مايكل ريتشاردسون: لم نولد نحن بوصفنا بشر، في ثقافة فقط، بل في ثقافة معينة: تم منحنا مجموعة من السمات المحددة والمعرّفة ثقافياً نتوقع ان نتلاءم أو نكيف أنفسنا معها. والأدق اننا ولدنا في ثقافات عدة تبدي كل واحدة منها فعلها فينا بطرق مختلفة، تتوقع أموراً مختلفة منا وتطالبنا بمطالب مختلفة نجد أنفسنا مضطرين إلى الاستجابة لها. وفضلا عن ذلك، فان هذه المطالب، والمدى الذي يتم فيه فرض الضوابط علينا ـ أو من ناحية أخرى استمالتنا ـ من اجل قبولها، تتباين إلى حد كبير في شدتها وإصرارها حدّ اننا مضطرون باستمرار إلى تقسيم المطالب التي تتطلب الأولوية. وفي الكثير منها نجد أنفسنا أمام خيار ضئيل أو لا يتاح لنا الخيار أصلاً ؛ فالجنس، العنصر، القومية كلها تُمنح لنا عند الولادة ونغفل الأوامر التي تفرضها علينا عند الخطر.
ويبقى الاختلاف الثقافي لغزاً؛ شيئاً يفصلنا مرة أخرى عن الحيوانات الأخرى. فكيف نفسره ؟ تبدو الأنواع species عموما متجانسة الخواص؛ فهي لا تنفصل إلى جماعات مختلفة توطد علاقة عدوانية مع بعضها. فإن صح القول أن الكلاب، مثلاً، هي أنواع أكثر تلوناً من البشر (من حيث المظهر البدني والسلوك أيضاً، فإن الكلب الالزاشي Alsation [منسوب إلى الزاشيا في فرنسا] هو أكثر تميزاً من كلب بكين [الصغير القوائم وعريض الوجه وطويل الشعر ناعمة] وأكثر تميزاً من الكلب اللندني الذي يتميز كثيراً عن كلب مرتفعات غينيا الجديدة)، لكنها تبقى مع ذلك غير متباينة من حيث سلوك النوع الحيواني الممثل لها. أما البشر فهم أنواع لا سكونية باستمرار، تسعى وراء توسيع مجالها وبناء أنماط ثقافية مختلفة أينما ذهبتْ، وتجدهم، في كل مجتمع يشكلونه، ينشأون معايير حكم مختلفة قد لا تتماشى مع معايير المجتمعات الأخرى، المجاورة. لماذا يؤدي انتشار البشر إلى انشاء الكثير جداً من الثقافات المختلفة المتمايزة بمثل هذه الطرق الصارمة ؟ لمَ يحتاج البشر إلى الانتماء إلى مجتمعات أصلاً، أو التماهي مع كيانات مثل القبائل والقوميات ؟ ان التمعن في الثقافة هنا مرة أخرى يقود إلى الشك في أهمية العوامل الوراثية في بنائنا، لأننا، إذا كنا محددين وراثياً، ينبغي عندئذ ان تسلك الثقافات كلها المسار نفسه. ومع ذلك ليست هذه قضيتنا أصلاً ؛ فالعوامل الوراثية تعمل، بوضوح، بطريقة تؤثر في تطلعات مختلف الجماعات الثقافية وافتراضاتها بطرق مختلفة. وان الرغبة بالتمايز تعدّ جوهرية بالنسبة لطبيعة البشر، فنحن نعرّف أنفسنا ليس بما نحن عليه بل بما نحن لسنا عليه. وتعدّ الحركة المزدوجة ضرورية لفعل ذلك: فعلينا ان نرسخ أنفسنا بوصفنا كينونات اجتماعية مع التأكيد في الوقت نفسه على إحساسنا باننا كيان فردي منفصل عن المجتمع، وان كان معتمداً عليه.
