د. خالد السلطاني: يصدر خلال ايام في دمشق، كتاب عن عمارة الحداثة في القرن الماضي: القرن العشرين. ادناه مقدمة الكتاب:
يهدف كتاب quot;مائة سنة من عمارة الحداثةquot; التعريف باهم منجز من منجزات الحداثة، والاحاطة الموضوعية باحدى تجلياتها المؤثرة وهي lt;عمارة الحداثةgt;. ضمن فترة زمنية محددة امدها ومسرحها القرن العشرين. وظاهرة عمارة الحداثة ndash; ظاهرة عالمية، كما ان تأثيراتها ايضا عالمية، ولهذا فان فهم وادراك ما حصل في عمارة الوطن العربي مؤخرا، يستدعي فهم وادراك تلك الظاهرة الابداعية التى اثرت تأثيراً كبيرا في تغيير البيئة المبنية، وادت الى ظهور رموز تلك البيئة وحددت معالمها.
ورغم اهمية التأثيرات الواسعة والجذرية التى احدثتها عمارة الحداثة في المشهد المعماري العالمي؛ فان المعرفة بها والاحاطة بمنجزاتها ظلت مقتصرة على اهتمام نخب ثقافية محددة، وعلى ذوي الاختصاص الدقيق. ولهذا فان الكتاب يطمح الى توفير فرصة الالمام والوعي بهذا المنجز المهم من منجزات القرن العشرين الفاعلة؛ من خلال عرض منجزات المعماريين والحديث عن مقارباتهم التصميمية والتعريف بالتيارات المعمارية المتنوعة، التى الفت بمجموعها كيان quot;عمارة الحداثةquot;.
لقد كان موضوع عمارة الحداثة، ولا زال، من المواضيع الاثيرة في اهتماماتي المهنية والاكاديمية، فبالاضافة الى كوني درسّت موضوعي quot;نظرية العمارةquot;، وquot;العمارة الحديثةquot; لسنين عديدة في مدارس العمارة بجامعات مختلفة، وفي الاخص في جامعة بغداد، فقد تابعت ايلاء اهتمام اضافي لمنجز العمارة المعاصرة، ولاسيما في تجلياتها quot;مابعد حداثيةquot; من خلال نشر عديد من الدراسات او التحضير لمؤلف يتعاطى مع هذه الثيمة الابداعية، والتى تثيرموضوعها، الان جدلا ً واسعا ً في اوساط معمارية متنوعة. وتجدرالاشارة، اني منذ دراستي المعمارية ولاسيما اثناء اعدادي لاطروحتي في الدراسات العليا بمطلع السبعينات، كنت مهتما وشغوفا في عملية تقصي وادراك الحلقات الفكرية وراء الناتج المعماري المعاصر، وكنت حريصا للاستماع الى محاضرات ومناقشات استاذي quot;يولي سافيتسكيquot; الذي منه استقيت ولع معرفة المنجز المعماري الحديث، والمثابرة في تحليل واستقراء مختلف المرجعيات والمصادر العديدة التى تؤسس لتلك المعرفة، ومنه ايضا اكتسبت ذلك النزوع المهني لادراك وفهم تنوع تجليات عمارة الحداثة. كان يولي سافيتسكي بالاضافة الى كونه خبيرا قديرا في منجز العمارة المعاصرة، فانه امتلك ايضا ً منهجية واضحة اتسمت على موضوعية علمية، غايتها دراسة هذه العمارة والحرص على رؤية نماذجها المبنية وغير المبنية كتمثيل لمقاربات مهنية واضحة ومفاهيم فكرية محددة، الامرالذي جعل البحث في موضوع عمارة الحداثة لديه يكتسي جانبا كبيرا من التشويق والتحفيز في آن. وفي كثير من محاضراتي وبحوثي وكتبي اعتمت على ذلك الخزين الثر ّ، والمتنوع، والاصيل الذي تركه ذلك الاستاذ الجليل ومقدرته العميقة في جذب إهتمام المتلقي، وآهليته القديرة في التعاطي الجاد مع موضوعه المفضل. وتحتم الامانة العلمية الاقرار، هنا، من ان بعض طروحات هذا الكتاب، واسلوب عرض مادته العلمية، كانتا بتأثير من طرائق نهج ومقاربات يولي سافيتسكي اياها.
