كمحاضر وكمحاور ومناقش يلتمس ورقة لستر اضطرابه واملاء جعبته مما لم يكن معروفا عن حسين علي محفوظ، اذ ان براعته وابداعه وحذقه ومهارته ومكنته وقدرته واضحة، واضاف: صحيح ان الذي فشا وشاع عنه هو الاهتمام بتاريخ الكاظمية، ولكن غير المعروف عنه كثير وعديد، فلقد كان قاب قوسين او ادنى ممن يمكن ان نصفه بأنه اوتي بمزمار من مزامير آل داود.
واستطرد حرب: علاقتي الشخصية طويلة معه، فلقد حرصنا على الاجتماع لسنوات طويلة في مجلس ثقافي في منطقة الكاظمية واخر في الكرادة، وللطرافة.. كان وجودي يسبب احراجا له كوننا نهلنا من مصدر واحد وكنا على مقصد واحد، ولقد اخذت من علمه واغترفت من فكره ووهبني وارشدني لامور كنت اجهلها، ومسائل ما كنت اعلمها، وتأثرت به كثيرا لان ثقافتي المتواضعة توافق ثقافته من حيث الاساس الذي قامت عليه الا وهي العلوم الانسانية وخاصة التاريخ والفلسفة وعلم الكلام.
واختتم حرب كلامه بالقول: انه فقدان كبير وخسارته عظيمة ونقول فيه طيب الله ثراك وجعل الجنة مثواك، وان كل شيء هالك ويعود الحكم لله، ولكن مع حسرة والم واسى في نفس كل مثقف وفي عقل كل اديب وفي قلب كل مواطن عراقي، لحسين محفوظ الرحمة والغران ولنا الصبر والسلوان واسال الله ان يعوض العراق بنظيره وان كان الشاعر يقول ( هيهات ان يأتي الزمان بمثله / ان الزمان بمثله لبخيل).
وقال الاديب الناقد علوان السلمان: حسين علي محفوظ.. الفكر، العلم، الابداع، ثلاثية لم يمتلكها الا هو، استطعنا ان نقف عليها متغنين بها، حافظين لسطورها، مرددينها في الدرس والمقال واللقاء، حسين علي محفوظ.. التاريخ المنطقي الذي لا يعرف الا الحقيقة بالدليل، حسين علي محفوظ.. غاب عنا جسدا لا روحا وعقلا ابداعيا، وظل معانقا القلوب وحجة الكلام التي لا تنتهي، حسين علي محفوظ.. سلاما لروحك الطاهرة وفكرك النير الذي لم يعرف النضوب حتى اللحظات الاخيرة، حسين علي محفوظ.. وداعا يا استاذنا، يا من علمتنا ان الحرف وجود وحياة، وستظل اوراق شجرتك الوافرة نخضرة دوما تظللنا ونستظل ظلالها، ونعيد ذكريات الدرس واللقاء وكراسي القاعة تجمعنا لحديث قد يطول حتى نهايات العمر.
وقال الكاتب والاديب عبد الستار جبر مدير تحرير مجلة الاقلام الادبية: حين داهم خبر اسماعي خبر رحيل حسين علي محفوظ، شعرت ان ثمة شيء من بغداد قد رحل مع هذا الرجل، فثمة مدن تقترن برجال، رجال امتلكوا اسرارها وخرائطها، تاريخها وجغرافيتها، مثل هؤلاء الرجال ترتبط بهم المدن، شوارعها ومحلاتها وازقتها، احزانها وافراحها، من هنا يطلقون عليهم لقب (علاّمة) الاكثر علما ومعرفة بها دون غيره.
واضاف: اتساءل هل استطاع (علامة بغداد)، قبل رحيله، ان يتعرف على وجه مدينته، بعد ان شوهته الحروب والنزاعات الطائفية واهمال الخدمات؟ هل غادرها وغصة في نفسه عن مدينة دمرت السياسة والصراع على السلطة جسدها المنهك، منذ تاريخها القديم والحديث؟ ام ودعها متفائلا بمستقبل يستعيد مجدها التليد؟ والفرق شاسع بين بغداد الذاكرة وبغداد الحاضر، وليس الحنين لمرحلة بشخوصها، انما لوهجها التاريخي، حين كانت مركزا حافلا بالنشاط الفكري والابداعي لمختلف مثقفي المعمورة.. فهل ما زالت بغداد تحمل تلك البذرة؟
كانت بغداد تحكي لنا عن نفسها، بلسان علاّمتها محفوظ، وقد اودعت جزءا مما تريد قوله في كتبه ومخطوطاته، فحكاياتها كثيرة، اكثر مما يمكن لعلاّمتها ان يدوِّنه او يرويه، حتى لو تضاعف عمره مرتين او ثلاث، فحزن بغداد لا تتسع له المجلدات، حتى خرائطها تجدد جلدها المرقع، طرق مغلقة واخرى جديدة، أحياء تنشأ واخرى تضمحل، وبغداد تنهض من تحت الركام الذي مازالت بقاياه عالقة بها، فمن يستعصي عليه التعرف على بغداد الآن، وهي تئن تحت الحواجز الكونكريتية، فليفتش عنها، فيما تركه لنا علاّمتها حسين علي محفوظ، رغم انه غادرنا ورحل عنها، ترك لنا ما لم نعرفه عنها، لانها كانت الاقرب اليه منا، وثمة اشياء كثيرة تخفيها بغداد عنا، فلنتعرف عليها اكثر من خلال علاّمتها، لنقترب منه، كيف وكتبه الكثيرة عنها، ما زالت بعيدة عن متناول الاعين والايدي، كم منها متوفر في اسواقنا، وكم منها اعيدت طباعته مرة اخرى، لتتسنى قراءته؟؟ ويقولون نحن احتفينا بمحفوظ، ليس الاحتفاء تكريما ماديا فقط، انه اهتمام اساسي بالمنجز والابداع، فلنكرم ونحتفي ببغداد، من خلال اعادة طبع اعمال علاّمتها.
نحن امة تحسن التأبين، هكذا نحتفي بمثقفينا بعد فقدانهم. هل اصبح طعم الحزن لذيذا في نفوسنا؟، وهل باتت الكآبة رفيقة ايامنا؟ فاصبحنا نجيد البكاء، نجيد التشييع والدفن، لكننا نفتقد القدرة على صنع الحياة والاحتفاء بالولادة، لقد رحل علاّمة بغداد فهل احتفظ باسرار مدينته، ليدفنها معه؟
لم اجد ما اختم به سوى تلك الكلمات التي قالها العلامة الجليل عن العراق وبغداد: (أنا كلما ذُكر العراق أوحتْ إليَّ حروفه الأربعة مِن الأعماق والآفاق ما لا أحصيه، تشير العين إلى العِزة، والراء إلى الرِفعة، والألف إلى الأصالة، والقاف إلى القِدم، وكلما ذكرت بغداد أوحتْ إليَّ حروفها الخمسة مِن الأعماق والآفاق ما لا اُعدّده. تشير الباء إلى البراعة، والغين إلى الغِنى، والدال إلى الدَعَة، والألف إلى الإباء، والدال الأخيرة إلى الدراية).