عمار سلمان داود منالسويد: كلاي كيتر، (Clay Ketter) الفنان السويدي الأمريكي الأصل، كفيل بأن يدهش كل مهتم بالفن التشكيلي العربي من نقاد وفنانين ومشاهدين، وبالأخص المهتمين بالفن العراقي! وذلك للقرابة الشديدة مابين معطياته الفكرية والتقنية ومابين ما عبر عنه الفنان العراقي الراحل شاكر حسن ال سعيد من أفكار وتقنيات فيما يخص اللوحة والعمل الفني ككل، وبالذات ما اختص منها بالرؤية الواقعية/ المحيطية المتصفة بالنزعة الـتأملية (النزعة الحيادية في الرؤية أو السلبية كما كان يحلو لشاكر حسن آل سعيد في بعض كتاباته). وهي الرؤية المتوجهة نحو الجدار كسطح/ فضاء تلتقي فيه مختلف العوامل الفاعلة في بناء أو زوال العالم: الماء، التراب، الرطوبة، الهواء، الجفاف، الحرارة، المطر، الإنسان وما يتركه من كتابات أو حزوز، علامات، آثار اليد، آثار حشرات وعوامل أخرى كثيرة.
لا يأتي مقالي هذا كنتيجة لصلة القرابة المفاهيمية بين الفنانين المذكورين فحسب، بل لان متحف الفن الحديث في ستوكهولم قد تكفل بعرض مجموعة كبيرة من أعماله في الفترة مابين 30 مايو الى 16 أغسطس، والمعروضات كانت تمثل نماذج منتقاة من أزمنة مختلفة، إلا أنها ليست مجتمعة بصيغة معرض استرجاعي، بل بصفتها شهود لتمرحل تجربة هذا الفنان كما هو يقترح، دون اللجوء الى التحقيب ضمن نسق زمني تراتبي.
و كلاي كيتر كما قلنا، هو بالأصل أمريكي الجنسية، ولكنه يقيم في السويد منذ عشرين عاما، وكما يبدو من فحوى ما تيسر لي من نصوص حول نشاطاته انه يعتبر اليوم كواحد من أكثر الفنانين شهرة داخل وخارج السويد.
المفارقة الغريبة، هي بدايات النشاط العملي لهذا الفنان، فقد كان يمتهن النجارة ويعمل في صالات عرض الفن السويدية، حيث كان يقوم بالتعاون مع المتاحف وبعض قاعات العرض في التهيئة للعروض الفنية، والعمل في كل ماله علاقة مع مهنة النجارة وبالأخص نجارة البيوت.
على أن اهتمامه المحوري المنصب على الحيطان وبشقيه العملي والإبداعي - حيث بدأت بوادره في تجارب أولى تختص بالحائط / اللوحة مابين الاعوام 92 و 99 - اقول: جعلاه وبسلطة المهتمين والمتنفذين في عالم الفن ان يتبوأ منزلة متقدمة يشار إليها بالبنان.
ولكن الأكثر اهمية من هذا وذاك هو أن غالبية أعماله وطبيعة المادة التي يعمل بها ومفهوم عمله له علاقة قوية جدا بأعمال الفنان العراقي الراحل شاكر حسن ال سعيد! وهذا ماسوف اعرض له في متن هذا النص.
كلاي مولود في عام 1961 في ولاية كونيتيكت، ودرس الفن في نيويورك، وقد اهتم بالموسيقى الى حد انه كان يمارس العزف في احدى نوادي نيويورك المهمة، حتى دفعته ذات يوم، فتاة سويدية تعرف عليها هناك للانتقال الى السويد والبقاء فيها لحد اليوم.
ومن الجدير بالذكر إن لوحته الأولى، التي اكتسب منها شهرة كبيرة من خلال تواجدها في متحف الفن الحديث في العاصمة ستوكهولم، كانت عبارة عن لوحة/ حائط استخدم فيها لوحين من الجبس من النوع المستعمل في بناء الحيطان، قام بتثبيتهما قرب بعضهما وعمد الى تغطية المنخفض الخطي الدقيق المتكون نتيجة تلاصق حافتي اللوحين بواسطة عجينة مخصصة لهذا الغرض وهي من مواد البناء المعروفة. وكان عنوان هذا العمل هو (معجنة جيدة !) وقد ترك كيتر اللوحة/ الحائط بدون صباغة!.
