هـاهـي اليوم تـقـف عاجـزة مهزومة تنظـر بصمت إلى (الأخرى) وهي تنتزعـه عنوة من بيـن ذراعيهـا.
مدّت يدهـا لتمسح بحنـان قطرات العـرق من على جبينه النديّ البارد كنظرات عينيه المتسمـّـرتين على شريط الأخبار الإقـتصـاديـّة. لم يعد يسرد لهـا بشغـف أحداث يومه في العمـل، ولم يعـد يسمعـها كلمـات حلـوة تنفـذ ألى القلب كمـا اعتاد أن يفعـل طوال سنوات زواجـهمـا الثمانية. يـوما بعـد يوم، أخـذ ينـأى بنفسـه متواريـا خلف أسوار عالمـه الجديـد. حتـّـى أوقاتهـما الحميمة معـا أصابهـا الكثيـر من الفتـور. لكنّ كبـريـاء الأنثـى فيهـا كانت تمنعـها من البـوح بأحباطهـا و خيـبة أملـها ومن الأفصاح عن توقهـا المتوقــّـد ألى الأيـّـام الماضـية، لا سيّما وهي تعلم أن (الأخرى) قـد أحكمـت الآن قبضتهـا على قـلبه و عقلـه. و بمقدار يقينهـا بأن هذه العلاقة الجـديدة عابرة لن تـدوم، كانت تجهـل الضرر الذي ستخـّـلـفه قبـل أن تزول. أنـّهـا اليوم تـقـف عاجزة مهزومة أمام الأخرى، غريمتها الجديدة: البورصـة.
أقفلـت كل الأسواق اليوم على ارتفاع. مؤشـّـرات (داو جونز) و (فوتسي) و (داس) و (كاك) و (هانك سينك) أرتفعت جميعا. بدأت حزمة المعونـات التي أطلـقـها الأحتياطي الفيدرالي الأميركي تنعش (وول ستريت) و أنتقلت عدوى الأخضر ألى الأسواق الأخرى. غـدا، سيرتفع السوق عندنا بعد الأفتتاح هو الآخـردون شك.
تمتـم بصوت خافت و ذهن شارد وعيناه تتـنقــّلان بلهـفة بين قنوات المال والأعمـال.
أبو ياسر؟
أللـهـمّ اجعـله خيـر.
ألسوق صاعد رغم انخفاض مؤشر ثقـة المستهلكين في أميـركا. ألمـركزي الأوربي قد يخفض هو الآخـر سعـر الفائدة على اليـورو و يدفع بالبورصات في أوربـا للمزيد من الأرتفاع. سيكون التداول حاميا في السوق عندنا غـدا. هل ستحضر الجلسة؟
يا رجل، ظننت أن عندكم مشكلة لا سمح اللـه. هل تعرف أن الساعة تجاوزت الواحدة صباحا؟
آسف، مضى الوقت بسرعة. تصبح على خير.
أغلق الهـاتف وألقى برأسه على المخدّة بعد أن أطفأ النور الجانبي. أدار وجهه بعيدا عنها و أغمض عينيه لينام على صوت التعليقات الماليـّـة في التلفـزيون الذي لم يعد يعبأ حتـّـى بأغلاقه. أغمضت عينيها الغاضبتيـن. هـل كـان يعي حقـيقة وجودهـا ألى جانبه؟ هـل أصبحا يعيشان على كـوكبيـن مختـلفين؟ أيـّة قوّة سحريّة انتزعت منه حسّه المـرهـف وسلبتها شعورها بالأمان؟ كيف سمحت للأخرى أن تتسلـّل خلسة ألى هـذه الغرفة ليصبحوا ثلاثة في حياة زوجيـّـة واحـدة؟ أتراه الآن يحلم بهـا؟ أعتراها الخوف أذ حاولت أن تنام.
زحام الصباح هـذا لن يخفّ أبدا. ألأشارة حمراء، بلـون الخطر و الخسارة في بورصة الأسهم. أنتظر الأخضـر بفارغ صبر و أسرع ليتجاوز التويوتا الحمـراء أمامه. صـار يشعـر بالحنق تجاه كل ما هـو أحمـر: أضواء السيارات الخلفيـّـة، علامات تحديد السـرعة المروريـّـة، ستائـر غرفة الأستقبال، كرسي المدير في الشركة، ملابس نادي الآرسنال الأنجليزي، جيفارا و ثورتـه اللاتينيـّـة الحمراء. حتـّـى السلطة صار يفضـّـلها دون الطماطم.
ألو صباح الخير. أبلغي المدير رجاءا أنني سأتأخـّـر. عندي حالة طارئة. لكنني سأسلـّم تقـرير أداء الموظفين نهاية االنهار.
