(1)
واطئةٌ وتكاد تمس رأسي سحب القطب الأبيض،
قبل شروقها الموعود، في قلبي، شمس خلفتها منذ
طفولتي، أبحث عنها الآن في أركان وزوايا تفلت
هي الأخرى عن بصري، تشتعل رغبة العدو من
خلفها وسرعان ما تخمد، أتخيل طيور خاسرة أو
شائخة تحملها إلى غرفتي لكي تتناغم مع وقاري
الموهوم وفقري الدائم.

(2)
ها أني أحكي مع نفسي : تبدو المدينة مضاءة
أعياد الأديان كلها تأتي في وقت واحد، مع
أول علامات البرد، احتراق المصباح الوحيد
في رواقي
ما مرَ من عقود كنت أتلفت فيها كالغزالة
المذعورة، كل مرة أهم فيها الدخول لمقهى قديمة
أو مطعم على قارعة الطريق، عواصم بمناراتها
غرقت
دون أن أرى وجه، أو اسمع صوت طفل في
الحارة،
في شرخ آخر من روحي أعيد التعويذة ذاتها
لا أريد سرد حكاياتي
البعيدة
لنفسي أو عن نفسي، وحدي أو مع منْ كانوا
يشاركوني
ارتشاف القدح الأول.

(3)
وطن الإنسان الوحيد النسيان، حين لا يغضب من صورة
تعكسها له مرآة معلقة بخيط سرمدي من الخرافات والدخان
العابر، روحه، لا يقلبها من اليمين إلى اليسار، أو يدور من
حولها وكأنها وتد ثابت يسند عليه خيمة أسطورته البائدة
بالضرورة، أقول، سأدعها تتكون متى ما تشاء، ربما سيأتي
أحفاد لن يطلق عليهم أحد تسمية ضرعي الذي طلع من
خاصرتي، قد يعثرون من بين الخيوط التي تحزم ملفاتي
على خيط أزرق ورمادي كنت وضعته أمام أعين الكل
لكي أختفي أنا نفسي خلفه.


(4)
تحدث مجاعات في أركان المعمورة، فيضانات تنهد
وقت يغط قاطنو المدن في نومهم، البعض الأخر
لجئوا إلى حانات شتوية دافئة، امرأة من جنوب شرق آسيا
تبيع خضار يانعة، من حولها صبية عراة تقريباً أخذتهم مياه
المحيطات لكي تحي ثانية خرافة الملائكة التي تمخر عبابها
والحواري الغافية في فيء أغصانها، ورودها وقشورها
البيضاء تشبه الزبد يغطي ويعصر روحي، لا أدري كيف أشيخ
مع صور كهذه، لا يشاركني كوتي سوى نفسي، بطيء ومتقطع،
لكن عندما يقترب الخيط
الأبيض من شقيقه الأسود، عند انبلاج الشفق،
أقسم بأني لن أرتل لأحد.

(5)
ما عادت أسرارها تقدح مخيلتي، وجه لوجه، أو في غيابها
تضعُ أحمر الشفاه على فمها الناعم، تتكور أحياناً وكأنها
وشيعة خيوط ينط أصغرها على أكبرها، الألوان بالكاد
مرئية، تقف على طول قاماتها، ثم تشرع بالصراخ ضمن
الفراغ الذي يلفنا بنعمته، غاضبة ومصفرة من كونها هي
نفسها في كل يوم هي نفسها، تستشيط حنقاً : آه لتتسع كل
لحظة الرمال المتحركة، ستغرق أنتَ معي، وأيضاً البنايات
الشاهقة التي تحتمي من وراء جدرانها، سيخرجونك
عنوة من تحت أكوام الرمال تغطي أحلامك، وسفرك تقبض
عليه بمخالبك البالية، لن تموت كباقي البهائم، سيكون النفق
مغلقاً، كالعادة، هناك سيخنقك ما بقى معك من عيدان ثقاب
وشمعة مهجورة تحاول عبثاً الرقص مع ظلالها الميتة.