ان عمله كنجار في مجال تهيئة الحوائط للعروض الفنية أدى به الى ان يكتشف بشكل قد يبدو للوهلة الأولى فطريا، أن هذه الحوائط هي عينها أعمال فنية ! مما ادى به لاحقا الى التركيز على المعنى الكامن وراء مثل هكذا اهتمام سيتم فيه استقبال العمل الفني في المحيط وليس البحث عنه.
ولاشك في ان انشغالات كيتر في مجال ايجاد تقنيات جديدة وحلول مبتدعة لمشاكل السطح التصويري أوصلته الى ان يستعيد تقنية (الفن الجاهز) (Redy maide art) التي ابتدعها الفنان الفرنسي دوشامب (Duchamp) في مطلع القرن الماضي، فمن الممكن ان يعامل الحائط ومن منظور (الفن الجاهز) على انه لوحة، كما اعتُبرت المبولة المعروفة لدى سابقه دوشامب كعمل نحتي اما الظل الذي ينتج من الضوء الساقط على الأشياء فسيترجمه دوشامب على انه رسم جاهزRedy painting) (في حين سنجد ان مواد البناء لدى كيتر هي ما يمكن أن نصطلح على تسميته بالتقنية واللون الجاهز!
وهكذا ستكون المعادلة كالتالي:
سطح الصورة = الحائط
ملمس السطح = مواد البناء المختلفة
اللون = أصباغ الحيطان او لون الورق الملصوق والمواد الاخرى
الخط = أثار الأشياء التي كانت مرتبطة بالحائط وانفصلت عنه.
النقطة = اثار المسامير، العفن، الحشرات.
في حين سيعتمد شاكر حسن ال سعيد - وفي وقت سابق بكثير لكيتر ومشروعه المفاهيمي - على محورة بحثه وانشغاله الكوني او (الخليقي) على الحائط بصفته بنية معمارية يتم استقبالها في الخارج أي في فضاء الشارع، وهو الذي ستتواشج على سطحه كل العوامل الفاعلة في بناء او خراب المحيط، في حين سينصب اهتمام كيتر على الحائط في الفضاء الداخلي الذي يمثله البيت وهو عامل اكثر التصاقا بالمعنى الذاتي الإنساني الداخلي بكل ما يستدعيه من تداعيات تتعلق بالإنسان وعلاقته بالبيت ككيان مادي تتركز فيه فحوى العاطفة الإنسانية المتوجهة دائما نحو معاني الشعور بالأمان والتحصن والدفء والحماية من الخطر الخارجي.
إذن فأن حائط شاكر سيكون على الأغلب (حائط الشارع) مفتوحا للخبرة الإنسانية المتوجهة نحو إدراك العالم كمادة منفصلة عن الذات الإنسانية وقابلة للتأمل بحيادية ظاهراتية تبقي على الكيان الخام للمحيط وأشياءه، في حين سيكون حائط كلاي كيتر (بيتويا) منطويا على من يسكنه لابل تتمثله ذات ساكنه، وبهذا المعنى سيكون (ذاتويا) مستقبلا من قبل متلقيه على أساس عاطفي منشغل بحالة العزلة والانعزال.
هناك أيضا مجموعة من الأعمال التي تمثل مرحلة متقدمة في بحث كيتر وهي المعروضة كلوحات بتسمية: التلوين بالأثر (trace paintings) حيث تم تحقيق سطوحها عن طريق مايحدث في الواقع الفعلي: نزع الورق الملصوق على الحائط، حك الأصباغ القديمة، خلع أسلاك الكهرباء والمسامير، وضع عجينة البناء لردم الحفر ومحو الشقوق او نزع البلاط، الى ذلك الحد الذي وضع البعض حائرا إن كان كيتر قد اقتطع هذه اللوحات من الواقع الفعلي أم انه صنعها بنفسه !.
إن المفاهيم التي يمكن أن تهيئ لها أعمال كيتر تتعلق بمعنى ان يكون العمل الفني أثرا للنشاط الإنساني والى أي حد يمكن الذهاب في هذا المسعى؟ وهي تقوم بعكس هذا النشاط بالمعنى الوجودي والفعلي فهي ليست أثرا للفعل الإنساني (التعبيري) كما هو حاصل في أعمال مواطنه الراحل جاكسون بولوك (Jackson Pollock) من خلال فنه التجريدي الموسوم بعبارة (التلوين الحدوثي) (action painting) ولا هي افتعال للمادة الصورية الحائطية كما هو حاصل عند الاسباني تابييس (Tapies) الذي سبق كيتر في استخدام عبارة الرسم / الحائط وكانت له اهتمامات مماثلة.

