إلى الشاعر عبد الرحمن طهمازي

كم رصيد الشاعر من الخلود، إنْ وضعنا اللفظة الأخيرة في حسابه الشعري؟ وكم رصيد القصّاص منها، إنْ وضعناها في حسابه السردي؟

لا تفصح الألفاظ عن رصيد خلودها، فهي كحسابٍ مقيّد في مصرف سويسري، فُقِد صاحبه في ظروف غامضة، ولن يُصرَف لغيره إذا ما أراد أفـّاق محتال أن يخترق نظام (صرفه) أو (تحويله) إلى حسابه. سيبقى استعمال الألفاظ في

خلود عاطفي

قصائد عبد الرحمن طهمازي نظاماً مغلقاً، كما ستختزن قصة (الشفيع) شفرتها البنيوية في مصرف ستينيات القرن الماضي. وأيّ متطفـّل على (خلود) الآلهة يستطيع أن يفكّ شفرات إلياذة هوميروس؟
أوافقك، عبد الرحمن، على أن القصة هي بنية (الدلالات الضائعة). ولعلك توافقني على أن الشعر هو بنية (الدلالات الخالدة). وأصارحك بأني أفهم (الخلود) على أنه حساب الألفاظ المرصودة للكتمان. أخبرتني يوماً أننا أرستقراطيون، حين يستدعي اللقب أن نحافظ على أرصدتنا من الضياع والاحتيال، وبذا نحن (خالدون) لأننا نكتم شفرتنا في مصرف الدلالات المصحـَّفة.
هل يسهّل علينا المجاز الدخول إلى مصرف الحقائق المرتهنة؟ وهل يزيدنا القنوط نطقـاً، والأمل ألماً، والخلود دخولاً ــ وكل ما ذكرته آنفاً تصحيف مقصود لفهم النصوص المستعصية على الانفتاح الدلالي؟ ألا يرتبط (خلودنا) بسهولة هذا التجنيس المصحف، بينما يرتبط فناؤنا بصعوبة الدخول إلى فناء العراقيين الخالدين من أبناء الأمل والألم؟
حين ننتقل من المجانسة إلى المطابقة، نلتقي الشاعر القانط الذي يعني (يا شعبي) بقوله (يا نفسي)، جرياً على حال المتصوفة الذين يبطنون الوحي الموسوي الكليم تحت لثغة لسانهم الدنيوي المعقود. ( بتحليل عزيز السيد جاسم للرمز الموسوي في قصيدة طهمازي : أمل القانط ــ مقدمة ديوان : تقريظ للطبيعة ).
quot;لكن موسى آلة الكلمات تقلبه على موسى وتتركه ذليلا
آلة الكلمات تعمل دون موسى وهو يعطل دونها
فمتى متى موسى يعاوده الغضب
ومتى يكون هو الشرارة لا الحطبquot;
من دون ( آلة الكلمات) التي تعمل بالأضداد المتطابقة سيعطل (خلود) موسى، وتعدو عليه العاديات، حتى تبري لسانه، هو الثوري الكليم، الذي يستنهض (أطفال الأفق*)، ويحنو على الطبيعة المحايدة. وفيما تتراخى (متى) الأولى، تعاضدها (متى) الثانية في السؤال، تباشر (متى) الثالثة بتشغيل آلة الكلمات بقوة، فيقسو الشاعر كعادته على نفسه وشعبه إزاء الحنو المائع والنفاق المراوغ، وتبدأ الآلة بحلّ عقدة لسانه، وتحقيق المطابقة مع خلوده، ويا له من خلود عاطفي، يحرّك النفس الناطقة الحاوية (وحدة الكلمات والصدق الأخلاقي) في بوتقة واحدة!
نشرتُ (الشفيع) في مجلة (الكلمة) حين كان الشاعر طهمازي مدرّساً في البصرة عام 1969. كانت صدمة قراءته الأولى للقصة مقرونة بصدمة الاستياء. سألني: هل كتبتَ القصة وأنت مستاء؟ لا أتذكر جوابي على سؤاله، إلا أنني أوحيت له بان شعوراً بقيامة الخلود الأخروي، شعوراً بالذنب والتقصير إزاء وضعنا الإنساني المتخاذل أمام الآلام البشرية الزاحفة حول ضريح (الشفيع)، كان يحرك استيائي وقنوطي وقت كتابتها. كانت الجموع تطرق الصدور والأبواب، ولا منفذ يؤدي إلى الرجاء أو الراحة الأبدية. كان الصراخ والبكاء ودق الطبول سبل البحث عن منقذ يطالعنا من نوافذ الذهب والمرمر وحرير الرايات. آنذاك طرقنا وطرقنا، وما زلنا على هذه الحال. فالأدلة تضيع الواحد بعد الآخر، والخراب الشامل يضاعف الاستياء ويعقد الألسنة، يا لهول الخلود!
ليس عجباً من ثمَّ أن يدفعنا خلودنا العاطفي إلى فتح الأبواب على شعبنا، وأن ندع الطبيعة تمر بين أيدينا، كي ننقذ ما تبقى من أدلة الأمل في كتاب التصحيفات الكبير الذي يقلّب أيامنا ويذريها.
quot;لن أغلق الأبواب
لن أنسى
شعبي الذي يفركه التاريخ في الوادي
أشجاره الفاخرة
تعضّ أثمارها
أطفاله يكنزون
صمتاً لأحلامهم
دعني
فقد جنّ الصدى همسا
ما كان قد كان
فماذا يكون؟quot;
(خلود عاطفي)

*quot;أطفال الافقquot; قصيدة لعبدالرحمن طهمازي في كتابه quot;تقريظ للطبيعةquot;

تنبيه ممنوع اعادة نشرها دون أخذ موافقة من الكاتب أو من إيلاف