محمد الحمامصي من القاهرة: يعد الكاتب والصحفي والروائي د.جون رالستون سول واحدا من المهتمين بتحليل تاريخ الحضارة وهيكل السلطة فى الغرب، وما يتفرّع عن هذه الظواهر من قضايا ثقافية معرفية، خصوصًا فيما يتعلق بما لحق هذه الأوضاع من فساد، تحوّلت به النظم السياسية إلى خدمة جماعات المصالح، واحتكارات القلة، على حساب الصالح العام لأوسع قطاعات المواطنين، فضلا عن أن المؤلف صحفي وروائي، لذلك اتسم أسلوبه في الكتابة بالاستقصاء واللغة السلسلة، وله في هذا السياق مؤلفات متعددة منها: الحضارة غير الواعية، وأبناء فولتير غير الشرعيين، ومعادلة التوازن، ولذلك شكل كتابهquot; انهيار العولمة وإعادة اختراع العالمquot; تحولا هائلاً في رؤية العولمة وقت صدروه منذ فترة قصيرة، وظل مدّة طويلة على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في الغرب، وقد صدر أخير في القاهرة عن الدّار المصرية اللبنانية ومؤسسة محمد بن راشد، ترجمة محمد الخولى.
ينقسم هذا الكتاب إلى خمسة أجزاء كبرى تحيط بموضوع سقوط العولمة من كل جانب، وعلى كل أصعدتها: الاقتصادية والسياسة والثقافية، وكيف أثر مفكروها الكبار على العالم بإطلاق مقولاتهم عن العولمة واعتبارها الدين الجديد، ونهاية التاريخ.. إلخ، ما روّجوه من قيم وعقائد أضّرت بالكثير من دول العالم، بل وأدت إلى انهيارها.
ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب والدّراسات التى سعت إلى تقييم النظام العولمى، في محاولة للتعُّرف على مصادر قوتّه ونقاط ضعفه، وتحديد مبادئه ومنطلقاته، وفى تأثيراته الكونية على مجالات الاقتصاد والسياسة والأحوال الاجتماعية والإنسانية للبشر والعمران، وربما هو الكتاب الوحيد الذي تنَّبأ بانهيار إمبراطورية التجارة الحرة.
وأول خطوة رآها المؤلف كبداية لانهيار العولمة أنها تحوّلت منذ سبعينيات القرن الماضي، خصوصًا في شقهِّا الاقتصادي إلى اعتبارها حقيقة مطلقة، بحيث غدت نوعًا من المعتقد الديني، ورأى المناصرون لها أنها المحرك الوحيد لمسيرة التاريخ، ثم يقدِّم المؤلف ملخصًا لأهم الوعود والآمال التي أطلقتها عقيدة العولمة منذ أوائل السبعينيات، من خلال مختلف القيادات السياسية والأكاديميين، ورجال الأعمال، والإعلاميين والمؤسسات الدولية، وما أوصت به مئات المؤتمرات والندوات والبحوث ورجال الفكر من أمثال: فوكوياما، وعالم الاجتماع أنتوني جيدنز، وميلتون فريد مان، وتوماس فريد مان وغيرهم من المروجين لفكر الرأسمالية، وكان من أبرز مؤسسات العولمة التى خططت لبسط سيطرتها على الكون: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومنتدى دافوس.
على أن الخطوة الأخطر في هذا السياق هي ما لاحظه المؤلف جون والستون سول في الجزء الرابع بعنوان:quot; السقوطquot; من أنه لا العولمة ولا التجارة الحرة صادفت مشكلات لمجرد أن هناك من عارض أيَّا منهما أو التمس معالجة لهما بطريقة واقعية، إنما صادفتهما المشكلات بسبب نهج اللامبالاة والرومانسية والتمسك بالأيديولوجية الذي اتبعه غلاه مؤيديهما، لأنهم كما يرى المؤلف أرادوا تأكيد نظرية شمولية خالية من دور محورى سواء للقيادة على المستويات المحلية أو على مستوى المجتمع ككل.
ثم جاء القرن الحادي والعشرون ليبدأ الناس في التركيز على العدد المتزايد من الديمقراطيات الفاشلة ومن ثم الدوّل الفاشلة حيث سيطر التدهور على سلطة الدولة القومية، كما لاحظ بعض الساسة والمسئولين المدنيين أن نظريات العولمة المحددة التي تكفل نموًا صحيًا وتؤدى إلى توسيع نطاق الثروة لم تكن تؤدى هذا الدور من قريب أ وبعيد، والمثل الأبرز على هذا ما جسده التوسُّع في خصخصة شركات الدول، وما أدى إليه ذلك من تحريك ترليونات من الدولارات. كما تبخرت النقود، وأدت إلى التضخم، فنحن أمام مبالغ طائلة من الأموال تدخل إلى السوق، وبسرعة شديدة يبدو وكأنها تتبخر دون أن تترك أي أثر خاص، وكأنها تحاكى قصة الصعود المبارك للسيدة العذراء إلى أطباق السماء، وربما تكون هي الاستجابة الطبيعية للاقتصاد إزاء هذا الانفصام الذي يفصل بين الأسواق الرأسمالية المتصاعدة حلزونيًّا والحركة الراسخة للنشاط الحقيقي.
وبدأت الأسئلة تتوالى عن جدوى العولمة مثل: لماذا لم يسفر هذا التوسع المدهش والمتواصل في التجارة عن نمو اقتصادي واسع النطاق؟ أو عن انتشار الثروة وخفض البطالة، وربما كما يقول المؤلف، كان أسوأ ضروب الفشل هو الاعتراف بذلك الانفصام بين التجارة والنمو، فالتجارة كانت محورًا من محاور نظام العولمة القصائدي، وعلية فبدلاً من إجراء حوار صريح بشأن خصائصها الإيجابية والسلبية عمد المؤمنون بالعولمة إلى إحاطة شكوكهم بسياج من الصمت والكتمان.
وبدءًا من الفصل الثالث من الجزء الرابع،يرصد المؤلف التسلسل الزمني لانهيار العولمة وصولاً إلى ما نحن فيه الآن من بطالة وأزمات عالمية كان قدومها واقعًا لا محالة أمام عين الجميع لكن قوّة الإعلام وهيمنته خدرت الجميع ووضعتهم في هذا المأزق ويستشهد المؤلف بمقطع شعرى من quot; سوفو كليسquot;:
المال أيها السادة، المال هو الآفة
التي تصيب البشر بكل مرض
ولا نملك لهذه النازلة الرهيبة اسمًا
إلاَّ هذا الاسم.
يذكر أنه بهذا الكتاب تدخل مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم بشراكتها مع الدار المصرية اللبنانية منعطفًا جديدًا في صناعة النشر الثقافي الثقيل، وفى دعم كل الاتجاهات الفكرية ونقلها إلى الثقافة العربية لتكون متاحة أمام جميع المتخصصين في كل الحقول الفكرية، مع العناية بشكل الكتاب داخليًّا وخارجيًّا، وفى الاستعانة بأشهر المترجمين، وهى المؤسسة التي تسعى إلى تمكين الأجيال المقبلة من ابتكار وتطوير حلول مستدامة لمواجهة التحديات، عن طريق نشر المعرفة ورعاية الأفكار الخلاقة التي تقود إلى إبداعات حقيقية إضافة إلى بناء جسور الحوار بين الشعوب والحضارات.