من اعمال الفنان الاسباني انطونيو تابيس


وفي محاولة إبداعية مهمة وجديدة، سيتمكن كيتر من عرض معطى مفاهيمي جديد في عمله الفني القائم على فكرة العلاقة مابين القوى الطبيعية والمحيط الإنساني، (هاهنا سوف يتعرض الى معنى الأثر الذي يتركه المحيط)، فيعمد الى استخدام الصور الفوتوغرافية التي تحتوي على مشاهد لما تركه إعصار كاترينا في ولاية نيواورليانس من خراب هائل ومأساوي مرعب، والذي كان من نتائجه هو محو شامل وكارثي للمنازل، مبقيا فقط على أساساتها ذات الأنساق الهندسية الحادة الزوايا! ولسوف تتوافر هذه الصور على مشاهد مأخوذة طبق منظور عين الطائر. في حين سوف يقف المشاهد بدوره حائرا إزاء كيفية استقبالها: هل سيتمحور لقائه بها على ما ستبثه من معنى جمالي فحسب؟ أم انه سيواجه عمق المأساة الإنسانية باعتبارها ضحية لجنون قوى الطبيعة الهائجة؟ وهما موقفان يضعان المتلقي في مواجهة الموقف الأخلاقي وليس فقط الجمالي!
لن تكف اعمال كيتر من ان تضع متلقيها في مقام الحيرة مابين ان تنتمي الى عالم التجريد او العالم العياني الواقعي، فهويتها هي تجريدية /واقعية! وهذا الحال الوجودي لها، الذي هو حال ازدواجية الهوية سيدفعني الى إيجاد مصطلح يحمل في طياته مفارقة مقلقة الا وهو: الواقعية التجريدية!

احد اعمال كيتر

لا تحمل مفاهيم كيتر أي طابع استثنائي، فهي تنتمي بعنصريها الأساسيين: التجريدي والواقعي الى تيار جديد لازال فتيا في عالم فن اليوم الذي يتضمن محاولات ذات صلة شديدة بعين المحتوى المفاهيمي لكيتر حيث سنجد هنا وهناك تجارب لانتشال الأشياء من واقعيتها العينية في مسعى رؤيتها كأعمال معروضة للتلقي المزدوج: الواقعي/ التجريدي! ذلك لانها مازالت تتوافر على عينات من عالمنا الواقعي المادي والمدرك، في عين اللحظة التي تستهدف فيها دعوتنا للأخذ بنمط جديد من التلقي المغري تكمن فعاليته في التواجد في صميم العالم التجريدي المنفصل عن عالمنا الواقعي الارضي المعيش.
في احدى نصوصه الرائعة عن الفن، كتب الان كابروف: quot;يجب ان تكون الحدود مابين العمل الفني والواقع أكثر هشاشة كلما كان ذلك ممكناًquot;، وقد تمكن كيتر ان يذهب في هذا المسعى بعيداً.

من صور إعصار كاترينا


عمار سلمان داود: كاتب وصانع صور عراقي يقيم في السويد