وبالقدر الذي ينبغي علينا فيه ان نتلاءم مع حاجات المجتمع، فاننا نحتاج إلى ترسيخ الإحساس بكينوناتنا بوصفنا افراداً، ضمن حقنا الشخصي لكن أيضاً بما يتعلق بالتشكلات الثقافية المختلفة التي نعدّ نحن جزءاً منها أو نسعى لأن تكون جزءاً منها. فالتفريد حاسم ويرتكز على حقيقة اننا نريد ان نكون مثل الآخرين مع الرغبة في الوقت نفسه بأن نكون مختلفين عنهم، أي ان نتلاءم مع جماعتنا وان نكون في الوقت نفسه متميزين عنها لنشعر اننا موجودون بوصفنا أفراداً بحكم حقنا الشخصي. ان هذا الجذب الثنائي جوهري لهويتنا التي ينبغي النظر اليها بوصفها فردية وجمعية معاً. وهناك أيضاً توتر ديالكتيكي ووحدة معاً بالطريقة التي تبدي بها الدوافع الفردية والجمعية فعلها على الطريقة التي نشكل بها ذواتنا. وتتباين اهمية ذلك تبعاً للثقافات، الا ان التوتر يظل قائماً دائما إلى حد ما.
وليس من السهل دائماً الاعتراف بمثل هذا التوتر. فإذا كانت حياتنا كلها متمركزة حول علاقتنا بالآخرين (ما الذي نريده منهم، وما الذي نحن مهيأون لإعطائه ؟)، تكون هناك سيرورة تدفعنا إلى ان نرغب بالانسحاب إلى ذواتنا أو حتى العودة إلى لا تمايز الأنواع. ومثلما لاحظنا، فان هذا قد يتعادل مع غريزة الموت عند السايكولوجيا الفرويدية، كما انه لايؤثر في الافراد فقط، بل الجماعات أيضاً. وطالما أن الكثير من المجتمعات لا تعترف بممارسات معينة من قبيل quot; التضحية quot; فقط، بل أيضاً بالمحظورات ذات الصلة بالمجتمع البشري، ولا سيما العرف الكليّ الخاص بتابو الزواج من المحارم الذي تدعمه القواعد المعقدة للزواج اللحمي [بين أفراد القبيلة الواحدة] والزواج الأباعدي [الزواج من الأباعد من مجموعة بعينها] التي تكون مطلوبة لإدامة توازن التفاعل الاجتماعي الذي من خلاله يتجدد المجتمع من دون ان يفقد تلاحمه، ولمنعه أيضاً من الانهيار إلى ذاته. ان تعقيد المجتمع الحديث له وسيلته الخاصة التي تغرس الانضباط في المواطنين لضمان قدرة المجتمع على إعادة إنتاج ذاته بطريقة فاعلة.
لكل واحد منا حاجة إلى توكيد هويته بوصفه فرداً منفصلاً إلى ذاته، متمايز عن الآخرين كلهم، لكننا مع ذلك نرغب بالانتماء، بان نحظى بقبول الآخرين واحترامهم. ويتطلب هذا الدافع المزدوج ـ عند أساس توكيدنا لهويتنا ـ ان نتحرك داخل وخارج مختلف التشكلات الثقافية في لحظات معينة وفي أماكن معينة لنؤسس علاقات معقدة ومختلفة تخدم إحساسنا بذاتنا، وبالانتماء. ولتقصي ذلك، نحتاج إلى التمعن من جديد بالعلاقة بين ذاتنا والآخرين؛ العلاقة المتأصلة في صيرورتنا بوصفنا بشراً، والتي تتغذى أيضاً [تغذية مرتدة] على الطريقة التي يتطور بها المجتمع نفسه. وان مدخلنا إلى الثقافة يتطلب منا ان نخرج ذاتيتنا إلى الخارج. وتبعاً لما جاء في فكرة quot; مرحلة المرآة quot; عند لاكان ومثلما لاحظنا، يحدث ذلك بفضل ديالكتيك التماهي مع quot; الآخرquot; فإذا تمكنت الأنا من تحقيق حالة موحدة فقط بواسطة سوء التعرف على الصورة في المرآة التي تسمح لها بإحراز تلاحم الذات الذي يتمركز في الإحساس العصي بالتماهي مع رغبة الآخر ؛ فتتبنى وحدة الآخر بوصفها وحدتها من خلال الإزاحة التي من خلالها يتم افتراض استشراف التكامل أو إسقاطه، فعندئذ ستترسخ هوية الطفل الناتجة بوصفه كياناً اجتماعياً ولا تتماسك إلا مؤقتا ؛ معذباً بالافتقار ومحاطاً من جوانبه كلها بنظام اللغة الرمزي.
