صلاح نيازي: آختلف النقاد في النظر إلى هذه المناجاة، كما لم يختلفوا من قبل، وكتبوا عنها، ربما، أكثر مما كتبوا عن أية مناجاة أخرى. هذه الآختلافات هي من علامات غناها الباذخ. إنْ قلتَ إنها قصيدة ساخنة، فهي باردة أيضاً، وإذا وصفتها قصيدة عاطفية فهي في الوقت نفسه قصيدة ذهنية، وإذا ظننتَ أنّها قصيدة نثرية، فهي ذات إيقاع حادّ لدرجة جرح الحنجرة، وطبلة الأذن. كذلك هي دينية دنيوية معاً.
لو تصوّرنا هذه المناجاة قطعةً من إحدى مسرحيات خيال الظلّ، فالمحرك Manipulator الأساسي الخفي فيها هو الطموح، وما مكبث، والليدي مكبث وسواهما إلاّ خيالات دُمى على ستارة. كذا الفرق بين ثقافتيْن. بين المتنبّي يحثّك على أنْ quot;لا تقنعْ بما دون النجومquot;، وبين شيكسبير يتصوّر الطموح شرّ الشرور ما أنْ يصاب به الإنسان حتى يتحيون ويتوحش ويتأنّن (من الأنانية). .
ما علينا، لننزلْ من النجوم، إلى المناجاة.
حلّلها بعض النقاد تحليلاً نفسانياً فراحوا يفتشون عن مدلولات الكلمات ليكتشفوا دواخل مكبث التي آنصهرت فيها البراءة بالجريمة. وقف نقاد آخرون أمامها كقطعة موسيقية يشترك في عزفها الخنجر والدم والريح والمهماز وصهيل خيول غير مرئية بقيادة أغرب مايسترو هو الطموح.
وبعد،
ما حيثيّات الجريمة؟ هل كان مكبث شرّيراً أم مدفوعاً للشرّ؟ كذا آعتبرت هذه المناجاة وثيقة قانونية.
على أية حال، تأخر توقيت هذه المناجاة في المسرحية. النظارة في آنتظارها. مرّت سبعة مشاهد من الفصل الأوّل والنظارة في آنتظارها. لم ينفرد مكبث بنفسه إلاّ في المشهد السابع من الفصل الأوّل. وقت متأخر، يجئ بعد أنْ ألقت الليدي مكبث مناجاتين، وبعد رسالته لها وانتصاره في المعركة، وإخبارها عن الساحرات الثلاث اللواتي أوحيْنَ له من أنّ صولجان الحكم سيؤول إليه. النظارة يتحرّقون لسماع ما الذي سيقوله مكبث في كلّ ما مرّ من حوادث مصيرية.
يقول Wolfgang Clemen:
quot;تأتي مناجاة مكبث الأولى متأخرة نسبياً لذا فنحن متشوفون لسماع جواب مكبث عن السؤال الذي خطر ببالنا في عدّة مناسبات: هل سيقوم بالفعلة (قتل الملك) أم ربما سيعدل عن رأيه الآن؟
المناجاة عادة لا تعطي جواباً واضحا، وهذا مما يزيد من تأثيرها الخاصquot; (ص 151)، آخذين بنظر الآعتبار أيضاً ما قاله John Drakakas من أن المناجاة عند شيكسبير quot;تؤدي وظيفة مختلفة جدّاً- ليست لتصعيد الحدث أو تعيين الآستدلالات أو النتائج - ولكن لتعويقها وجعلها بعيدة عن الفهمquot; Shakespearean Tragedy) )(ص68).
لنتعرّفْ أوّلاً على مسرح الحدث، مكاناً وزماناً. يقول Clemen: quot;كان مكبث يتكلّم أمامنا، في حين كان يجري في الخلفية تحضير مائدة الدعوة على شرف الملك الضيف. كذا يُخلق جوّ متباين تبايناً قارصاًquot;.
