حوار شامل معوكيل وزارة الثقافة السعودية والإعلام للعلاقات الثقافية الدولية المفكر الدكتور أبو بكر أحمد باقادر(1-3)
* الدراسات الاجتماعية عن العالم العربي مكتوبة عن كوكب آخر


* سؤالي الرئيس هو: كيف تؤسس الوحدات الاجتماعية، وما هي ديناميات الجماعة؟
* لا أجد صدى في الدراسات العربية عن الحياة الأسرية، الحضرية، وحياة المدن
* لا توجد مدرسة عربية في علم الاجتماع ودراسات سمير أمين وجلال أمين وسعد الدين إبراهيم متميزة.
* دوركايهم، و ماركس، وماكس فيبر، وبوبر كانوا يسيطرون على الفكر الاجتماعي

عبدالله السمطي من الرياض: لسنا خارج الذكرى تمامًا، إذ يظل الحوار الثقافي حول الفكر الاجتماعي موصولاً مع وكيل وزارة الثقافة والإعلام للعلاقات الثقافية الدولية المفكر الدكتور أبو بكر أحمد باقادر الذي يسترجع ذكرياته العلمية هنا، ويستعيد تاريخ أفكاره وتحولاتها عبر الدراسة والتدريس العلمي الأكاديمي، الدراسة في المملكة العربية السعودية ثم في الولايات المتحدة الأميركية، ثم التدريس في الأكاديمية السعودية في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة. تحولات الوعي الاجتماعي، الوعي الجمعي هو الموضوع الكامن والظاهر في فكر الدكتور أبو بكر باقادر الذي عمل أستاذًا لعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة الملك عبد العزيز بجدة . وتم تعيينه وكيلا لوزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية الدولية منذ ثلاث سنوات تقديرًا لإسهاماته الوطنية في عدة لجان وجاء تعيينه تتويجًا لدوره الإستشاري الذي أداه في وزارتي الحج والداخلية السعوديتين خلال السنوات الماضية قبل تعيينه وكيلا.
وهو صاحب المؤلفات المتنوعة في مجال علم الاجتماع ومنها: آفاق علم اجتماع عربي معاصر، الشباب في المملكة العربية السعودية، مشاكل الزواج والأسرة في دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من الدراسات والترجمات، وهو يرى أنه كان وما يزال محبا للكتابات والطروحات التي تعالج قضايا الإنسان، بالذات فلسفة التاريخ، وهو يركز في هذا الحوار على جملة من التجليات التي تسم الدراسات الاجتماعية في الغرب والشرق، ويتحدث عن مرحلة التكوين الفكري محليًا وعالميًا، وكيفية تواصله مع مختلف المدارس التي تعنى بعلم الاجتماع، وهو يرى أن الدراسات العربية في هذا المجال قليلة، وترى بعيون غربية للمجتمعات العربية ومجتمعات العالم الثالث.

الحلقة الثانية:نحتاج من يستثمر بشكل مختلف ويجعل رأسماله تاريخنا

الحلقة الثالثة: الكتابة الإبداعية مفتاح للتعرف إلى أفكار الناس

باقادر تطرق في هذا الحوار إلى جهوده في مجال ترجمة الفكر والثقافة بالسعودية، وصدور عدد من المجموعات، والمختارات باللغة الإنكليزية، كما تحدث عن رؤيته لبعض الدراسات الثقافية والاجتماعية التي كتبها إدوارد سعيد، وهشام شرابي، وسمير أمين، وسيد عويس، وسعد الدين إبراهيم، وجلال أمين، وتحدث عن تحولات المجتمع السعودي، عن القبيلة والقبائلية، عن الآفاق الثقافية الجديدة، وهو يرى هنا أن مجتمع المملكة العربية السعودية، من أكثر المجتمعات إثارة وقبولاً للتحليل السوسيولوجي، قضايا كثيرة متنوعة شملها هذا الحوار، وهذا نصه:

* د. أبو بكر باقادر : لك إسهامات علمية في مجال علم الاجتماع ، وهذا من التخصصات النادر توظيفها في الحياة الثقافية بالمملكة، ما هي الأسس التي تستند عليها في متابعة الحياة الثقافية بوجه عام، وفي متابعة الحياة الاجتماعية وتغيراتها خلال العقدين الأخيرين، حيث شهد العالم تحولات كثيرة جدًا، معظمها يتبع التحولات السياسية، مثل: الطريق الثالث، النظام الجديد، صدام الحضارات، أحداث 11 سبتمبر، والعولمة ... إلخ كل هذه التغيرات والتحولات الاجتماعية، كيف تنظر إليها كعالم اجتماع عربي من جهة، وكعالم اجتماع سعودي من جهة ثانية، وأثر هذه التحولات على علم الاجتماع نفسه؟
-سؤال مركب، وكبير، الحياة الاجتماعية، متجددة، وقد دخلت إلى علم الاجتماع من الباب الخلفي.
لقد كنت وما أزال محبًا للكتابات والطروحات التي تعالج قضايا الإنسان، بالذات فلسفة التاريخ، وسعيت منذ مرحلة مبكرة أن أطلع على المسموح به من فكر الحركات السياسية، وهذه الكتب كانت موجودة في مكة المكرمة حيث نشأت، لكن كان الآباء والمدرسة يدفعون الكل في التخصص في العلوم الطبيعية، وكنت نوعًا ما طالبًا مجتهدًا في الدراسة، وأبذل جهودًا في التحصيل، وفي الحقيقة حين انتهيتُ من الصف الأول الثانوي، واتجهت إلى قسم الأدب، ومكثت نحو أسبوع ووجدت الدروس لم تشكل لي التحدي الذي أرغب، فانتقلت إلى القسم العلمي، وكنت من الأوائل في القسم العلمي.
تخرجت في الثانوية العامة في القسم العلمي بعلامات كانت تعتبر في ذلك الوقت من العلامات العالية ، بشكل مباشر آنذاك كانت كلية البترول تستقطب نخب الخريجين في الثانوية العامة، ولم يكن هنالك ابتعاث. ذلك لأن احتمالات الابتعاث كانت ضيقة جدًا ومقتصرة فقط على العشرة الأوائل في المملكة، ولم أكن من العشرة الأوائل، فذهبت إلى جامعة البترول، لكن كانت محبتي للأشياء التجريدية والنظرية، وكان أقرب شيء لي : الرياضيات والفيزياء، وفعلا تخرجت في جامعة البترول، وفي الفترة الأخيرة بتحصيل جيد، في بكالوريوس رياضيات، مع التركيز أيضًا على الفيزياء، ولكن كان مع تناول دراستي كنت أحب مواد الأدب الإنكليزي، وأخذت فيها عددًا من الدراسات.
بعد تخرجي جاءت ساعة المصادفات بأن آخذ بعثة لدراسة الفيزياء، خاصة ما يرتبط منها بعلم الفلك، في إحدى الجامعات الأمريكية الكبيرة، وهي جامعة ( وسكنسن) فيها من أقسام الفيزياء والفلك المتقدمة عالميا، ولكن في هذه الأثناء حينما ذهبت إلى الولايات المتحدة، تفتحت دوائر اهتمامي في العام 1973- 1974 توجهت ndash; بآراء من زملائي الذين سبقوني- إلى مسألة التنمية والتغيير الاجتماعي، وإذ ذاك كانت الدراسات الاجتماعية تميل إلى الدراسات النفسية الاجتماعية، ودراسات ما يسمى بالمجتمع المحلي، وكانت معظم مبادراتي تتمثل في طرح سؤال رئيسي: كيف تؤسس الوحدات الأساسية الاجتماعية، وما هي ديناميات الجماعة؟ كيف يمكن أن يحدث المجتمع بطريقة مدرسة، ما يسمى بتغيير الميول والاتجاهات، ومن ثم التغيير الاجتماعي. ومن هم قادة التغيير الاجتماعي، الذين يسرعون في التحول الاجتماعي، أي القيادات المحلية.
بطبيعة الحال لم تكن تلك الفترة بعيدة عن نهايات الستينيات الميلادية في القرن العشرين، وما يسمى بquot; الثقافة المضادةquot; وحركات الطلاب . وكان أيضا هناك في منطقة الوسط والغرب الأمريكي مدرستان، هما: المدرسة المحافظة التي تقول: لابد من وجود حلول أخلاقية تعالج قضايا المجتمع وكيف نصل إلى فئات المجتمع وجذوره والمجتمعات الأولية فيه، وأيضا نتواصل مع بؤر الفقر والتنمية، وما إلى ذلك.
وهذا وجد عندي اهتمامًا بوصفي قادمًا من العالم الثالث. أيضًا كان في الوقت نفسه التنظير للطروحات الكبرى، وعلى وجه الخصوص : الإنسانية، ومن يدرسون ديناميات الجماعات والتفاعل الاجتماعي لم يعودوا يطيقون النظريات السكونية بالذات الوظيفية وما أشبهها، وكانت البنيوية في أوجها، لكنها كانت موضع تساؤلات لأنها مدرسة قادمة من أوروبا، هذا هو السياق الذي وجدت نفسي فيه.

