ايلاف:صدر بلندن عن دار الوراق كتاب جديد للدكتور باسم عبود الياسري بعنوان (مزارات بغداد) في سلسلة تحقيقه لكتب التراث، التي بدأها بكتاب (المختصر الدقيق في فن التحقيق) ثم (المنتقى من رحلة ابن بطوطة) وبعده من مناقب عمر بن عبد العزيز. يقع الكتاب بأكثر من 160 صفحة. والدكتور الياسري عضو اتحاد المؤرخين العرب، صدر له أيضاً (أشعار أهل اليمن في العصر الأموي) و(تجليات القص- مع تطبيقات في القصة القطرية).

هذا الكتاب كتبه الأب انستاس ماري الكرملي المتوفى قبل ستين عاما، وكان من المهتمين باللغة العربية والغيورين عليها، والكتاب مكتوب أصلاً باللهجة العراقية المحكية، قام المحقق باعادة تحريرها باللغة العربية الفصيحة، مع تحقيقها. وقدم للكتاب الدكتور طالب البغدادي عضو اتحاد المؤرخين العرب.

يقول الدكتور باسم عبود في مقدمته للكتاب:ان الحديث عن تلك الأضرحة والمزارات لا يعني بالضرورة تناولها من جانبها الديني، فأنا غير معني بهذا الأمر، وانما تناولتها من الجانب التراثي وما تثيره فينا من مشاعر مختلفة تنتاب كلاً منا حسب ثقافته ووعيه وربما قناعته بتلك الأضرحة وأصحابها. وهكذا فان لتحقيق هذا المخطوط بعداً تراثياً واجتماعياً، فالمزارات موجودة عند معظم شعوب العالم، ولا يختص بها دين ولا تتحدد بمذهب أو طائفة، كما أنها - ربما - تشكلت نتيجة وجود موروثات ميثولوجية قديمة اختلطت بمفاهيم دينية جاءت فيما بعد. وهنا لابد من الاشارة الى أن كل الديانات بل كل الثقافات تهتم بالمزارات باعتبارها تمثل جزءا من الثقافة الروحية للانسان، تتساوى في ذلك الشعوب المتحضرة وغير المتحضرة على السواء، وما استطاعت لا النظرة الدينية المتشددة ولا النظريات المادية نسف هذا البناء الروحي الذي قامت عليه النفس البشرية. بل أن قبور القادة العسكريين والوطنيين أصبحت فيما بعد مزارات يزورونها الناس الذين يمرون بتلك البلدان.

وجاء في تقديم د. طالب البغدادي للكتاب:يتميز تحقيق مخطوطة كتاب مزارات بغداد للأب انستاس ماري الكرملي بأن المحقق الأستاذ الدكتور باسم عبود الياسري اتبع في تحقيقه أسلوباً جديداً يختلف عن الأساليب المعروفة في تحقيق المخطوطات. وقد أضاف بأسلوبه هذا بعداً جديداً في فن التحقيق الذي فصل جوانبه الأستاذ المحقق نفسه في كتابه (المختصر الدقيق في فن التحقيق) الصادر عام 2005م.

لقد جاء تعريف (الكتاب المحقق) في المصنف المذكور بأنه (الكتاب الذي صحّ عنوانه واسم مؤلفه ونسبة الكتاب اليه، وكان متنه أقرب ما يكون الى الصورة التي تركها مؤلفه)، هذا التعريف ليعطي للمخطوط المحقق أهمية اضافية بتعريب نصوصه المدونة باللهجة العامية. والمحقِّق بالرغم من أنه تجاوز التعريف الذي وضعه بنفسه، لكنه جار ما جاء في كتابه في فن التحقيق حين يبين (بأن تحقيق النصوص عرف بأنه الاجتهاد في جعل النصوص مطابقة لحقيقتها في النشر كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث الخط واللفظ والمعنى). وأجد هنا بان الأستاذ المحقق قد اجتهد فعلاً في تعريبه للنصوص اجتهاداً ايجابياً أضاف بموجبه قالباً جديداً لفن التحقيق وفتح باباً اضافية أخرى تسهّل للمحققين بعض مهامهم الفكرية وتزيل بعض العقبات الاشكالية في جهودهم.