منذ أن بدأ المضاربة في السوق كثـرت الحالات الطارئة هـذه. لم يشتك أحد في الشـركة لحدّ الآن، ربـّـما بسبب رصيده السابق من الأنجاز والعمل المتـقـن. لكنـّه يعرف أنّ هذا السكـوت لن يدوم طويلا.
أخيرا أقتـرب من مبنـى سوق الأوراق المـاليـّـة، هذا الألـدورادو الآسـر الأخـّـاذ حيث فرص الثـراء السرنديـبـية العـريضة و مواقف السيارات الضيـّـقة الشحيحة، حيث تصنع ملايين و تحرق أخرى كلّ يوم، حيث يعيش الصغـار على حلم الثروة و يطمع الكبار بالمزيد منها.
منـذ زواجه بمريم قـطع على نفسه عهدا ألا يمعـن النظر ألى أخرى، لكـنّ شيئا مـا يجذبـه ألى هذه المرأة كالممـغنط. لا يستطيع أن يحـوّل بصره عن حذائهـا الأحمرالبشع المتطفـّـل على حقيبة يدهـا الخضـراء الأنيقة. بهـذا الأختيار النشـاز لا يمكن أن تكـون هذه سيـّدة أعمـال ناجحة.
أريد أن أضع أمر شـراء عشـرين ألف سهم. أليك رقم التداول والتفاصيل.... هل تحـدّد سعر الأفتتاح؟
أتـّـصل بشـركة الوساطة في طريقـه ألى المبنى. ومن بين عشرات المطبوعات المرتـّـبة بعناية في الكشك الصغير قـرب المدخـل، توقـّـفت عيناه الأنتـقـائيـّـتان عند الملحق الأقتصادي لأحدى صحف الصباح. أبتـاعها ليضع الملحق في جيب الجاكيت و يـرمي بصفحاتها الأخرى.
دخل قاعة التداول. خليجيـّون بأردية بيضاء أنيقة، مقيمون عـرب ببدلات رسميـّـة، شباب بالجينز، سيـّـدات متحجـّبات و أخريات غربيـّـات، مراسلون صحفيـّـون ومصوّرون. مزيج من كلّ الأجناس والأعراق والأعمار، و أبصار متعلـّـقة بمكان واحد: شاشة العـرض الكبيرة، بانتظـار بدء التداول.
مـرّت الأرقام في الشاشة. كما حـدس،كـان ألأخضر هو الغالب. لايمكن لحسّـه المالي أن يخيب. كل ما ينقصه هو القليل من الحـظ ّ. تحرّكت الأرقام بسرعة و معـها عـقـله يحسب الربح. هـذا يـوم سعـده قـد أتى أخيرا. ألسوق في ارتفـاع متواصل كما توقـّـع تماما.
مرحبا، أراك عاودت الحضور. ألمرّة السابقة قـلت أنك ستتداول بالأنترنيت.
مرحبا، أليوم غـير. أجاب دون أن ترى عيناه المتعلـّـقتان بالأرقام وجه محدثه.
ظلـّت الأرقام تتحرّك صعودا. صار الأخضرسيّـد الشاشة. ألتمعت عيناه و مرّ على وجهـه بريق ابتسامة لم يستطع أخفاءها. حجم الطلب يبدو اليوم كبيرا وهـذه فرصة مواتية لمضاعفة الـربح. أنـّـما عليه أن يشتري بسعـر مرتفع هذه المرّة. لمـاذا يغـامـر مادامت المياه تجري في صالحه؟ لكـن أليس الحظ حليف المغـامر؟ ألـم يضرب كل أثرياء العـالم قواعد التـداول بعرض الحائـط؟ أذا ركب موجة الطلب وبـاع بنهاية النهـار، سيعود ألى البيت في سيـّـارة جديدة... حتمـا خضراء. وجد نفسه يندفـع ألى شباك شـركة الوساطة.
عشرون ألف سهـم أخرى بسعر الشراء الحالي.
عاد يتابع الأرقام بارتياح ويمتـّـع ناظريه بالأخضر. سترى مـريـم بأمّ عينيهـا أن توقـّـعاته كانت في محلـّهـا.
أبو ياسر. ألأسهم في صعود. لازالت هناك فرصة لتشتري الآن و تبيع قبل الأغلاق.
شكرا على النصيحة، أشتريت قبل أيـّـام. لا أشتري و أبيع بنفس اليوم. الأستثمار يتطلـّب الصبرو الهدوء، أمـّا المضاربة فتربحك اليوم ألف، و تخسـّرك غدا ألـوف. حتـّـى في المضاربة يا أبو أحمد هناك تحليل أساسي و تحليل فنـّـي. هذه لعبـة لـهـا أصـول.
