أذكرشارل .
كان رفيقي في الصف مدى خمس سنين وكنا بعمر العاشرة تقريباً عندما التقينا، لكننا لم نتحول صديقين لاختلافات كثيرة بيننا في الطبع والسلوك والتفكير. وحين اندلعت الحرب كان من الأُول الذين حملوا السلاح ونزلوا الى الشارع والمتاريس وسيرة الموت. أنا بقيت بعيداًَ لكنني كنت أشارك في جنازات رفاق صفي الذين مات نصفهم خلال المعارك المتنوعة، وحتى اليوم أذكرهم فرداً فرداً ويخطر ببالي أن أكتب قصصهم جميعاً، الأحياء والأموات، لأنها تستحق ألا تضيع .
شارل واحد منهم . الا أنه ما كان ليطفو بالحاح على سطح ذاكرتي لولا مصادفة غريبة استوقفت تفكيري وجعلتني أراه في أحلامي مرارا منذ أيام وأعيش قصته كما حدثت، من الأول.
كنت ماشياً، بعد ظهر، في شارع الحمرا في بيروت على الرصيف الممتد من أمام مقهى الويمبي باتجاه وزارة الاعلام، متطلعاً معظم الوقت الى الأرض، لأن هناك ورشة حفرت الطريق وبعض الرصيف منذ أشهر ولم تنته واذا لم يتنبه الماشي تماماً فيمكن أن يقع في حفرة أو يرتطم بحجر ضخم . لذلك لم أر امرأة تتوسط فتاتين يقتربن مني ماشيات في الاتجاه المعاكس الا عندما أصبحن بمحاذاتي تماماً.
بطرف عيني لمحت عينَي المرأة ، خضراوين تملآن وجهها الأبيض وتصلان حتى شعرها الأشقر الطويل.
في لحظة قفز أمامي شارل .
كنّ قد أصبحن خلفي بخطوتين أو ثلاث فجمدت في مكاني مستديرا ًنحوهن ، وسمعت نفسي كما لم أفعل طوال حياتي مع امرأة غريبة في الشارع أناديها باسمها بصوت عالٍ : quot; مريم؟!quot;. فالتفتت نحوي باستغراب وتوقفت، وقبل أن أسلم عليها سألتني : quot; من أين تعرفني؟quot;. فأجبتها أنها وأهلها كانوا يسكنون حتى أول مرحلة من الحرب في حيّنا في الأشرفية.
هزت رأسها متعجبة جداquot; وقالت :quot;صحيح ، ولكن كيف تذكر اسمي؟quot;. شعرت بأحراج وأنا أقول لها أنني كنت رفيق شارل وquot;هل تذكرين شارل؟quot;. فأجابت وهي تحدق في وجهي كأنها تنقب في الذاكرة :quot; من زمان...زمانquot;. وتطلعت خلفها حيث الفتاتان تنتظرانها على بعد أمتار وأمارات الدهشة والريبة على وجهيهما ، وبدا واضحا أنها هي أيضاً شكت في أمري فرمت كلمة quot;العفوquot; خلفها بتعجّل ومشت نحوهما كأنها تهرب. وسمعتهن يبربرن في شأني بينما أكملت طريقي مفكرا بشارل.

كنا في الحي نسميها مريم الكردية وكانت أجمل فتيات الحي تبهرنا جميعا بعينيها الساحرتين ولاشيء في مظهرها وثيابها يوحي أنها كردية ، وحدها لهجتها كانت غريبة الى حدٍ ما . لكنها اختفت فجأة وعرفنا لاحقاً أن أهلها خافوا الحوادث والانتقامات الطائفية وغادرت معهم في ليلة ليس فيها ضوء قمر.
بعد ذلك كلما التقيت شارل كان يحكيني عن مريم وألاحظ أنه فقد مرحه وروح السخرية اللذين كانا يميزانه وبات مجرّد شاب كئيب.
ومع أنه كان يعدّ من المقاتلين الشرسين والمسيّسين بدا يوماً بعد يوم أنه لم تعد تهمه المعارك ولا السياسة ولا شيء ولا أحد في الحياة الاها. وكلما فتح سيرتها أمام رفاقه كانوا يسخرون من الكردية وأهلها وتعلقه الشديد بها. وأذكر أنه أطلعني مرة على خطة ، خيالية طبعاً، وضعها للتسلل الى quot;بيروت الغربيةquot; بسلاحه وتخليصها من أهلها الذين كانوا يرفضون أن تتزوجه، لكنه لم يكن قد تمكن من اقامة اتصال بها ولا تحديد مكان سكنها .
وآخر مرة التقينا جلسنا على كرسيين في المقهى الصغير الوحيد الذي ظل يفتح في الحي خلال الساعات الصباحية فحسب تلك الأيام، وأخذ يحكيني عن مريم الكردية ومعاناته المستمرة منذ شهور. وأضاف أنه يفكربالانتحار ولم يعد يتحمل الحياة من دونها.
ظننته يمزح ، فأجبته وأنا أقوم عن الكرسي أن هذه أفضل فكرة في رأيي ولا أرى حلاً أحسن. وكنت أضحك في سري ولا جلد لي على سماع الخبرية نفسها، فودعته بسرعة.
ولم أدرك معنى هزة رأسه مراراً والأسى يغمر وجهه.
في المساء أخبروني أن شارل أطلق النار على رأسه في المتراس حيث كان في نوبته وحيداً.
وقد شاركت في جنازته في اليوم التالي. وأذكر أنني بكيت وأن رفاقه أطلقوا رشقات نارية كثيفة في الهواء، وصوره كانت على كل جدران الحيّ...
لكنني أرجح أن مريم الكردية لم تعرف .
كان عليّ أن أخبرها عندما التقيتها قبل أيام في شارع الحمرا.