لقد افضت الاعادة والتكرار الدائمين، لاستذكار نماذج عمارة الحداثة والتعريف بمصمميها وتحليل منجزها، عبر سنين عديدة من ممارسة التعليم الجامعي، الى جعل تلك النماذج واسماء المصمميين وذلك الانجاز، امورا قريبة منى وانيسة في آن؛ اعرف هيئاتها، وادرك محتوياتها، واعي quot;اسرارهاquot; التصميمية؛ لقد باتت بالنسبة الي ّ بمثابة quot;اصدقاءquot; افرح بلقائهم، واتوق لرؤيتهم. وعندما تسنح لي الفرصة زيارة بعض المدن التى تقع فيها نماذج عمارة الحداثة، اسارع الى تفقد تلك المواقع لملاقاة quot;اصدقائيquot; المباني، التى طالما كنت شغوفا بتصاميمها ومولعا في الحديث الى طلابي ومتلقي كتاباتي عنها. ولهذا فان القارئ قد يجد لي العذر في تحميل النص التحليلي لنماذج عمارة الحداثة الوارد في صفحات هذا الكتاب، بعضا من الود الزائد و الحميمية المفرطة ازاء المنجز البنائي، وازاء مصمميه.
كما يتعين التذكير ايضا، في هذا المقام، بان السنين الطويلة من التدريس المعماري الجامعي، والالتقاء المباشر مع الطلبة، والاصغاء الى تعليقاتهم، ورصد ردود فعلهم على ما اقدمه لهم، ومناقشتهم اياه، عملت على فتح آفاق جديدة لي فيما يخص رؤية العمل المعماري وادراك صيرورته ومساره، واضافت لي معارف جديدة لم تكن تخطر على بال؛ معترفاً، وقانعا ً، بان العملية التدريسية الحيوية ماهي الا عملية معرفية / ابستمولوجية في اتجاهين: اتجاه الاستاذ- الطالب، والاتجاه الاخر المعاكس: الطالب- الاستاذ؛ الامر الذي استفدت من هذه الحالة كثيرا ً ووظفت بعضاً منها في اعداد وعرض المادة العلمية لهذا الكتاب!.
يحتوي الكتاب على اربعة فصول وملحقين، وكل فصل منها يضئ جانبا من مسار وتطور عمارة الحدائة في القرن العشرين. وهذه الاضاءات ضرورية لفهم نشوء عمارة الحداثة وتتبع مسارها التطوري بايقاع زمنى يبدأ من نهايات القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الالفية الثانية. اذ يتابع الفصل الاول مراحل ظهور عمارة الحداثة ويسجل ارهاصاتها الاولى، في فترة زمنية محددة؛ وهي نهاية القرن التاسع عشر ولحين نشوب الحرب العالمية الاولى؛ بعدها يتناول الفصل التالي lt;الثانيgt; مجمل التغييرات التى حدثت على العمارة بعد الحرب الكونية الاولى، وهي مرحلة اساسية ومهمة ومتجانسة نوعا ما في مسار عمارة الحداثة، ويرصد الفصل الثالث من الكتاب نضوج الطروحات التصميمية لهذه العمارة، ويسجل انكسارها ايضا، في حين يكرس الفصل الرابع لظاهرة بزوغ وانتشار lt;عمارة ما بعد الحداثة gt; كوجه من اوجه عمارة الحداثة في القرن العشرين. وبغية متابعة مساق تطور عمارة الحداثة بيسر ووضوح؛ فان الكتاب يتعاطى مع نتاجات حلقات الحقب الزمنية من القرن الماضي، وكأنها حلقات متصلة ومتداخلة لا يمكن باي حال من الاحوال، قطعها او عزلهاالواحدة عن الاخرى. بمعنى اخر، يستقرأ الكتاب جميع الحقب الزمنية في المسار التطوري لعمارة الحداثة ويعتبر ان ما نجز سابقا له تأثير حاسم على ما تحقق فعليا في المرحلة التالية، وان ما نفذ في مرحلة معينة سيجد له انعكاسا مستقبلا، ووقعا اكيدا في تحديداتجاهات ومقاربات الفكر التصميمي في الحقب اللاحقة.يحرص الكتاب، وبلغة بسيطة وواضحة، الى الاحاطة بمنجز عمارة الحداثة بصورة موضوعية وشاملة في آن، ولهذا فان الكتاب يتناول لاول مرة، انجازات عمارة البلدان النامية، ويعتبرها جزءا اساسياً ومهما من منجز عمارة الحداثة، مسقطاً نزعة التغييب المتعمد لهذة العمارة وتحقيقاتها، التي درجت عليها الدراسات المتماثلة.