إذن ثمّة حشدان، حشدٌ مرِحٌ صادح بالمزامير، ومضاء بالمشاعل، وحشد خفيّ في دهاليز رأس مكبث. إنه مكتظّ بحشود الشرّ الحاثّة على قتل الملك. هل سيقتله؟ ما العائق؟ هل هو الخوف من العواقب في الدنيا والآخرة؟.
يذكر A C Bradley:quot; حتى حينما كان يتحدّث مكبث عن التبعات (الناجمة عن القتل)، ويعلن أنه لو كان في منجى منها، فإنه لن ينجو من حكم الآخرة. خياله يشهد ضدّه ويرينا أنّ ما يردعه حقّاً هو الخساسة الشنيعة للفعلة (قتل الملك) (.(Shakespearean Tragedy (ص297). مع ذلك يبدو أنّ مكبث لم يكنْ يفكّر في الخساسة، وإنما كان حريصاً على حياته، لا سيّما وإنه كان قد خرج للتوّ من معركة خالية، كأية معركة، من الرحمة. يبدو أنه في هذه المرحلة من الخطة كان يخاف من العقاب الدنيوي أكثر، لأن عقاب السماء مؤجل إلى حين في أقلّ تقدير. وهي الحالة نفسها التي مر بها هاملت، حينما همّ بقتل الملك:
To be, or not to be, that is the question
quot; أأكون أم لا أكون تلك هي المسألةquot;، أي هل أنجو أم لا أنجو من العقاب إنْ أنا قتلت الملك؟
الحقيقة إنّ المناجاة تتعقّد أكثر فأكثر كلّما أمعنا النظر فيها، ذلك لأنّ quot;الصور المجازية فيها متراصّة تراصّاً تصعب معه إعادة سبكها أو تحليلهاquot; حسب قول جيْ. بي. هارسون (ص 139).
آحترازاً قد يكون من الأفضل لو تتبعنا المناجاة فقرة فقرة، ومرحلة مرحلة، وهذه هي الطريقة التي درج عليها النقاد الجادّون باللغة الإنكليزية.
تبدأ المناجاة ومكبث يقلّب أمر قتل الملك. النبرات الشعرية الحادة التي آستعملها مكبث، تدلّ على أنّه كان يفكّر في الأمر من قبل. ربما وصل إلى قناعة بقتل الملك، إلاّ أنّه الآن آتخذ موقف إنسان مجرد تجرّد قاضٍ نزيه.
quot;إذا فُعِلت الفعلة وآنتهتْ، إذا ما فُعِلتْ، فمن الأفضل إذن
أنْ تُنجز بسرعةquot;
If it/ were done/ when lsquo;t is/ done then/ lsquo;twere well
It were / done quickly
في النصّ الإنكليزي أعلاه ثمّة ثلاث عشرة كلمة في السطر الأوّل والنصف. آثنتا عشرة كلمة منها أحادية المقطع Monosyllable . الكلمات الأحادية المقطع هنا حادة، متأزمة. (أشبه بنبرات: فِعْ لُنْ أي بحر الخبب العربي)،إنها كما يبدو ذروة المحنة النفسية التي يمرّ بها مكبث. بكلمات أخرى، إن قتل الملك لم يكنْ شيئاً مفروغاً منه، كما أنّ مكبث لم يكنْ شخصاً ميت الضمير تماماً.
يقول John Baxter في كتابه:(s Poetic Styleslsquo;Shakespeare) (وهو من أهمّ مصادري التي آعتمدت عليها في الكتابة عن هذه المناجاة): quot;إنّ جزءاً من صعوبة فهم هذه اللغة الواضحة يكمن في الإيقاع الشعري في السطر الأوّل والنصف. إن الطاقة الشديدة التي رافقت مكبث في تفكيره في قتل الملك، طلعت إلى السطح بواسطة التكثيف الفعّال، وبواسطة التنسيق الإيقاعي ndash; عن طريق الكلمات السريعة الأحادية المقطع، وبواسطة آستعمال التكرار، وآستعمال الوقف بين الكلمات من حيث التفاعيل الشعرية Caesuras .
أمّا Wolfgang Clemen فيشير في كتابه الفريد:Shakespeare s Soliloquies) ) إلى أنّ شكل الشعر حتى في بداية المناجاة يوحي بأنّ مكبث كان قد فكّر طويلاً في قتل الملك من قبل.