لقد جاء مخطوط كتاب مزارات بغداد مدّوناً باللهجة العامية البغدادية كما يتكلم بها مسلمو بغداد (كما جاء في عنوان الكتاب الأصلي). ليتحدث عن أهم مزارات بغداد عند المسلمين منتقياً بعضاً منها ومهملاً البعض الآخر بالرغم من أهميتها عند البغداديين. وقد أسهب المؤلف (أو المعد الجامع كما يذكر المؤلف نفسه) في بيان تفاصيل بعض الطقوس والعادات عند نساء بغداد بشكل خاص وأهالي بغداد بشكل عام بطريقة يسخر منها أو يهزأ بها. يسميها تارة بالخرافات وتارة أخرى بالسخافات متناسياً أن لكل شعب أو تجمع اثني عاداته وطقوسه التي كانت موضوعاً لدراسات معمقة قام بها نفر غير يسير من المفكرين والمثقفين على الصعيدين العالمي والتاريخي وخصوصاً أولئك المهتمين بالميثولوجيا ونشوء الأديان والحضارات. وقد وصلت بعض الدراسات في عمقها الى جوانب فلسفية وبعض منها الى مراتب هامة في السيكولوجي والسوسيولجي وبعض آخر الى ما يسمى الآن بالخوارقية (الباراسيكولوجي).

وفد تطلبت تلك الدراسات ايجاد أدوات بيداغوجية لتحليل الظواهر وربطها بالتكوين النفسي للجماعات الناتج عن نشوء العلاقات الاجتماعية المتداخلة وتأثير التطور التاريخي لها في خلق مجمل السلوكيات للجماعات وللأفراد. ليس من المعقول اذن أن يعطي المؤلف أحكاماً مزاجية وانفعالية لا تتفق ومستواه الذهني والفكري، بل وحتى الثيولوجي والاجتماعي.

لقد بذل الدكتور باسم عبود الياسري جهداً ليس بالهين في تحقيقه للمخطوط يتضح في غنى الهوامش والشروح التي أضافت الى الموضوع الرئيسي نكهة ثقافية يستمتع بها القارئ حين يجول به المحقق في أزفة التاريخ وتعاريج الحياة الماضية القريبة منها والبعيدة بكل انفعالاتها وطقوسها. فجاء هذا الكتاب لا ليسد جزءاً من الفراغ الثقافي السائد فقط، بل انه بشروحه وهوامشه وجهد الأستاذ المحقق سيأخذ مكانه في رفوف المكتبات العربية بجوار نظيره مزارات بغداد للعلامة الآلوسي ضمن العائلة الثقافية البغدادية التي تضم المؤلفات والبحوث عن تاريخ مدينة بغداد وتاريخ أهلها وعاداتهم وسيكون مكملاً لما كتبته الليدي درور عن مزارات بغداد وليعيد الى من يقرأه من البغداديين ذكرى تلك المزارات حين كانت بغداد محصورة بين البابين الشرقي والمعظم وعلى الجانبين وكانت معظم المزارات تقع في الضواحي تتفيأ بنخيل البساتين التي كانت تطوّق المدينة التي أحبها علي بن أبي طالب قبل أن تؤسس حيث صلى في براثتها وعشقها المنصور والرشيد والمأمون والتي ألهمت دجلتها خيال الجواهري وقريحة المتنبي والبحتري وأصبحت بعد مرور أكثر من ألف ومائتي عام الفرشاة التي لونت لوحات جواد سليم وحافظ الدروبي والنغم الذي تعزفه أنامل سلمان شكر والصوت الذي يصدح بأوتار زكية جورج وأم كلثوم التي لم تغن لمدينة سواها في كل مسيرتها الغنائية