عبد الجبار العتابي من بغداد:في بادرة لافتة للانتباه، وربما هي الاولى من نوعها، اصدرت جريدة (المدى) البغدادية ملحقا خاصا عن الفنان التشكيلي العراقي الراحل جواد سليم، حمل عنوان (جواد سليم، 48 عاما على الرحيل)، ضمن سلسلة (عراقيون في زمن التوهج)، وقد حمل الملحق صورة معبرة له، كما تزينت الصفحات بالعديد من صور الراحل واعماله، ولا اخفي ان الملحق اثار دهشة المتابعين من المثقفين وثناءهم وارتياحهم، خاصة كونه جاء مناسبا لذكرى رحيل صاحب (نصب الحرية) الذي مازال يشمخ في بغداد، في الساحة التي تحمل اسم (التحرير)، ووفاء للانجازات التي حققها، لاسيما ان نخبة من الكتاب المعروفين والفنانين التشكيليين شاركت في تدوين مواده التي تنوعت في تناول حياة الراحل الكبير، وسبر اغوار رحلته الفنية مع النحت والرسم، وان لم تستمر طويلا، فرحل مبكرا، وهو في الاربعين من عمره، فقد تضمن العدد موضوعا بعنوان (جواد سليم.. لوحة حياة) قرأ سطورا في سيرة حياته من ولادته عام 1919 في أنقرة من أب موصلي وأم بغدادية. وربما ذكر بعض الكتاب عام 1920 تاريخاً لميلاده، مرورا بعام 1938 ndash; دراسة الرسم في باريس مدة عام في معهد البوزار، و1939 ndash; الانتقال للدراسة في روما، وعودته الى بغداد بسبب الحرب العالمية الثانية ndash; حيث يعمل رئيساً (ومدرساً) لقسم النحت في المعهد ndash; العمل في ترميم الاثار والجداريات المتصدعة في المتحف العراقي، وصولا الى 23/ 1/1961م حيث توفى جواد في المستشفى الجمهوري ببغداد بعد عشرة أيام من إصابته بنوبة قلبية أثناء عمله في وضع المنحوتات في مكانها بالنصب.، وهناك اشارة الى ان في 16/7/1961/م أزيح الستار رسمياً عن جدارية ( نصب الحرية ).

كما تضمن الملحق موضوعا كتبه الفنان نوري الراوي بعنوان (في ذكرى جواد سليم ) قال فيه (في عام 1919 دخل حياة الاسرة البغدادية الصغيرة القاطنة في انقرة،زائر جديد أضاف الى ارقامها الثلاثة رقماً رابعاً ولم يكن لهذا الحدث الفريد من اسم يربطه بتأريخ بغداده القديمة ذات التقاليد والمآثر العريقة غير ان يكون (جواداً) الطفل الثالث للضابط العراقي النازح من بلده والعائش بحكم وظيفته العسكرية هناك.وقطعت الاسرة ليلتها وهي حانية على المهد ترهف السمع الى الاغنية الجديدةالتي غمرت البيت المتواضع بالمسرة والابتهاج ثم جاء صبلح المشرق وتلته اصباح وغربت الشمس اناضولية شاحبة الضوء حينما ودعت الاسرة ارضا غير ارضها وقفلت عائدة الى وطنها العراق وفي بيت قديم بشناشيل تطل على زقاق ملتو يمتد بين البيوت البغدادية المتعانقة نشأ جواد وقطع فترة طفولته في احضان أب كان يعيش الرسم ويعتبره هوايته المفضلة وأم ذكية ذات حسن فني فطري كانت تجبل من الطين تماثيل صغيرة لقرويات الجنوب وتقدمها لطفلها الوديع جواد)، وختمه بقوله : (حينما ارتحل جواد الفنان الى ارض الصمت كانت انامله الشاعرية تعزف مقاطع الملحمة الجبارة لتاريخ العراق ولم يكن هناك من يعلم ان اليد التي صاغت كل هذا الاعجاز ستقف عن الحراك والى الابد، ولكن الذي حدث ان جواداً الكبير بفنه الكبير بعقله قد ودع العالم الذي احبه والحياة التي عشقها وغناها بصمت وهدوء ثم ترك وراءه فراغا هائلاسينسحب من السنين وستتسع هوته كلما تقادم وشعرنا ان جوادا الفنان ليس معنا).