مما يثير الآنتباه أن مكبث لم يُسمِّ جريمة القتل بآسمها. إنما أشار إليها بكلمة: quot;Itquot;. لماذا؟ ما من أحد كان يسمعه، فَلِمَ التستّر؟
كانت فكرة قتل الملك قد خطرت ببال مكبث من قبل (في الفصل الأوّل ndash; المشهد الثالث)، وأسماها Fantastical أيْ متخيّلة:
quot;لماذا أُذعن للجريمة
التي توقف صورتها الشنيعةُ شَعَرَ رأسي
وتجعل قلبي الثابت يدقّ على أضلاعي
على غير العادة؟ ومخاوفنا الحالية
أقلّ من مخاوفنا المتصورة المرعبة.
إنّ فكري، وما يزال القتل فيه متخيّلاً،
يزلزل وجودي كلَّه...quot;

يقول John Wain: quot;العبارة في مسرحية مكبث من بين كلّ مسرحيات شيكسبير، تتصادى مع عبارة أخرى أو تنذر بقدومهاquot;.
على أية حال، إنّ كلمة: It قد تكون بمثابة المفتاح الصغير الذي يفتح أضخم البوّابات والقلاع.
يقول John Baxter: الشكّ الناجم من كلمة:quot;إذاquot; هو أساساً نوع من الحيرة مناسب للآفتراض أو ما يُسمّى فلسفيا: القياس: Syllogism . تُفتتح المناجاة بوصف عاديّ، حالة واضحة معاكسة للحقيقة وهي، بكل القواعد اللغوية تفيد بأنها لن تُفعَل حينما تُفعل...ونحن من البداية نُحمل على أن نتوقع خاتمة تناقض، تحت شروطٍ، الإمكانَ الذي ثُبِّت في البدايةquot; (210)
يقول Clemen:quot; الإشارة إلى جريمة القتل بـ It وهي الكلمة الثانية في المناجاة، ليستْ فقط رفضاً للآعتراف بالكلمة الخبيثة والواضحة:quot;جريمة قتلquot;، بل أيضاً إنها دليل على آنشغاله المتواصل بهاquot;.(151 ndash; 152)
يبدو أنّ كلمة It ليستْ رفضاً، كما ذهب إليه ظنّ الناقد أعلاه، وإنّما هي كلمة محايدة مجرّدة وباردة عمداً. فبعد أنْ آنتهبت الأفكار مكبث ذات اليمين وذات الشمال، جلس الآن هادئاً أو متصنّعاً الهدوء ورباطة الجأش، يداور الأمور ويزنها بموضوعية، وكأنّ المسألة دعوى قضائية، أو تجربة مختبرية، لا تحتاج إلى آنفعال. أو انها ليستْ شخصية، وهذا هو الأهم. مما يعزّز هذا الرأي وجود الشرط:quot;Whenquot; أي حينما،بعد ذلك مباشرة.