لا أساسي و لا فنّي، الحياة فـرص. على كيفك. مع السلامة.
أغلق المحمول بسرعة، حيث لاحظ بعض الأنخفاض في سعـر السهم. هل يكتفي بالربح الحالي و يبيـع؟ لاشك أنّ هذا مجرّد مستوى مقاومة سعـريـّـة جديد. لن يخدعـه بعض النزول الوقتـي بسبب جني الأرباح. لـن يبيع الآن فـآمـاله اليوم كبيرة.
حاولت الأتـّـصال بك على الشركة. خطـّـك المباشر لا يـردّ. هـل ستحضـر مجلس الآباء عصر اليوم في مدرسة أحمد؟
لا أعرف مريـم. أنا الآن في السوق وعندي بعدهـا بعض العمل المتراكم في الشـركة. تهيـّـأي للذهـاب وحدك أن لم أستطع.
أستمـرّ نـزول السعـر، هذه المرّة بسرعة ملحوظة. هل حـانت لحظة البيع المناسبة؟ ليس بعد، هـذا نمط طبيعي بعد صعود كبيـر، لكن المؤشـّـر لا بدّ أن يعاود التحليق مجدّدا كال(داو) و ال(فوتسي) يوم أمس. لن يبـيع بـربح محدود.
أخذ العرق يتصبّب على جبهتـه و هو يراقب بعينيه القـلقـتيـن عدوّه الأحمـر الذي بدأ ينتصـر على الشاشة الكبيرة. بدأ يشعـر بخيبـة الأمـل كلـّـما تمادى السوق بفقدان مكاسبه. كيف يبـيع الآن بربح بسيط بعـد أن كان بأمكانه أن يجني مبلغا محترما قبل نصف ساعة فقـط ؟ سينتظـرعـودة السـعر ألى مستواه السابق على الأقـل. حلم، طموح، عناد أم مكابرة؟ أيـّـا كان الأسم فالنتيجة واحدة: لن يبيع بربح لا يرقى لتوقعـاتـه.
راوده بعض الأمل مجدّدا أذ عـاود السهم صعوده، لكن فقط لحيـن قبل أن ينحدر من جديد. ومع حركة السعر على الشاشة كان مستوى الأدريناليـن يتذبذب بسرعة في دمه. أخيرا أتت لحظة الحقيـقة. أذا لم يـبع الآن سيخـرج بخسارة. توجـه مسرعـا ألى الشبـّـاك و سقطت الصحيفة من جيب الجاكيت دون أن ينتبه.
أربعـون ألف سهم. بيـع بالسعر الحالي.
سكن صخب القاعة و ضجيجها، كأنّ العـالم توقـّـف لوهـلة من حوله و غرق في صمت مطبـق. بعـد نهـار حافل، خرج من قاعة التداول كمـا دخـلها تماما دونما ربح ولا خسارة، لكن بوجه متعب و عينيـن تائهتيـن. كان اليوم قريبـا جدّا من المنـال، لكنـّـه تأخـّـر في البيع... كمـا تأخـّـر في المرّات السابقة. كان يعرف أنـّـه وقع مرّة أخرى في شرك الطمع الأزلي، لكنّ سـاعة النشوة مغرورة متكبـّـرة لا تنصت لصوت العـقـل و أحلامه الخضـراء حجبت عن بصيـرته الواقع الأحمـر.
في طريقه لموقـف السيارات، مرّ ببائع الجرائد وهـو يحصـي بقناعـة دخل يومه البسيط، بينمـا بدت أزهار الجهنمي الحمراء منتـشية تضحك بمكـر بين أوراقهـا الخضراء الذابلـة.
في الشركة انهمك في العمل كي ينسى أحداث الصباح، غيـر أن جميع الأرقام والكلمات صارت تمـرق أمام عينيه الشاردتين بالأحمر و الأخضر. حاول أن يغمضهـما لكن دوّامة اللونين تغلغلت داخل عقلـه. أنتابه صداع شديد. أدرك أن موعد مجلس الآباء قد فات وأنـه أيضا لن يكمل اليوم تقـييم الموظفين.
في المساء جلس أمام التلفزيون يلتهـم بنهـم أخبارأسواق المـال بكـلّ تفاصيلـها الصغيرة، بينمـا جلست بجانبه مريـم ترقب كل قسمات وجهه بذات الأهتمام. بدا واثـقـا أنه سينتصـر يـوما على حظـّـه العاثر، بينما بدت هي أيضا واثقة أنها ستنتصر على (الأخرى) في نهـاية المطاف لا محالـة.

دبـي 19 يونيو 2009
[email protected]