إن الرغبة، بوصفها التوق إلى الاعتراف والحب، لا يمكن إشباعها الا من خلال التجريد الذي نرسخ في التفاعل مع quot; الآخر quot; ؛ رغبة تتخذ شكلها من الرغبة بان تكون مرغوباً من quot; الآخرquot; وكذلك في الوقت نفسه من الذات التي تشكل رغبتها الخاصة بوصفها إسقاطاً على quot; الآخر quot;.ولهذا السبب يكون هذا التماهي الرئيس متشكلاً نتيجة العلاقة مع quot; الآخرquot; الذي تكون هويته إزاء الذات متشكلة هي الأخرى داخل شبكة الدوال التي تتم صياغتها في اللغة.
ومثلما لاحظنا، يتأسس الخلاف هنا بطريقة ينبغي فيها على الذات ان تحاول حله داخل نفسها إذا ما أرادت أن تأسس لنفسها هوية ثابتة والتي لهذا السبب لا يمكن النظر اليها بوصفها محض فيض من داخل الذات. ولهذا فانه في الوقت الذي تكون فيه الذات متشكلة بوصفها حصناً يضم بداخله مجالاً ومغاليق ومحاطاً بمستنقع غادر ينبغي للذات ان تسعى لتخطيه في بحثها عن قلعتها الداخلية الممثلة باللاوعي، بالطريقة ذاتها التي ينبني بها الآخر بوصفه موضوع رغبة الذات، فإن هذا يعني ان حاجة قد ترسخت علينا ان نحاول من خلالها إدامة مظهر التلاحم والكمال الذي من خلاله نستطيع التماهي مع الثقافة التي من حولنا. وبغض النظر عن مدى قوة إرادتنا، غالباً ما تكون هذه السيرورة هي المسيطرة علينا وليست التي نسيطر عليها نحن، فإن البيئة تأسرنا وتجبرنا على تنفيذ مشيأتها. ونحن نرى ذلك في كل ما يحيط بنا في المتطلبات التي يفرضها علينا المجتمع من حيث واجب العمل وتقديم الإسهام للمجتمع، وتقسرنا على علاقات لم نخترها.
ومثلما ان سيرورة تشكل الهوية تتطلب من الذات أن تتشكل بوصفها سياجاً منفصلاً عن الكينونات الأخرى بصفات جوهرية مميزة ـ سواء أكانت فطرية أو مكتسبة ـ لهذا فانها تبدي فعلها، بالتساوي، على العوامل العنصرية والجنسية، فضلا عن القومية أو الطبقية. ويعد مفهوم الفرد غير قابل للانفصال عن التداعيات التي إما يؤسسها أو التي يفشل أو يعجز عن تأسيسها، ومثل هذه التداعيات تكشف مسارات تفتحنا على عوالم ثقافية معينة في حين تغلقنا على عوالم أخرى. وتقترن هذه السيرورة أيضاً بعنصر أساس لدخولنا إلى quot; التاريخ وإلى quot; الزمن quot; وإلى quot; المجتمع quot; كما تزودنا بمعيار نستطيع من خلاله فهم هويتنا الاجتماعية وتثبيت هويتنا الفردية داخلها.
ومن المؤمل أن يبني هذا السرد الخطاطي، نوعاً ما، لصيرورة الذات، والمتطور عن فهم لاكان، سرداً دقيقاً بما فيه الكفاية لتقديم وصف قيم ومتناغم للكيفية التي تتحقق بها علاقة الذات والآخر في الإطار العام لسيرورة الحياة. اننا قد نشك محددات تحليل لاكان ـ ولا سيما أهمية دور الدوال بوصفها الواقع الملموس الوحيد للذات، أي الشيءالذي تشكك فيه كاستوريادس Castoriadis ؛ رأى ان التخيل ليس الصورة المعكوسة لشيء ما بل هو في طبيعته غير المحددة ويخلق الصور من هذه الطبيعة غير المحددة أصلاً، وبهذا يستطيع الآخر توليد الذات الآخر بالقدر نفسه الذي تكون فيه انعكاساً له. وسنثير، لاحقاً، شكوكاً أيضاً عن أولوية العالم الرمزي وعدم قابلية استرداده وذلك عند تحليل أولوية الافتراض السوسيري لاعتباطية العلاقة. ومع ذلك، تتضمن نظرية النمو عند لاكان تحليلاً لتشكيل الذات واضحاً بما يكفي لتزويدنا بوسيلة فاعلة لفهم الكيفية التي تدخل بها الثقافة إلى وعي الفرد ؛ موجهة الفرد إلى بنى يسمح لها ان تكون أساساً لتشكل الهوية داخل الموقف الاجتماعي والثقافي المحدد لذلك الفرد.