الغريب، يتلاشى هذا التجرّد بطرفة عين. الآنتقال السريع المفاجئ هذا، هو ما يميز هذه المناجاة، لأنها من بنات العقل الباطن، وبه تُجمع الأزمنة في لحظة، والجغرافية في أقلّ من بوصة. يبدو أنّ كلمة:quot;Donequot; أي:quot;فُعِلَتْquot; هي التي قضت على ذلك التجرّد، وكأنّ مكبث تصوّر من جراّئها قتل الملك فعلاً. إذنْ ليس من العجب أنْ تُعاد كلمة:quot;Donequot; ثلاث مرّات، وكأنها الضربات الآعتيادية الثلاث إيذاناً بآنفتاح ستارة المسرح. (للمزيد من المعلومات عن كلمة Done يحيل quot;كلمنquot; القراء إلى كتاب:M. M.Mahood ( .(Shakespeare s wordplayبالمناسبة، الرقم ثلاثة رقم مسحور في مسرحية مكبث ويتكرّر في عدّة مناسبات. الضربات الثلاث أيقظت العقل الباطن. وبيقظته، ينتقل مكبث من صيغة المبني للمجهول الذي تستّر خلفه إلى حين، إلى صيغة الأنا. أسفر مكبث عن وجهه الآن:
quot;ليت الآغتيال يصطاد كلّ التبعات، كشبكة الصيد، ويأتي
نجاحي بموته...quot;
هكذا تعيّنت نوعية قتل الملك: عن طريق الآغتيال. لكنْ ألا تدلّ كلمة:quot;ليتquot; في أوّل السطر على كابح أو بالأحرى على خوف؟ ليت، لا ريب، كلمة شخصية تمنٍّ شخصي، إنها تشير إلى مرحلة نفسيّة جديدة. آنتهى ما تظاهر به من موضوعية وتجرّد. المسألةُ الآن مسألته هو بدليل كلمة: نجاحي. إنها لا شكّ كلمة شخصية.هكذا نزع مكبث عن وجهه قناعه لكن، لِمَ شبكة الصيد؟ هل لدفع الخيال إلى مادة سائلة؟ المواد السائلة في مسرحيتيْ هاملت ومكبث على وجه الخصوص علامة التفسّد والتقيّح والتمرّض والموت، سواء أكانت تلك السوائل، إفرازاً جسدياً، أمْ كأساً مسمومة، أمْ ماء في حوض، أمْ نهر.
الشبكة لا ريب توحي بماء، هل هذه تقدمة لما سيجري من دم الملك؟ وهل هي تقدمةإلى قوله:quot; حتى هنا في الساحل الرملي لبحر الأبديةquot;؟
الآنتقال هذا من دم الملك الذي يُشبه في جريانه جريان نهر، إلى بحر الأبدية، إنما هو تعاظم صورة أمواج الجريمة. تكبر وتكبر، إذن لا يمكن صيد تبعاتها. بهذا الأسلوب جعل شيكسبير جريمة القتل كونية.
ما همّْ. قد لا يأبه مكبث الآن بحكم السماء عليه، إن هو آقترف الجريمة، لأنّه حُكْمٌ مؤجّل، في أقلّ تقدير. أشدّ ما يخافه، هو أنْ يصدر عليه الحكم، هنا في الحياة الدنيا:
quot;...إنّ العدالة الحقانية اليديْن
تقدّم لنا الكأس التي ملأناها بالسمّ
إلى شفاهنا نحن...quot;
بهذا الأسلوب المحكم، آنتقل الموت من الملك إلى مكبث. من تدفق دم الملك وهو تدفق من الداخل إلى الخارج، إلى الكأس المسمومة، وهي آرتشاف من الخارج إلى داخل جوف مكبث. النتيجة واحدة رغم أنهما متعاكسان.
هل أعادت الكأس مكبث إلى رشده؟ جعلته، في الأقل يتردّد؟. التردّد هنا حالة نفسية أخرى. أقرب إلى الخوف. ربما تساءل من جرّاء الخوف: لمذا يقتله؟ الملك قريبه أوّلاً، وهو ضيفه هذه الليلة، والملك عادل، إذنْ لِمَ يقتله؟ أراد إن يبرّر إحجامه المفاجئ عن القتل:
quot;...فإنّ هذا الـquot;دنكنquot;
مارس صلاحياته بتواضع وكان
خالياً تماماً من كلّ شائبة في عمله، بحيث ستترافع
فضائله عنه، مثل ملائكة مبوّقة ضدّ
اللعنة المريعة على قتله...quot;
يقول كنيث Muir: تعني Trumpet -tongued ndash; إمّا آستعمال الأبواق في الكلام أو، وهو الأكثر آحتمالاً، بأصوات واضحة ونافذة وموسيقيةquot;، ويعتقد ولْسون:quot;إنّها تشير إلى يوم القيامةquot;.
قد يكون هذا التفسير أقرب إلى المنطق وإلى قيامة مكبث الصغيرة. ومما يُذكر أن أمْ .سي. برادفورد، ذكر أنّ صورة يوم القيامة التي كانت مرسومة على قوس المذبح في الكنيسة المجاورة لبيت شيكسبير في ستراتفورد، صَوَّرتِ الملائكة في هذا المشهد بأبواق مرفوعة تدعو الأموات إلى القيام ليوم الحشر.
