في ظهور الحركة الدادائية وإعلان تمردها الذي نبذ كل القواعد التقليدية للفن، والذي منحها ثقلها الفكري ونزعتها التحررية وبعدها الفلسفي، شكلت هذه الحركة نقطة التقاء فكرية وفنية للعديد من الفنانين ممن خرجوا لاعنين الحرب وقوانين الحياة الزائفة التي نسبوا لها سبب اشتعال الحروب وإزهاق

مريم تؤدب يسوع أمام بروتون وايلوار
الأرواح البشرية... وبنظرة متفحصة داخل هذا البناء المتمرد، نجد حيث نواته، فنان فيلسوف يمتلك الثورة والابتكار، هاجم كل تقليديات فن الصورة والشكل بأفكاره وتجاربه التي اعتمدت الفلسفة والبساطة معاً.quot;... هكذا يقدم نقّاد متحف لويزيانا للفن الحديث بالدنمارك الفنان والفيلسوف الألماني ماكس إرنست Max Ernst (1891-1976) في معرضٍ أفتتح مؤخراً تحت عنوان quot;الحلم والثورةquot; الذي يعد أضخم معرضاً أوربياً يقام لهذا الفنان بعد وفاته.
أكثر من مئتين عمل فني توزعت بين الرسم والنحت، مثلت خلاصة أعمال هذا الفنان الشاعر، احتضنتها القاعات الأربع الرئيسة من المتحف...
يعد ماكس إرنست، أحد أهم فنانين القرن العشرين المؤثرين. فنان محدّث مفرط، متكيّف مع إنسانيته. حياته الفنية يميزها كماً هائلاً من التجارب والأبحاث، هو الذي دَرَسَ علم النفس والفلسفة في جامعة بون 1909-1914 وكان مسحوراً في الوقت نفسه بعوالم الفن التشكيلي الذي دَرَسَ أصوله بشكل شخصي متخذاً من الفنان الهولندي فان غوغ ملهماً وأستاذاً له... لقّبه النقاد بالفنان الفيلسوف المتشرد، فحياته كانت عبارة عن رحلات فنية طويلة. وكان على الدوام خارجاً من أو داخلاً في تجربة جديدة باحثاً عن التغيير والتعبير بشكل أكثر تطوراً. لم يقف صامتاً على الإطلاق أمام أي إشارة، ولم يتوقف عن سعيه في الاكتشاف، بل كان مستمراً بالتحدي ساعياً إلى اكتشاف تجارب فنية أعمق: quot;ليس المهم أن أحقق ما أريد، المهم أن أستمر في التجربة والتحدي علّني أكتشف تحولات مفاهيمية أو أجد وسائل تعبيرية جديدة.quot; وتحت تأثير هذا الإصرار جاءت انعكاسات تجاربه المتواصلة على نتاجاته الفنية متميزة بالريادة والابتكار.
لا بد لزائر المعرض أن يبدأ مع القاعة الأولى التي خصصت للبدايات وصولاً إلى المرحلة الدادائية. تلك الفترة التي تلمست فيها تجربة الفنية مرارة الحرب العالمية الأولى التي سرقت من حياته أربع سنوات قال عنها: quot;مات إرنست في الأول من آب 1914 وعاش في أيلول 1918quot; حيث خرج من هذه التجربة متمرداً على الواقع وقيمه وقوانينه كونها الممهد الأساس لإشعال فتيل الحروب... تميزت الأعمال المعروضة والخاصة بهذه الفترة بتنوع طرق التنفيذ التي لا ينقصها الابتكار. التنفيذ بطريقة الحك والكولاج، سمة الأعمال المعروضة وسر الدهشة الممنوحة. قصاصات ورقية من مجلات وصحف يشكلها الفنان لتأخذ أشكالاً ساحرة تكتنز رمزية عالية تتجه في الغالب نحو الأسطورة لتكوّن ردود فعل صاخبة على ما يطرحه الواقع... طيور ونباتات وحيوانات وتكوينات بشرية تستفز الكثير من الأسئلة في ذهن المشاهد. وعن هذه الفترة يقول زميله النحّات والشاعر هانز آرب ( Hans Arp 1887 - 1966 ) الذي اشترك عام 1916 في إصدار quot;البيان الدادائيquot; في زيورخ والذي شارك أيضاً ماكس إرنست في تأسيس حركة كولن الدادائية والتي سميت بـ quot;Central W3quot;: quot;إن تلك الثمار المنتقاة من شجرة الدادائية، المزهرة من الأعلى إلى القدم، هي التي أنبتناها أنا وصديقي ماكس إرنست ونحن في كولن... إن الشيء المهم في الدادائية هو أن الدادائيين يزدرون ما يحسب فناً على المستوى المألوف، لقد أعلنا بأن كل شيء جاء للوجود، أو كان من صنع البشر، فن. قد يكون الفن شراً، مملاً، قاسياًً، حلواً، خطراً، عذباً، بشعاً، أوقد يكون بهجة للناظرين.quot;
