حسين السكاف : quot;الثقافة على عداء دائم مع النسيان... غالباً ما يصفع الواقع كل هؤلاء الذين ينكرون قدرة التاريخ على مساعدتنا في فهم العالم والحقيقة معاًquot;... هي إذاً محاولة من الراوي ليضع صفحات تكتنزها ذاكرته كما التاريخ، وكأنه يقدم أوراق شكواه إلى عدالة الذاكرة لتصبح تاريخاً ثقافياً عصياً على النسيان. ولكن هل عمد المؤلف فعلاً إلى هذا؟ هل كان الهدف من روايته أن يجهّز أوراق البعض ممن عرفهم في خضم مسيرته الأدبية والثقافية التي خاضها لسنوات طوال، حتى وإن ظهرت بأسماء مستعارة؟ هذا ما سيعرفه القارئ حين يرتحل مع الروائي السوري فوّاز حداد في روايته quot;المترجم الخائنquot; ( دار الريس 2008).
رواية الكاتب السوري فوّاز حداد laquo;المترجم الخائنraquo; تتّخذ من مترجمٍ laquo;خانَraquo; أخلاقيّات مهنته وقوانينها رابطاً بين شخصياتها. المترجم الذي اقترف ذنب تحويل نهاية رواية إنكليزية حائزة جائزة laquo;بوكرraquo; البريطانية إلى نهاية مغايرة تماماً، تحوَّل من مذنبٍ إلى ضحية، بمهارة روائية اعتمدت تعدد الشخصيات وباتساع ملحوظ في أحداثها. مع اتساعها، تضمّنت الرواية دروساً في فنّ الترجمة والنقد وحتى فنّ الرواية، بقدر ما تضمنّت نقمة واضحة من الراوي على الوسط الثقافي الخاص بجغرافية الرواية. هي تفصح عن واقع laquo;موبوءraquo; مليء بالضغائن والأحقاد. واقع يصنع من نصف المثقف ناقداً مهماً، تماماً كما يصنع من فتاة جميلة تخطو خطواتها الأولى في عالم الفن أو الأدب نجمة ساطعة مبدعة. ولم يكتفِ الراوي بهذا، بل طرح نماذج متعددة للمثقف، المتآمر، المافيوي، التاجر، المزوّر، الفاسد... ربما نتفق مع الراوي على أن جميع الحالات التي كشف عنها موجودة في مجتمعاتنا. لكن، وضع كل هذه الحالات مجتمعة وبشكل مكثّف في مكان واحد، قد يمنح الفكرة إشكالية كبيرة تبعدها عن إمكان إسقاطها على الواقع.
رغم الخيانة التي ارتكبها المترجم حامد سليم بحق الرواية التي ترجمها، واعترافه بذلك، إلا أنّ المؤلّف نجح في استمالة القارئ إلى صف المترجم لينال العطف، عن طريق حبكة روائية محكمة وضعت المترجم تحت طائلة زيف وظلم وفساد مستشرٍ ظهرت أكثر كارثية من الذنب الذي اقترفه. ويزداد تعاطف القارئ معه، وخصوصاً عندما يُشغل بالبحث عن شخصية روائية غائبة، تجرّعت سابقاً مرارة الظلم والتهميش من الكثير من المثقفين المتكيّفين وأصحاب النفوذ. هذه الشخصية ظلّت بغيابها تربط القارئ بشوق التعرف إليها، لكونها تقترب مما قاساه المترجم جرّاء الحرب التي شُنّت عليه من الزمرة نفسها التي غيّبت ذلك الروائي، كأنّ سلسلة الظلم والتهميش مستمرة ولا أمل بإيقافها.
في الفصول الأخيرة من الرواية، نتعرّف إلى الروائي المهمّش سميح حمدي، بعد أن يعثر عليه المترجم laquo;الخائنraquo;. لكن، بأي صورة وجده؟ خائف، لا يعرف ما يدور في الخارج، مختبئ في بيت أخته. عشر سنوات وهو يكتب رواية واحدة تجاوزت عشرة آلاف صفحة. وإذا امتد به العمر فسيضيف إليها عشرة آلاف أخرى. ترى هل كان يكتب آلامه؟: laquo;روايتي عن السفالات البشرية والموت البطيء والجنون...raquo; هو إذاً، لا يبتعد كثيراً بآرائه عن الراوي.
الخيانة التي ارتكبها المترجم جعلت منه مطية لممارسات الانتهازيين المتاجرين بجهود الكتاب. المستشار الثقافي لدار نشر يطلب منه خدمة لمشروع تنويري، يتمثّل في ترجمة الروايات، لكن باسم مستعار وأجر منخفض... رئيس تحرير جريدة أسبوعية يطلب منه تحرير زاوية الراصد الثقافية وتحت اسم مستعار أيضاً، روائي سارق، متمرّس في سرقة أفكار روايات أجنبية غير مترجمة، يطلب منه تزويده بأفكار جديدة عبر ترجمات غير منشورة، ويختار له اسماً مستعاراً حرصاً منه على السرية التامة. هكذا يتشظّى المترجم الخائن إلى أربع شخصيات تتصارع فيما بينها، مخلّفةً وراءها بقايا كائن بشري فتّته الإحباط والشعور بالظلم والتفكير الدائم بتحوّله إلى مسخ. وهذا ما دعاه إلى اتخاذ القرار الجاد بقتل روح الاستسلام التي كانت مسيطرة عليه. لكن، بعد كل هذا، هل يمكننا أن نسأل: مَنْ مِن شخوص الرواية كان قريباً بالفعل من فوّاز حداد؟