جورج جحا منبيروت - مجموعة الكاتب والشاعر المصري سمير الفيل القصصية quot;شمال..يمينquot; تروي بظرف جميل وتحسس ولطف ودفء نواحي وزوايا من حياة الانسان الجندي ومن نفسه كذلك.
عنوان المجموعة القصصية يستعير مصطلحين توأمين من حياة الجنود لكن على الرغم من هذه السمة المميزة التي ينطق بها هذا العنوان فالمحتوى يمكن ان يوصف بأنه quot;مدنيquot; وان عاش في الثكنات او ساحات الحرب.

وهذا التعبير اي مدني يعني هنا انه ليس مقتصرا على مشكلات خاصة بعالم الجنود في حياتهم المميزة بل هو اقرب الى تعبير quot;الانسانيquot; اذ ان الكاتب ينظر الى المشكلات الانسانية في عالم الجنود وهي ليست وقفا عليهم فهم جزء من الكل. ومن هنا يصح وصف قصص سمير الفيل مجازا بأنها تتناول الشعور البشري في الزي العسكري.

وقد تكون هذه المجموعة من الاعمال الادبية العربية القليلة وربما النادرة التي تتناول الحياة العسكرية. لكن ربما كانت هناك مصطلحات قليلة quot;عسكريةquot; محلية او انها اصلا محلية جدا قبل ان quot;تتعسكرquot; مما يصعب على القارىء في أجزاء أخرى من العالم العربي ان يفهم ماذا تعني.

مجموعة quot;شمال..يمينquot; جاءت في 97 صفحة متوسطة القطع وبحروف صغيرة وباخراج ولوحة غلاف للفنان المصري احمد الجنايني. وصدر الكتاب عن quot; الهيئة العامة لقصور الثقافة..اقليم شرق الدلتا..دمياطquot; في مصر. ضمت المجموعة 21 قصة توزعت على ثلاثة اقسام.

ولسمير الفيل اعمال مختلفة في مجالات الشعر والرواية والقصة القصيرة والدراسات والمراجعات والحوارات الصحافية.

لعل ما جاء في ما يصح وصفه بانه مقدمة quot;ايضاحيةquot; للمجموعة يصف بحق اجواء القصص اللطيفة من خلال الحديث عما هو ابعد منها زمنا اي عن العسكري المصري عامة.

فاستنادا الى مصدر هو quot;سندباد المصريquot; لحسين فوزي ينقل سمير الفيل عن شارل ديدييه في quot;ليالي القاهرةquot; طبعة باريس سنة 1860 ميلادية القول التالي.. لا يوجد في ارض الله الواسعة شعب اسلس طبعا من ابناء الفراعنة هؤلاء quot;فالمصري يحتفظ بدماثة طبعه تحت ثيابه العسكرية وتظهر حضارته المتأصلة اذا ما قورن بالعسكري العثماني.. ذلك الجلف الجافي الذي يفاجئك هو وضباطه بفظاظتهم على حين ان المصري يحتفظ -مجندا- بهدوء سريرته وكرم طبعه وسماحة سجاياه.quot;

قبل القسم الاول عنوان هو quot;بروجي للتحيةquot; شكّل بلطف وظرف ومباشرة محببة مدخلا للمجموعة وبدا كأنه quot;قصة القصصquot; التي وردت فيها. البداية جميلة ككثير مما تلاها. قال سمير الفيل quot;في خريف سنة 1974 استدعى فرز الزقازيق فتى نحيفا كزعزوعة القصب اسمر ضعيف البنية بنظارة طبية لا يشوف بدونها الى الخدمة العسكرية.

quot;حلقوا له رأس الشعر نمرة واحدة. ثم صرفوا له مهمات العسكري المستجد بعد ان عرضوه على السرية الطبية فجسوه وقلبوا فيه ورأوا انه صاغ سليم... ثم ارسلوه الى تجنيد (منطقة) الزيتون ليتأكد الامر حيث ان وجود نظارة اقلقت الرائد الاصلع الذي رفع الامر عن كاهله. وتكرر الجس والتقليب..والتذنيب.quot; ووجد الفتى نفسه بعد ذلك مقبولا ثم انخرط في التدريب الضروري حتى اتقن المطلوب.
quot;ولم تمض سوى اسابيع قلائل حتى وجد نفسه في كتيبة مقاتلة عليها حراسة الوطن وفوق ذلك تزحيف الرمال كل صباح بالمشمع مع نوبات الكينجي وطوابير التكدير بالملابس الداخلية. مع اولاد ناس من بحري وقبلي ادرك ان الدنيا واسعة وعميقة كالمحيط لكنها في الوقت نفسه ضيقة كثقب ابرة. عرف ان البشر فيهم الصالح والطالح.. منهم معادن نادرة كالتبر الثمين ومنهم الفالصو الذي لا يساوي مليما.quot;

وفي سهولة جميلة دافئة يقول عن القصص quot;حكايات ومواعظ لعساكر غلابة كانوا يجادلون الزمن الصعب والخدمة الاجبارية بسلامة طوية وعشق اكيد للحياة... الى هؤلاء الجنود... اهدي هذه الحكايات ... والى كل العساكر المستجدين.. اضحكوا من قلوبكم على ايامنا الصعبة ففيها ايضا صفاء نادر وخشونة بكر وشيء من حكمة الزمن quot;

يقص سمير الفيل بسهولة ومحبة دافقة تشمل عالم قصصه اجمالا وبدقة تنقل التفاصيل حية. في quot;شربة ماءquot; نموذج موضح اخر. يتحدث عن الموت وعن العسكري بطرس وما حدث معه فيقول عن هذا العسكري البدين انه صامت وقوي quot;لا يتكلم الا في ما ندر وحديثه اقرب الى الهمس... انه مهذب صامت ومحبوب من الجميع لادبه ولكن اياك ان تنبشه وتثير غضبه فما يحدث سيجعل سيرتك في القشلاق عبرة وعظة...quot;

يروي الاحداث والاجواء بدقة وحياة وايحاء. بطرس القوي الضخم quot; شرقquot; بالحساء الذي كان يتناوله وكاد يموت لو لم يسعفه رفقاؤه quot;ازرق وجه بطرس وغامت الدنيا في نظره... يطلع صوته محشرجا ويرتمي على الارض وهو يأخذ شهيقه ويخرج زفيره في صعوبة بالغة...quot;

بعدها اعد الرفقاء احتفالا بنجاة بطرس وخلال ذلك quot;...اخبرته انني متحير لما حدث. لكزني في صدري بمودة وهمس في اذني.. تأتي على اهون سبب ثم جذب يدي وخاصرني في رقصة مجنونة مع توقيع صاخب على الاكف.. فقد كان بطرس فرحا لانه لم يذهب في شربة ماء quot;

(رويترز)