كذا نزلت اللعنة من السماء، وبالتزامن معها نزلت الرحمة من السماء كذلك، في أرقّ الصور الشعرية التي آبتدعها شيكسبير. أوّلاً لأنه جسّد أو شخصن الرحمة وشبهها كطفل عارٍ، وجعلها على صهوة فرس، معلّقة بين السماء والأرض، نافخة الجريمة في كلّ عين:
quot;...والرحمة مثل طفلٍ عارٍ
تمتطي زوبعة الآحتجاج أو مثل الملاك كروب
على صهوة
خيول الهواء الخفية
ستنفخ الفعلة الشنيعة في كلّ عيْن
لذا ستغْرِق الدموعُ الريحَ...quot;
ما تمناّه مكبث، من صيد التبعات، أمر مستحيل. فمثلما كبرت أمواج الجريمة على الأرض فها هي تتوسع إلى السماء. خيول غير منظورة مما يدلّّ على سرعتها الخاطفة، في نقل خبر الفعلة الشنيعة. ثمة أيضاً زوبعة وريح وملائكة. الطبيعة تتزلزل. الطبيعة تختلّ وتزلزل. تباين رهيب. الرحمة تزداد رقّة وعظمة مع اللعنة واللعنة تزداد شرا وقبحاًّ مع الرحمة. تباين رهيب، وشيكسبير، من أكبر أساطين تصويرالتباين في الأدب.
يقول Bradford:quot;إنّها الرحمة مثل مولود حديث يصاحب ملائكة السماء... وهذه صورة المسيح عندما يدخل العالم لإيجاد شفاءquot;. ويقول جيْ كيْ. Hunter: عن الرحمة بأنها:quot;ستمتطي الرياحَ وتنفخ الفعلة الشنيعة في كلّ عين كالترابquot;.
يقول Clemen عن تجسيد المجرّد كما هي الحال في مصطلح: quot;الرحمةquot; هنا، إلى:quot;أية درجة آبتعد فيها شيكسبير من النوع التقليدي للتـشخيص Personification،وكيف آنصرفتْ صوره المجازية إلى الغريب والفريد. ومما يلفت النظرأيضاً أن تلك المجرّدات وُضِعت الآن في فضاء شاسع ونقلت إلى عالم غير متناهٍ من الغيوم والرياحquot; (ص98 ndash;99).
يبدو أنّ شيكسبير آستقى هذه الصورة الشعرية من المزمور الثامن عشر:quot;طأطأ السماوات ونزل وضباب تحت رجليه. ركب على كروب وطار وهفّ على أجنحة الرياحquot;. والكروب Chirubins ملاك مأخوذ من اللغة العبرية.
من الطريف ما جاء في قاموس لسان العرب:quot;...الكروبيّون سادة الملائكة، منهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، هم المقرّبون، وأنشد شَمِرٌ لأميّة:quot;كروبيّةٌ منهم ركوع وسًجّدُquot;.
في الظاهر، نفخت الرحمةُ الفعلةَ الشنيعةَ، أوّل ما نفخت، في عين مكبث. خاب وآنكسر طموحه. ما تبقى من المناجاة آنكسارات مدحورة، ومكبث أضحى عصافة هشّة:
quot;... ما من مهماز لديّ
لأنخس به خاصرتيْ عزيمتي، سوى
طموح جامح، يثب إلى أعلى مما ينبغي
فيسقط على الجانب (الآخر)...
قد تكون الرحمة وهي تمتطي زوبعة الاحتجاج تمهد لفرس ِعزيمة ِمكبث أعلاه وشتان. التباين على أشُدّه وضوحاً أو كما يقول المعرّي: quot;والضدّ يُظهر حسنَه الضدُّquot;، ما من حسن هنا. آغتيال في أبشع صوره. وحتى يجعله شيكسبير أكثر بشاعة جاء بالرحمة المجسدّة بصورة طفل، وهي بعري جنين وكأنّها خارجة للتوّ من رحم. بلا ثياب ومكبث مكسوّ بالثياب والنياشين وربما بلطخ الدم، وهي غير لطخ دم الجنين الخارج للتوّ من رحِم.. قد ينفرد شيكسبير من بين كل سلالات الأدباء في قابليته الفائقة على تصوير التباين، كما ذكرنا.