برامج التغيير:

* وهل أحدث لك هذا المجال البحثي العلمي نوعًا من تحول الرؤية صوب كشف مجالات اجتماعية جديدة؟
- تحولت بالدراسة إلى دراسة المناطق النائية الفقيرة، وكانت معظم هذه الدراسات تطبيقية، وكيف تعمل البحوث إلى أن تتحول كبرامج للتغيير؟ كيف تفهم مجتمع القيادات المحلية؟ كيف يكون التوجه والتحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث؟ وما هي تبعات ذلك؟ وكيف نعالج قضايا الفقر والتخلف، قضايا العزلة، قضايا المجتمعات الزراعية التقليدية التي تتطلع إلى أن تكون مجتمعات حديثة ؟
لكن ما إن واصلت حتى إنني وجدت نفسي ndash; بعد مرحلة الماجستير والدكتوراة في هذه المجالات- أنتقل إلى أن أتوجه إلى قسم الاجتماع، أي بدلا من قسم الدراسات الريفية الاجتماعية، والبرامج المصممة للمناطق الريفية والنائية ودراسات القيادة المحلية، والتقييم وخلافه، وجدت نفسي أنتقل من هذه القضايا العملية إلى قضايا نظرية، وفعلا عملت دراسة اجتماعية عن الترويح وقضاء وقت الفراغ الذي يشكل شخصية الإنسان، لكنني وجدت أدلف إليها من زوايا تتناول مسائل نظرية، تتحدث مثلا عن: صناعة الأفكار، وما هي المفاهيم التي تدخل في وسائل وطبيعة تغير الحياة.
أيضا بسبب الجامعة التي كنت أدرس فيها، حيث كنت أدرس في جامعة كبيرة لها دراسات متقدمة في مجال علم الاجتماع، لم أهتم فقط بعلم الاجتماع، حيث وجدت نفسي آخذ العديد من الكورسات والمحاضرات المتنوعة، ليس فقط في الدراسات العلمية الاجتماعية بل في قسم التاريخ، والعلوم السياسية وتحليل لغة الخطاب السياسي، وحضرت سينمارات ونشاطات متنوعة، وهذه الأمور وسّعت على الأقل آفاق أي طالب في تلك الفترة إلى أن ينظر إلى الكثير من القضايا في داخل إطار التصورات النظرية، وكان التأكيد في أيامها: ما هي الأسئلة الكبرى التي كان رواد العلم الغربي يسألونها، بطبيعة الحال الذي كان يسيطر على الجدل: دوركايهم، وكارل ماركس، وماكس فيبر ، والأخير كان يناقش أبعادا مختلفة، حيث كان يقال إنه يناقش ويهدم خيال وظل ماركس المؤدلج الذي يريد أن يغير المجتمع ويعيد صياغته وتغييره وتشكيله.
بطبيعة الحال بدأت المدارس تتوسع، وحينما غادرت الولايات المتحدة الأميركية كان هناك جدل بين المدارس التي تتحدث عما يمكن أن يسمى ب: quot; علم اجتماع الفهمquot; ، وبدأت المدارس تنفتح في الولايات المتحدة على ما يسمى ب: quot; التفاعلية quot; ، مدارس مختلفة بأشكالها، لكن التي تسعى إلى الإجابة على السؤال الذي يتصل بالفلسفة الألمانية: الظاهراتية ( الفينومونولوجية) : وكيف يفسر الإنسان حياته الاجتماعية اليومية؟
وكان التركيز في تلك الفترة ndash; ولعله ما يزال- يدور على الجدل ليس في المناهج الوضعية والكمية، لكن الجدل كان حول: فلسفة العلوم، كما نرى عند quot; كارل بوبرquot; وquot; هابرماسquot; ومدرسة فيينا الوضعية، وتوماس كون، ولك أن تذكر أعدادًا كبيرة من أطروحات فلسفة العلوم الاجتماعية، بوصفها أنها المحضن الذي يقوم حوله الجدل بين من ينتسبون إلى مدرسة ما أو مدرسة أخرى، بغض النظر عن الطرح النظري الموجود، فالميزان لها هو: فلسفة العلوم.