وتضمن ايضا (حوارا ينشر للمرة الاولى اجراه مع الراحل عباس الصفار جاء تحت عنوان (جواد سليم : انا ارسم للانسان) جاء فيه (التقيت به على غير موعد في مكتبة(مكنزي)مساء يوم ربيع جميل عام 1985،كان يبحث عن كتاب (العراق القديم) لعالم الاثار الفرنسي (جورج رو)Georges Rouault فلم يجده في المكتبة ولكن وجده عندي.خرجنا بخطوات متثاقلة، ولحسن الحظ كان عنده متسع من الوقت،فاقترحت ان نجلس في المقهى البرازيلية،فانفرجت اسارير وجهه وكانما اثرت له ذكريت بعيدة حبيبةالى نفسه في تلك المقهى المعهودة لدى الادباء والشعراء والفنانين،حيث تجتمع نخبة الجيل لتستمع بكل شعاع جديد يصلها من فلسفة وادب وفن.بدأ الحديث عن المجتمع والوطن وتطرقت الى السياسة فبادرني بصوته الخافت: - انا لا تهمني السياسة بقدر الانسان)، وكتب لمعان البكري (جواد سليم.. معجزة الفن العراقي) قال فيه : (تنقل جواد بين الرسم والنحت عدة مرات حيث ترك الرسم احياناً وعاد اليه واروع صورة التي رسمها بعد تجارب ودراسات وتطورات في الاسلوب هي laquo;القيلولةraquo; اما النحت الذي كان يرغب في التفرغ له فقد ترك في نفسه طموحاً وتحدياً لانجاز عمل كبير ولو هدد هذا العمل حياته طموحاً نبيلاً يتولد عند الفنان بعد ان يصبح اسلوبه طوع بنانه، وتحدياً اخذ يشعر به جواد بعد ان صمم تمثالين كبيرين لمحطة بعقوبة ولكن العون المالي توقف عام 1945 كما صمم عام 1953 لوحة برونزية رائعة لتزين واجهة البنك الزراعي بعنوان laquo;الانسان والارضraquo; ولكنها رفضت. ولنفس هذين العاملين الطموح والتحدي، قبل افنان العرض الذي تقدكت به الدولة عام 1958 مع انه لم يكن عرضاً سخياً من الناحية المادية، ولكنه كان سخياً من حيث الحرية النسبية التي منحت له في اختيارالموضوع والاسلوب الذي يمثل ثورة العراق بالاسلوب الذي يريده وهكذا انجز نصباً لم يرد العراق صنوان له الا في عصوره القديمة، وقد استغرق تصميمه وعمله فترة وجيزة لم تتجاوز السنين فقط).
وتضمن ايضا (كلمة جواد سليم في افتتاح المعرض الاول للفن الحديث) التي تحدث فيها قائلا : (أنا لست بالكاتب. الرجل الذي يكتب اداته القلم, أما أداتي فهي الالوان و الخطوط و الفورم. غير ان كلينا بشر ينظر: الكاتب ينظر و يتحسس, ان كان كاتباً حقاً, و تتهيج في عقله الباطني رموز عجيبة هي الكلمات ثم يخط هذه الرموز العجيبة على ورقة و يقول(اقرأ).فأن كنت تقرأ فأنك تتابع ما يقول كلمة كلمة و تتحسس ما يريد أن يقول, ثم تنظر بعين جديدة لما قد فاتك.و إن كنت غير محظوظ,أو, واحداً من ال 97 % من العراقيين, فانك في عالم اخر غير عالم الكتاب، أما انا, كنحات أو مصور, فلا فرق بيني و بين الكتاب, انني انظر أنا الأخر, و لكن ما اراه لا يثير في تلك الرموز العجيبة التي يجيدها الكاتب, بل هناك رموز اخرى تنبعث في رأسي هي الخطوط والالوان و الفورم: هي لغتي التي اجيدها و اضعها في لوحة او تمثال ثم اقول:( انظر ) او (اقرأ ) رموزي, فان كنت لا تريد أن تتريث قليلا و تنظر, أو كنت واحداً من تلك النسبة المئوية, فانت في عالم بعيد عن عالمي)، كما تضمن موضوعا بعوان (شواهد من جواد سليم) وهي جملة اقوال قالها الراحل، منها :
* إنني من الذين يؤمنون بالمستقبل.إنني أثق بالغد. وأؤمن بفوز الحق والأفضل.
* كثيراً ما أتمنى لو أنني أنسى كل شيء وكل ما سمعته ورأيته وقرأته لأعرف نفسي الصافية. أريد أن أنتزع نفسي من كل هذا البحر الزاخر من المدارس والاتجاهات.