ما يهمنا هنا هو الطريقة التي ننغمر فيها ـ منذ لحظة ولادتنا، حينما نندمج بما هو خارجي عنها ـ في رحلة ستقودنا إلى تكوين هوية على أساس عصبي (بمعنى انها تعتمد على جذب أفكار متناقضة). وبينما يتعلم الطفل التكيف مع ما يحيط به، فانه يحاول ترسيخ إحساس بالألفة من خلاله يستطيع التمتع بوهم الآمن. الا ان هذا لا يرضينا ونرغب ـ إلى حد كبير أو قليل ـ بكسر أواصر مثل هذا الضمان. ان الفرد ليس كياناً مكبلاً حراً بالتصرف متى شاء، بل هو عنصر فاعل مطلوب لقبول طرق معينة داخل ثقافة ما والمشاركة بها. وهذه السيرورة نفسها فاعلة: فالثقافة لا تسعى إلى ترك بصمتها على الفرد من خلال متطلباتها، بل تشكل فرداً سيعيد خواصه نفسها إلى الثقافة مما يغنيها بإسهامه. وهذا يستدعي تدخل كل فرد في حياة الآخرين، وهذا التدخل هو ما يجعل المجتمع ممكناً.
تعدّ هذه العلاقة حاسمة لفهم كيف نتمكن نحن، بوصفنا افراداً، من التفاعل مع ثقافتنا، وكيف نؤسس، بالمقابل، علاقة بثقافة الآخرين، فعندما نسافر خارج ثقافتنا، نرتبك أول الأمر ويبدو كل شيء غريباً عنا بطريقة تستنسخ غرابتنا الأولية التي نواجهها حينما ندخل العالم، وقد تطلق على هذه الغرابة تسمية الغرائبية ؛ إنها تمثل إسقاطاً لرغباتنا على شخص الآخرين، بالضبط مثلما يسقط الطفل نفسه على المرآة. وبالضبط مثلما ان الفرد يواجه خطر الانهيار إلى اعتناق النرجسية التي تجعل من الصعب احترام واقع الآخرين أو الاعتراف به، لذلك تميل إدراكاتنا للثقافات الأخرى بالبقاء مجمدة في هذه العلاقة: أي النظر إلى الآخرين بوصفهم لا شيء سوى إسقاطاً لذواتنا. وهكذا لا يتم الاعتراف باختلافهم إلا بوصفه صدى متجسداً لا يُعهد له سوى إعادة الجواب إلى الذات بالشروط التي تبنيناها ـ نحن بوصفنا دور نرجس ـ وأسسناها بوصفها شكل غير مكتمل للعلاقة. إن التحدي الرئيس الذي يواجه تأسيس أي مجتمع هو الاعتراف بالاختلاف داخله والسماح لعناصره المختلفة بالتفاعل والاتصال بطريقة تحفظ التلاحم الداخلي وتسمح بالاحترام والاعتراف.
يتشكل المجتمع حينما توافق جماعة من الأفراد على العمل تبعاً لمجموعة معينة من القيم. ولا يمكن لمجتمع ان يكون موجوداً من دون سيرورة الموافقة الجوهرية هذه التي تكون، برغم ذلك، لا مستقرة ولا ثابتة بل خاضعة للتوتر دائما. ويتواصل تشكل المجتمع أيضاً بطريقة تناظر تشكل الهوية الذاتية من خلال الطفل. ولا يتشكل المجتمع من خلال زخمه الخاص بوصفه يستجيب، ببساطة، لدينامية متولدة في داخله، بل يرسخ نفسه بالضبط في علاقة ديالكتيكية مع ما يحيط به، بوجه واقع الآخرين الغرباء الذين يتم تصورهم في ضوء الرغبة بتكوين هوية وكذلك بوصفه ـ في الوقت نفسه، تهديداً لذلك التكوين.