غادرت الولايات المتحدة الأميركية وكان السؤال هو : سؤال الحداثة، وكنت أسمع ndash; أثناء إقامتي ndash; بـ quot; إيهاب حسنquot; وكنت حضرت دروس quot; إدوارد سعيدquot; وهو يعلّم كتابه:quot; الاستشراقquot; قبل إصدار الكتاب بأشهر حيث ألقى سلسلة من المحاضرات كنت أحضرها، وسمعنا عن مفاهيم: سطوة الخطاب، والقراءة الجديدة، وغيرها، وهي معظمها تأتي من أوروبا، وتستقبل في الولايات المتحدة الأمريكية بشيء من الحذر .
وأيضا كانت هناك حال مراجعات، وبالذات مراجعات quot; الطريق الثالثquot; وكنا نراجع، أسئلة الحداثة والرأسمالية، ولماذا نشأت الحداثة في الغرب، وما هي طبيعة هذه الحداثة؟ ولماذا الحداثة تأخذ هذا الشكل.
عدت للمملكة بهذه الأسئلة النظرية، وأثناء وجودي هناك في الولايات المتحدة كنت أطرح ما هي وجهات النظر التي تنطلق من الدراسات الاجتماعية، ومنها التغير الاجتماعي، والحداثة، في العالم العربي.
أريد أن أتحدث أيضا بشكل استدراكي، فقبل الذهاب إلى الولايات المتحدة أطلعني أحد الأساتذة بجامعة البترول وقتها على كتاب quot; دانيال ليرنرquot; الذي كان يتحدث عن تحول المجتمع المحافظ إلى مجتمع حديث، وأنه كان موضوع مختبره الدرسي عن منطقة الشرق الأوسط.
لكن عندما ذهبت إلى الولايات المتحدة وجدت أن الدرس الأنثروبولوجي الذي يتناول دولا من غير العالم الثالث، يلقي بظلال وأسئلة تختلف عن المفاهيم الجاهزة التي ترعرعت في تصورات رواد العلوم الاجتماعية، ومن ثم الجدل في قضايا الغرب، لهذا شغفت بأن أطلع.
وعند عودتي، وحتى أقرب المسافة للطلاب، وجدت نفسي أعتمد أكثر وأكثر على الدراسات الغربية، لأن دراسات المجتمعات الشرقية تشهد هناك تحسنا كثيرا من خلال تأثير الدراسات الغربية عليها، ومن كتبوا عن العالم العربي بدأوا الكتابة في ثمانينيات القرن العشرين الميلادي.
وكانت دراسات مبدئية ، وحين بدأت التدريس كنت في حاجة إلى إعادة النظر في هذه الدراسات لأن الكتب المدرسية، التي كانت موجودة تجعل العلوم الاجتماعية المكتوبة عن العالم العربي كأنها مكتوبة عن كوكب آخر، ومنها الدراسات التي كتبت عن الريف أو غيره، مع ذلك توجد قلة من الدراسات التي ترتبط بواقع العالم العربي، وهذا جعل العلوم الاجتماعية التي ندرسها مملة، على الأقل من زاويتي، إذ إن الطالب كان يحفظ المادة ويظن أنه فاهم ، وأنا كنت أدرس مادة المجتمعات المحلية، والأنثروبولوجي والتغير الاجتماعي، الدراسات الحضرية، دراسات المجتمعات البدوية، والنظرية الاجتماعية، وأساليب البحث على مستوى البكالوريوس، وإن كنت أشعر أن ما أقدمه من كتب بأنك تتحدث عن مجتمعات ليست المجتمعات العربية، المجال الوحيد الذي كان متاحا هو : قضايا الأسرة وتصنيفاتها عبر الدراسات الأنتروبولوجية التي كانت تصدق على المجتمعات الإفريقية أو المجتمعات المعزولة، أكثر منها عن مجتمعاتنا.