* في عملي كنت أفكر وأبحث أكثر مما أحس. والإحساس بالشيء على ما أظن هو أهم من التفكير فيه. إن الإنسان يحس قبل أن يفكر. وخلاصة الحقيقتين هي أني أمضيت خيرة أيامي في التفكير أكثر مما أمضيته بالشعور والإحساس.
* الدنيا كلها ألوان، حتى في الوحل الذي أمام شارعنا ملايين من الألوان.. خذ يحيي الواسطي أعظم من ظهر من المصورين في العراق التي تدعي أنها عديمة الألوان ndash; بلاد النخل ndash; إنه خلدها بصوره وألوانه أو بالأحرى خلد نفسه، لأن صوره كانت تختلف عما يرى أمامه، لأنه كان يخلق صوره.
وكتب الدكتور يحيى الشيخ (جواد سليم.. ابداع مؤطر بالحياة وتفاصيل البلاد) قال فيه (ان بحث جواد سليم المستمر في مجال الأشكال والمضامين الشعبية وجد انعكاساته في اعمال كثيرة ذات موضوعات انطوت على رموز انسانية لفقراء البلاد وكادحيها, مبرهنا بذلك على ان الحداثة لا تلغي الواقع الاجتماعي بل تصعد من تعبيريتة وتغني محتواه الجمالي. قدم جواد نماذج من فقراء العراق وشغيلته امثال منحوتاته laquo; الانسان والأرض 1955 laquo; laquo; امرأة وثورraquo; laquo; البنّاء 1944 laquo; laquo; فلاح من الجنوب laquo; وتخطيطاته laquo;أطفال في الطريق 1944raquo; laquo;الملاريا 1941raquo; laquo; الطفل الميت1947 laquo; وغيرها من الأعمال المفعمة بروائح الشوارع البغدادية وطعم الأرض وشفافية العلاقة مع الطبيعة وتقاليد الحياة الزاعية. لقد استهدف جواد تجسيد الصلابة الروحية للكادحين برسمه لهم وهم يكدحون , أو يتعرضون للبلايا. لقد أدرك منذ شبابه المبكر ndash; منذ ان نحت رليف laquo; البنّاء laquo; ndash; أن العمل وحده قادر على أن يملأ نماذجه البشرية بالثقة والقوة المعنوية).
وهناك موضوع للفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد بعنوان (جواد سليم والمؤثرات الحضارية في الفن العراقي المعاصر)، جاء فيه (كان عام 1951 هو العام الذي عرضت فيه جماعة بغداد للفن الحديث اول معارضها وقد احتوى المعرض بصورة صريحة على اعمال ذات تأثيرات حضارية واضحة يمثل مايمكن ان يمثله هذا التيار لا في مجال الطرح الفردي بل الجماعي (فقد كان الموقف الفني الجماعي (بالنسبة للجماعة الفنية ) قبل هذا التاريخ (موقف جمعية أصدقاء الفن وجماعة الرواد ) لا يحسب للمؤثر الحضاري حساباً أبدا ولهذا أهميته بالطبع اذ ان الابداع الفني والاسلوب بضوء الرؤية العامة لم يعد مجرد اختيار ذاتي يعبر عن (ابداع) الفنان الشخصي بل اصبح اتجاهاً ذا مدلول ثقافي وثيق الصلة بحضارة الفنان والذي يبدو هو ان (اهتمامات) جواد سليم (ولحد ما عطا صبري وحافظ الدروبي بشكل أو بأخر ) وجدت لها ارضاً خصبة لدي شباب الفاننين الذين اشتركوا في معرض جماعة بغداد الاول والمعارض التالية لهم ( ومنهم كاتب هذه السطور )، وكتب د.محمد صادق رحيم (تجربة جواد سليم) قال عنها (نصب الحرية في الباب الشرقي لبغداد هو ختم اسطواني سومري مكبر من حيث فكرته, اما اذا اردنا تشبيهه بلافتة في تظاهرة كما يرى مصمم بنائه وقاعدته (رفعت الجادرجي ) فسنقع بركاكة تجربتنا للشعور بفشل التصميم عموما. أذا اخذنا اي ختم اسطواني سومري ومررناه على لوح من الطين فسنحصل على نحت بارز مستطيل مؤلف من الشخوص والحيوانات والرموز يشبه الى حد بعيد نصب الحرية هذا هو الذي منح نصب الحرية مشروعيته واصالته العراقية.. عند النظر الى النصب من اليمين الى اليسار نرى كتلة نحتية يتبعها فراغ ثم كتلة نحتية اخرى وهكذا...