لنتوقفّ قليلاً عند التباين في هذا المقطع. الرحمة نازلة من السماء لتطبّب، واللعنة نازلة على مكبث الخارج للتوّ من مسلخة حربية. الرحمة ضعيفة كالطفل، ومكبث متسيّف. أكثر من ذلك الرحمة منطلقة بثبات في الجو وعلى صهوة فرس ومكبث حتى على الأرض يسقط من فرسه، وأخيراً تقترن الرحمة بالملاك كروب، ولا يقترن مكبث إلا بطموحه الدمويّ الفاتك.
بتوقيت السقوط في نهاية المناجاة، وهو توقيت حاذق، لاريب، تدخل الليدي مكبث وهو لم يكمل حتى بقية جملته:quot;فيسقط على الجانب(الآخر)quot;، فيسألها بتعجب، ربما بحيرة وهلع:
quot; ما هذا! ما الأخبار؟quot;
ممّ كان يتعجّب؟ هل من سقوطه؟ على أيّ شئ يدلّ: ما هذا؟ ولِمَ كان يسأل عن الأخبار ؟ هل تخوّف من آفتضاح نواياه؟
على أيّة حال ألا يدلّ الآستفهام الذي آنتهت به المناجاة، على أنّ لهاثه الخائر ما يزال متواصلاً.
تجيبه الليدي مكبث عن سؤاله: ما الأخبار:
quot; آنتهى(الملك) تقريباً من عشائهquot;
***
كأنّه كان عشاء المسيح الأخيرمع حوارييه قبل الصلب.
نعمْ كان ذلك فعلاً عشاءه الأخير.
المناجاة
مكبث: (على حدة) إذا فُعِلَتِ الفعلةُ وآنتهتْ، فمن الأفضل إذنْ
أن تُنجز بسرعةٍ. ليت الآغتيال
يصطاد كل التبعات، ويأتي

نجاحي بموته، ليت هذه الضربة
تكون ما سوف يكون وخاتمة كل شئ هنا،َ
حتى هنا في الساحل الرملي لبحر الأبدية
نجازف بحكم الحياة الأخرى.-لكنْ في دعاوى كهذه
يصدر علينا الحكم دائماً هنا، وفي ذلك نلقّن
دروس القتل، وعندما تُهضم، تعود
وتعذّب مبتدعها: إنّ العدالة الحقّانيّة اليديْن
تقّدم لنا الكأس التي ملأناها بالسمّ
إلى شفاهنا نحن. إنه هنا في أمانٍ مضاعف
أوّلاً، لأنّي قريبه وأحدُ رعاياه،
وهما حائلانِ قويّان ضدّ الفعلة، ثُمّ إني مضيّفه
الذي يجب أن يحول دون أن يقتله أحد،
لا أنْ أحمل السكّين أنا نفسي. بالإضافة
فإنّ هذا الـ ْquot;دنكنْquot;
مارس صلاحياته بتواضع وكان
خالياً تماماً من كلّ شائبة في عمله، بحيثُ ستترافعُ
فضائلُهُ عنه، مثل ملائكة مبوّقة ضدّ
اللعنة المريعة على قتله،
والرحمةُ مثل طفلٍ عارٍ جديد
تمتطي زوبعة الاحتجاج أو مثل الملاك كروب
على صهوة خيولِ الهواء الخفية
ستنفخ الفعلة الشنيعة في كلّ عين،
لذا ستُغرقُ الدموعُ الريحَ، ما من مهمازٍ لديّ
لأنخسَ به خاصرتيْ عزيمتي، سوى
طموح جامح، يثبُ إلى أعلى مما ينبغي
فيسقط على الجانب ...
(تدخل الليدي مكبث)
ما هذا! ما الأخبار؟