كشف مفتوح
* وما هي أبرز الإسهامات المفاهمية التي استدركتها على علم الاجتماع، أو على الأقل على طرق توجهه البحثي؟
- بدأت أطلع على المنتج الذي بدأ بزخم أكبر ووتيرة كبيرة يقدم دراسات اجتماعية، لأن الفصل بين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع في الفترة المتأخرة يتمثل في : طريقة التناول، وابتدأت أيضا أتخلص بالتدريج من الميل إلى الدراسات الوضعية الكمية إلى الأسئلة الكيفية، وطبعا الأصوات بدأت تعلو حتى في فن العلوم الاجتماعية، بدأت الأسئلة تزيد أكثر، وهذا الأمر تم حقيقة في السنوات الأخيرة بالتحديد في السنوات من 1979 وبدايات الثمانينيات بدأت الأسئلة تدخل إلى المجتمع الأمريكي بمثابة الكشف المفتوح، بحيث ينبغي فتح قوسين حتى نفهم/ ومن أوائل من تحدثوا عنها: جارفينكل.
عندما عدت كانت هناك الكثير من التصورات التي جاءت في تسعينيات القرن العشرين مثل مسألة العولمة، الحضارة الأوروبية في مقابل الحضارات الأخرى، لأنه صارت تغيرات عالمية كبرى، كنا ندرس طرفا منها ولكن، من زاوية الرؤية اليسارية.

دراسات عربية:

* هل شعرت بمسافة ما بين ما درسته وبين الواقع الاجتماعي ؟
- أنا دخلت العلوم الاجتماعية ليس من المدرسة العربية، وذهبت من زاوية الرياضيات، ومن زاوية أن معظم قراءاتي في البداية لم تكن متأثرة بما هو قائم في المدارس والنظم والجامعات العربية، مع احترامي لها، لقد كانت محبة معرفتي لأسئلة التغيير الاجتماعي، والتحول المجتمعي: الحياة الأسرية، الحضرية، حياة المدن، هي أسئلة أجد صداها ليس في الدراسات العربية. طبعا اليوم الصورة مختلفة. كنت أسعى لأن أجد دراسات عربية تتناول الوضع العربي، وما وجدته هو أنه quot; لا توجد مدرسة عربيةquot; ، لاحقا وجدت مدرسة في المغرب العربي لكنها لم تستمر، كانت مرتبطة بالدراسات الاستعمارية الأنثروبولوجية والاجتماعية التي كان الفرنسيون يقومون بها في الجزائر وعلى امتدادها في المغرب وفي تونس، أيضا وجدت بعض الدراسات البسيطة التي بدأت تظهر في نهايات التسعينيات.
من الذين أثاروا مجموعة من القضايا والأسئلة والمؤسسات بشكل لم يكن مطروحا، ولم يتناولوا قضايا التنمية لكنها بدأت تظهر لدى بعض المثقفين العرب، وأذكر هنا على وجه الخصوص: quot;سمير أمينquot;، الذي كان يكتب الفرنسية وقرأته مترجما للإنجليزية، وكنت أهتم بدراساته بوصفه باحثا عربيا، ودراساته عن البلاد العربية وهو كان اسما مثيرا للاهتمام، وهذا جعلني أنتبه إلى هذا الجانب من العلوم الاجتماعية.
وأيضا وجدت صدى عند quot;عادل حسينquot; ، وعند quot;جلال أمين quot; الذي اطلعت على بعض دراساته بالإنجليزية في أمريكا، وبعد ذلك قرأت دراسات باللغة العربية لquot; سعد الدين إبراهيم quot;، التي بدأت تطرح قضايا راهنة كالهجرة، النظام العربي الجديد، والأقليات ، وبدأت أطلع على بعض الدراسات الكلاسيكية بالصدفة في الولايات المتحدة ككتابات quot;علي الورديquot; ، وكان بيني وبينه مكاتبات وهو فتح عيني على نوع من الدراسات الاجتماعية التي تركز على التاريخ. بدأت أطلع على أسماء عربية، كانت في مجال الدراسات الاجتماعية، وفي المقررات الدراسية الأمريكية والأوروبية، بعضها ترجمة وبعضها مقتبس، لكن من وجهة نظري كانت هذه القضايا والأسئلة غريبة، لأن الدراسات التي تناولت مسألة التنمية في معظمها معتمدة على أدبيات يسارية لكنها أميركية، وبعضها أمريكية لاتينية.
بدأت اطلاعاتي على الحياة الاجتماعية، الحياة الأسرية، وكان زملائي بالولايات المتحدة قليلين وكانت دراساتهم عبارة عن دراسات وصفية، ولم يكن مطلوبا منها أن تقدم تفسيرا، وأول ورقة كتبتها كان سؤال: هل علينا أن نجري تأصيلا وأسلمة للعلوم الاجتماعية؟ أو أن نتعامل مع الثقافة الغربية، وهو سؤال لم يكن مطروحًا لدينا فقط بل أيضا في الدوائر الغربية، وهو سؤال مطروح بشدة: هل دراسة المجتمعات غير الغربية ومنها العربية نستخدم فيها نفس المناهج ونفس المفاهيم ؟ ، في قضايا التنمية كانت الدراسات مقبولة، ولكن في الدراسات الأخرى كان فيها تردد، وكانت تميل إلى الهروب. أي بدلا من تناول قضايا العالم العربي كانت الدراسات تتحدث بأداء مدرسي، لا تطبق مفاهيمها ونظرياتها، وأنا أعتقد أنه بسبب الترقية، والدراسات التي أعدت عن العالم العربي، كانت أوراقي الأولى تتناول : العمالة الأجنبية وآثارها، وهذا الموضوع كان يكتب فيه من يتناول الاقتصاد، أو المختصون فيه بشكل عام في الخطاب العربي، ومركز دراسات الوحدة العربية كان يصدر كتابات متميزة، كنا نتفاعل معها، وكانت تطرح ليس بالمعنى الحصري لصيغة العلوم الاجتماعية، وإنما كانت تشكل خطابات: هل العمالة الأجنبية خطر على مجتمعاتنا؟ هل لها أثر على الموقف السياسي الاجتماعي، الحضاري، لكن هل كانت تدرس بشكل تفصيلي، إثنوجرافي نقدي؟ .. هذا لم يحدث.