ان هذا الارتفاع والهبوط يفتح اذاننا الى صوت الطبلة الغجرية العراقية المتفردة من بعيد فهو صوت وفراغ ثم صوت ففراغ ان هذه الحكة والتوقف ولارتفاع والهبوط تجعلنا قادرين على اخذ اي جزء من الملحمة ومعاملته كعمل فني نحتي مستقل , لكن هذا لم يؤثر اطلاقا في النسق الفني التام والعلاقة الوطيدة بين كل اجزاء الملحمة عند النظر اليها كاملة مرة واحدة.. لقد حقق جواد سليم ذلك بقدرة فنية عالية )، وكتب سهيل سامي نادر (في دائرة الضوء : جواد سليم) : (بروحية موسيقى قدر له ان لايكون موسيقياً تقدم جواد سليم الى الرسم مثقفاً عصرياً امن بفكرة الانجاز الشخصي لكنه امل في الوقت نفسه ان يجد له مكاناً في ثقافة محلية تستذكر انجازات قديمة.. ثقافة تختلط فيها روائح الاثاث بروائح الطعام، الحرفة المقدسة بالبضائع المستوردة هناء بيتي يحاط بالادعية ازاء نزاعات اجتماعية سرعان ما تسوى بالصلح، فكان ان اصبح رجل مصالحة.. ذكاؤه العقلي يطلق الحركة وعاطفته تقمعها!، عانى من شوق الى الحياة فهذا المستحيي كان يشتهي لمس الاشياء بحرقة ثم يفر هارباً من لمسته لكي يستعيد لذاذاتها في داخله. تأخذه (جرءات) مرحة الى مغامرات صغيرة كان لايني يطفىء مرحها بتأمل ثقافي غذّ الخطى الى الماضي فيما كان يفكر في عصره وينتخب تقنية منه)، كذلك كتب علي حسين عن (جواد سليم ونصب الحرية) (في قلب العاصمة بغداد، ووسط أشهر ميادينها (ساحة التحرير)، تطل علينا مخلوقات (نصب الحرية) العمل الضخم لجواد، والذي كان يحلم به مزيناً مدينته التي لاحظ أنها خالية من التماثيل والمنحوتات ليصبح هذا النصب العمل الاكثر أهمية في تاريخ جواد الشخصي وتاريخ النحت العراقي والعربي..معجزة فنية خالدة حلم بها الفنان طويلاً وفكر بما يليق بانتقال وطنه إلى نظام جديد (قيام الجمهورية في 14 / تموز 1958) تآزر أفراد الجيش والشعب معاً لبنائها. في نصب الحرية يستحضر جواد ماضي العراق وحضارته يخبرنا جبرا ابراهيم جبرا بان فكرة نصب الحرية كانت ترود جواد منذ منتصف الاربعينيات لكنة لم يرى الوقت انذاك يصلح لتنفيذها وعندما جاءت ثورة 14 تموز ايقن جواد ان الوقت المناسب لتفيذ حلمه قد حان لتبدا الخطوات الاولى في تنفيذ الحلم).
كما تضمن العدد (نصب الحرية.. دراسة تفصيلية) لكل مفردات النصب، وفي الاخير اختتم الملحق بـ (روح جواد سليم) للشاعر خزعل الماجدي قال عنها (حين هبطت روحه بين أيدي النساء الناحبات بكى جواد كثيراً معهن حتى غاب عن الوعي ولم يفق إلاّ حين سمع دوي الإنفجارات فعادت روحه من حيث أتت ولم يرغب في أن تبكي عليه النساء، في اليوم الثاني حامت روحه حول النصب وهبطت عند الطفل فوجدته ممدداً والدمُ ينزفُ منه ثم سقط الطفلُ في ساحة التحرير ملطخاً بدمه.. ذُعرت روح جواد وطارت، في اليوم الثالث عادت روحه وهبطت على عنق الحصان الملتوي فجمح الحصان به خارج النصب وطار فوق بغداد وهبط بين المارة والسيارات فانطلق الرصاص عليهما ورماهما الناس بالحجارة، وشاهد جواد المسلحين والبنايات المحترقة والناس الذين يركضون في الشوارع من الخوف لكز جواد جواده وطارا وعادا إلى النصب، صعدت روح جواد إلى الأعالي وهي تودع النصب، ولمحته يتصدع ولمحت المنجمين يتجمعون تحته ويشعلون البخور وينصبون مرآتهم ويتكنهون: ـ إهدموا هذا النصب فإن روحاً شيطانية تسكنه هي سبب خراب العراق..!!)