ترك ماكس إرنست مدينة كولن الألمانية عام 1922 متوجهاً إلى باريس، ليدخل عالم الفن بصفته أحد المؤسسين الأوائل للحركة السريالية بالاشتراك مع بول إيلوار والشاعر أندريه بروتون، وليؤسس لتاريخه الشخصي مرحلة فنية وأدبية جديدة امتدت حتى العام 1941، وعن هذه الفترة تحدثنا القاعة الثانية من المعرض تحت عنوان quot;بدايات المرحلة السريالية وحياة الفنان في فرنساquot; احتوت القاعة على أكثر من ثلاثين لوحة تمثل خلاصة المرحلة السريالية الباريسية لماكس إرنست. يقف على رأسها ثلاث لوحات تعد الأكثر شهرة، وهي: quot;البيانو الخفيquot; و quot;معايشة الحب أو السحرquot; واللوحتان رسمتا عام 1923، أما العمل الثالث quot;العذراء تعاقب الطفل المسيح أما أنظار ثلاثة شهود هم، أندريه بروتون وبول إيلوار والرسامquot; فيعد أحد أهم الدلالات الفنية التي تشير إلى تمرد هذا الفنان على الكثير من قيم وقوانين الواقع المعاش، فهذا العمل الذي نفذه وعرضه ضمن معرضه الشخصي عام 1926، تسبب بإغلاق المعرض منذ يومه الأول، والسبب وراء ذلك يعود إلى quot;وقاحةquot; موضوع اللوحة، هذه الوقاحة التي تسببت أيضاً بإصدار قرار من الكنيسة يفضي إلى طرد ماكس إرنست منها. الناظر لهذا العمل يمكنه تلمس الـ quot;الوقاحةquot; التي استفزت الكنيسة بدءاً من الثوب الأحمر الذي ترتديه العذراء والتي تظهر فيه ضخمة البنية، قاسية متسلطة، ووصولاً إلى الهالة الساقطة من رأس المسيح على الأرض وكأنها قبعة أو شيء مادي فاقد القدسية.
بعد ملاحقة الشرطة السرية الألمانية لماكس إرنست وسجنه لبضعة شهور، استطاع الهرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1941 ليؤسس هناك مع أندريه بروتون ومارسيل دوشامب قاعدة للحركة السريالية حيث أصدرت المجموعة مجلة تهتم بنشر أسس ونظريات الحركة، وبهذا يكون مركز ثقل النشاط السريالي قد انتقل من باريس إلى نيويورك، ورغم الصعوبات التي واجهها الوافدون الباريسيون بسبب quot;غرابةquot; أسلوب أعمالهم، وقلة الكتابات والنشرات المختصة بالحركة السريالية ومفاهيمها التي سبقتهم إلى نيويورك، إلا أنهم تمكنوا من تحقيق تقدماً ملحوظاً من خلال quot;المعرض الدولي للسرياليةquot; الذي نُظّم بأشراف أندريه بريتون ومارسيل دوشامب عام 1948 في نيويورك، حيث تكونت لهم بعدها مجاميع من الفنانين المتأثرين بحركتهم الجديدة... وهناك واصل إرنست تجاربه في إيجاد طرق تنفيذ جديدة في الرسم، وهذا ما تحدثنا عنه اللوحات المعروضة في القاعة الثالثة المخصصة لتلك المرحلة التي منحها نقاد المتحف اسم quot;زمن المنفى في أمريكاquot; حيث حددت الأعمال بالفترة المحصورة بين الأعوام 1941-1953 والتي تميزت بتقنية التنفيذ التي ابتعد فيها الفنان عن الفرشاة ليستخدم أدوات بيتية مثل الأمشاط والسكاكين والشِّوَك، بالإضافة إلى ظهور الأشكال الهندسية في لوحاته وعلى وجه الخصوص السطوح الدائرية الخشنة والهالات اللونية المشعة، وهذه الأعمال منحت هذا الفنان صفة quot;الفنان الأكثر نشاطاًquot; بين الفنانين السرياليين بسبب جهوده المبذولة في البحث والتجريب وتعدد أساليبه التنفيذية لأعمال عديدة لا تتقصها الحداثة.
أما المرحلة الأخيرة من حياة هذا الفنان فقد اختصت بها القاعة الرابعة من المتحف والتي تبدأ بزمنها من العام 1953 حيث عودته إلى باريس ثم حصوله عام 1954 على الجائزة الكبرى لمعرض بينالي البندقية حتى وفاته عام 1976، وقد عرفت هذه الحقبة الزمنية العديد من الأعمال النحتية التي غلب عليها دلالات شعرية وفلسفية بأشكال الحيوانات مثل العمل البرونزي quot;رأس طائر وقمرquot; المنفَّذ عام 1934 وغيرها من الأعمال الشهيرة مثل quot;الضفدع الكبيرquot; و quot;السلحفاة الكبيرةquot; وهي من سلسلة أعمال نفذها عام 1967 تحت عنوان quot;المساعدة الكبرىquot; وكان قد نفذ قبل ذلك بسبع سنوات تمثاله الشهير quot;في شوارع أثيناquot;
quot; الحلم والثورةquot; إذاً، عنوان ليس له أية دلالة سياسية، كما أنه لا يشير إلى اللوحة الزيتية التي رسمها ماكس إرنست في أمريكا عام 1946 والتي تحمل العنوان نفسه، بل هو سيرة حياة فنان وشاعر وفيلسوف تزامن فيها الحلم والابتكار والاكتشاف، مع الثورة على الأشكال والأساليب الكلاسيكية وتحطيم كل ما هو تقليدي.

[email protected]