أيضا معظمها عبارة عن ندوات وليست دراسات، أي عبارة عن أوراق عمل، وكان يتجاذبها دائما موضوع:quot; العروبةquot; . أي كان خطابا مؤدلجا، أو خطابا غربيا يرصد ما يسمى بالهجرة الدولية، ومن أوائل من كتبوا في ذلك الدكتور إسماعيل سراج الدين وكانت تركز على سياسات الدول الاقتصادية، وأرقام الهجرة، لكن لا تدرس تأثيرهم على الحياة الاجتماعية وما إلى ذلك.
ثم بعد ذلك لفت نظري على المستوى الإثنوغرافي والإنثربولوجي والتغلغل في حياة الناس مسألة الأسرة، وهذه استحوذت على اهتمامي فترة لا بأس بها.
وفي فترة استحوذ على اهتمامي سؤال نظري عن ماهية المدينة المسلمة، وللأسف كانت الأدبيات التي تتجاذب القارىء في ذلك الوقت موضوعات لا تجذب دارسي العلوم الاجتماعية ولكنها مهمة، مثل المدارس التاريخية، وعلى وجه الخصوص المدرسة الفرنسية التي قدمت عددا من الدراسات في غاية الأهمية، مثل تاريخ المدن، مثل ما كتبه لوترنو ، وآرون الذي درس الأسواق والمدن في العصور الوسيطة: القاهرة، دمشق، عمان، والدار البيضاء ممن قدموا دراسات معمقة.
أيضا التحولات الكبرى التي كانت تقام في هذه المدن، وبعضها مسطح لكنه مهم، لأنه كان يجيب عن هذه الظواهر، وهذه المدارس مهمة. ومع زيادة التأثير للشركات عابرة القارات والمتعددة الجنسيات، التي كان التناول لها من زاوية ما يسمى بنظرية التبعية. أصبح المفهوم أكبر بسبب التقدم في تقنيات إدارة الاتصال، وبدأ التحول إلى مفاهيم أن العالم بدأ يصغر، وجاءت التحولات عبر وسائل الاتصال، وأن الكوكب بعد عصر جوتنبرج والطباعة أصبح مجرة واحدة، فماذا هو اليوم بعد تطور وسائل الاتصال وحدوث تغييرات جذرية على مستوى الاقتصاد، ونمو المجتمعات، وبدأ يبرز في آخر الثمانينات مفهوم العولمة أولا على استحياء بعد زيادة معدلات الهجرة الكونية إلى الدول المتقدمة إلى أوروبا من أفريقيا خصوصا، حيث بدأت تشكل تغيرا في هوية المجتمعات نفسها، من مجتمعات كانت نقية عرقيا وثقافيا ودينيا إلى أن أصبحت مجتمعات مختلطة، حيث أصبح المهاجرون موجودين بأعداد كبيرة وبدأ سؤال العولمة. أيضا سؤال الحداثة بدأ يصبح أكثر إلحاحا، وبدأت تدخل مدارس جديدة، حيث بدأت المدارس الكبيرة التي تهيمن على الفكر خصوصا في المجال الأدبي، تتطور أو تتخلخل مثل الهرمنيوطيقا، والظاهراتية، والبنيوية وعلم النص، وهي بدأت في الحقيقة من الدراسات الاجتماعية، لكنها بدأت تظهر في العالم العربي في الدراسات التاريخية التقليدية التي تأخذ الوقت الراهن، وفي السبعينات والثمانينات بدأ الصراع حول مسألة الحداثة في المجتمعات العربية، وابتدأ المشتغلون في الآداب يطرحون سؤال الأدب من وجهات الدراسات الاجتماعية التي قرأوها في الغرب.
بدأت تظهر تحولات بعضها في شكل خطابات كونية، وبعضها كان مسالما، خاصة لدى من ينظرون إلى العالم بوصفه قرية صغيرة، فتراهم يتحدثون عن التحولات والتأثير المتبادل، ولكن أيضا بعضهم بدأ يتكلم عن تاريخ العالم ليس بالطريقة العتيقة عند الأنثروبولوجيين العاديين أو المؤدلجين، أو عند ماركس ومراحل التطور، ولكن باعتبار أن هناك تحولات وقفزات بدأت تظهر، فإن هؤلاء الدارسين فتحوا الأبواب في مسألة إعادة النظر في التاريخ، وأنه لا يجب أن نفكر فيه فقط على أنه امبراطوريات أو أديان أو سلالات سياسية، ظهرت على الوجود.