يتعمد الكتاب الى تحرير نصه من ثقل ممارسات توظيف الهوامش الكثيرة واللجوء الى الاقتباسات العديدة، كي يمنح القارئ متابعة سلسة وقراءة ممتعة، مع التأكيد على مصداقية وموضوعية الافكاروالاراء الواردة في متن الكتاب، والحرص على تسجيل عناوين واصدارات المراجع الرصينة والمصادر الموثوقة التى اشتغل عليها المؤلف في تحقيق وتنظيم نصه الكتابي. ويمكن للقارئ الذي يود ان يطلع على المزيد من المعلومات عن هذا المعمار اوذاك، او عن هذا االتيار الابداعي او ذاك، او ان يسعى للحصول عن تفاصيل مهنية دقيقة؛ بامكانه ان يطلع على قائمة المراجع والمصادرالمتنوعة والعديدة باللغتين العربية والانكليزية المثبتة في نهاية الكتاب.
تنشد اللوحات والصورالفوتوغرافية المصاحبة للنص المقروء، والمختارة بعناية، الى تيسير ادراك موضوعة الكتاب، وكذلك تسهيل متابعة انجازات وتطورات ومتغيرات الفكر المعماري في القرن العشرين. ان وجود هذه اللوحات في الكتاب، يعتبر امراً لازما وضرورياً لمنح القارئ امكانية معرفية بصرية مضافة، مهمتها زيادة ونماء الادراك الموضوعي للنص الكتابي وموضوعه غير المعتاد في ادبيات الثقافة العربية.
يشمل الكتاب على تثبيت سير وتراجم اهم معماري الحداثة في القرن العشرين،ويثبت انجازاتهم التصميمية المرموقة، ويشير الى بلدهم و تحصيلهم العلمي؛ كما يحتوي على شريط وثائقي لاهم انجازات عمارة الحداثة في الفترة الزمنية المحددة، مثبتة حسب تسلسلها الزمني، مهمتها التعريف السريع والمقتضب بتلك الاحداث والاعلام عنها كاحداث مؤثرة في المشهد التصميمي العالمي، كما يتضمن هذا الشريط موجزا لظهور الحركات المعمارية والتيارات المتنوعة التى تميّز بها القرن العشرين.
ومع اهمية موضوع العمارة ودورها الفاعل في تشكيل منظومة المعرفة للمتلقي العربي المعاصر؛ فقد ظلت موضوعة الاصدارات المعمارية تشغل حيزا متواضعا في مجمل نشاط النشر العربي. فما عدا كتب قليلة صدرت عن العمارة باللغة العربية، تكاد تخلو عنواين الاصدارات من ظاهرة quot;عمارة الحداثةquot;، تلك الظاهرة المؤثرة والفاعلة في مهام ارساء سمات المشهد الثقافي المعاصر.
وقد يكون كثير من القراء العرب مشاهدين، وربما مستخدمين لنتاج عمارة الحداثة في مدنهم ومراكزعملهم واماكن تجمعاتهم السكانية، لكن الاغلبية منهم قد لا يمكنها ان تعي اهمية وخصوصية المكان وفضاءه المصمم، بسبب نزعة التعاطي النخبوية والمتخصصة مع موضوع العمارة ونتاجها. ولهذا فان الكتاب يطمح الى نشر المعرفة حول عمارة الحداثة، ويهتم في ان تكون هذه المعرفة متاحة وفي متناول الجميع، من خلال اللغة الواضحة وطرح الافكار المعمارية باسلوب سلس، lt; نزعم بانه شيق ايضاً! gt; وانتقاء الاحداث المعمارية الجدية التى اثرت تأثيرا فاعلا في ارساء ظاهرة عمارة الحداثة؛ وهذا، في اعتقادنا، كفيل لاثارة اهتمام القارئ العربي بموضوع الكتاب، ومن ثم محاولة ترسيخ ثقافة عامة بمعرفيات متنوعة.
واذ حصل قراء الكتاب على بعض من مزايا الاهداف التى توخيتها من جراء نشر هذا الكتاب؛ فاسشعر بان العمل المرهق والمضني الذي بذلته في تأليفه، لم يذهب سدى! □□
معمار وأكاديمي
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
كوبنهاغن- الدانمرك