إن الاعتراف بالثقافات الأجنبية لا يكون مرغوباً دائما للمجتمع ؛ ففي الكثير من المجتمعات يتم إقصاء الآخر، الإنسان، من فئة الكينونات البشرية. وإذا ضربنا مثالا عشوائيا: الولاية الأمريكية المحلية التي تعرف اليوم باسم quot; داكوتا quot; Dakota كانت في السابق تعرف باسم quot; سيوكس quot; Sioux، ومع ذلك لا يمثل أيا من هاتين الكلمتين اسماً، فـ quot; داكوتاquot; هي واحدة من العديد من الألفاظ الوصفية التي تستعملها قبائل معينة داخل الولاية ؛ فإذا أشاروا إلى أنفسهم بوصفهم كلاً فانها تكون Ikehe Wichash التي تعني ببساطة quot; كينونات بشرية طبيعية حقيقية quot;، اما Sioux فهي التحريف الفرنسي لكلمة Ojibway التي تعني quot; الأفعى الصغيرة quot;. ولأغراضهم الخاصة لم يحتاجوا إلى اسم لانهم كوّنوا العنصر البشري. أما بقية القبائل فقد مثلت تدرجات من اللابشر وهذا مبدأ نجده في معظم أجزاء العالم. ويلاحظ نيتشة ذلك مشيراً إلى أن الألمان اكتسبوا اسمهم من أعدائهم ؛ فكلمة Deutschen تعني أصلاً quot;الهمجيquot;. وهذا يشير إلى الطريقة التي لا يكون فيها الاندماج مع الآخرين سيرورة اتصال مباشرة. نحن نختار quot; آخرينquot; بألفاظ تعطي معنى لإحساسنا بالهوية. وبهذا الصدد غالبا ما يتم تشخيص المجتمعات الأخرى بانها خارجية ليس بالنسبة لمجتمعها الخاص، بل لعنصرها البشري ككل ويكون بقية الناس ـ في أفضل الحالات ـ أعداء لابد من قتالهم أو التكيف معهم. والمجتمع في شكله الأساس يرغب في ان يكون مؤسساً لذاته ومكتفياً بها، لكن هذا مستحيل: فالبقاء يستدعي التفاعل مع المجتمعات الأخرى. ومع ذلك فان مثل هذا التفاعل ـ في شكله البدائي ـ تم الإبقاء عليه ضمن الحد الأدنى. ان السعي إلى إقامة جسر مع القيم الغريبة للمجتمعات الأخرى هو شيء من ظاهرة حديثة لم تنجم الا من الحاجة في العالم الحديث إلى زيادة التفاعل(من اجل التجارة بصورة خاصة) ويتطلب الفهم بين الثقافات جهداً واعياً: لكنه ليس معطىً، وقد يبدو غير طبيعي أحياناً لأن كل أشكال التنشئة الاجتماعية تتضمن منظوراً عالمياً هو في جوهره متمركز عرقياً، وان تشكل حسب ما يكون عليه الآخر. وبالطريقة ذاتها، مثلما ان الذات ذاتها منبنية ثقافياً وليست متأصلة، لهذا يسعى المجتمع نفسه إلى ترسيخ هويته بإنكار الآخر. المجتمع ـ بالضبط مثل الفرد ـ تحركه الرغبة بان يتصور نفسه ضمن تكامله. وسيتعطل هذا الإنكار للآخر تدريجياً حالما تضطر الذات إلى الاعتراف بواقع الآخر عبر سيرورات التفاعل خاصتها. ولهذا السبب ينظر هيغل إلى الاعتراف بوصفه ناتج عن الصراع من اجل السيادة: القدرة على رؤية الذات من منظور الآخر هي [قدرة] لا معطاة بل تنتج حينما تتصل مختلف الجماعات اتصالاً حسياً ببعضها وتضطر إلى إقامة علاقات إما عداوة أو صداقة.
عند القول ان المجتمعات هي في جوهرها متمركزة عرقياً، هل يعني ذلك ان بعض المجتمعات لا تملك تصوراً عن الآخرية ؟ لا، إطلاقاً، ثمة سبب لتخيل ان مفهوم الآخرية ضروري لتأسيس المجتمع. ومع ذلك، فان الطريقة التي تتركب بها هذه العلاقة تتخذ أشكالاً مختلفة في المجتمعات المتنوعة. فإذا كانت تقصي الاعتراف بآخرية المجتمعات المجاورة، فانها تُكِونها في مكان آخر. وفي المجتمعات التي تقصي المجتمعات الأخرى من مجال البشر فان الآخر هو ما يكون موجوداً بالضبط وراء نطاق البشر، فالآخر الذي إزاءه تقيس معظم المجتمعات البشرية نفسها يكون معطى في العلاقة المتأسسة مع الأسلاف والمعبودات الماورائية. وقد بين مارك اوغة Marc Auge كيفية ذلك: quot; تنبني كل هوية عبر التفاوض مع آخرية متنوعة وبالتالي تكون هناك دائما أزمة آخرية أكثر عمقاً، أي في قمة الظواهر الممثلة بوصفها تدل على أزمة هوية. يقول الأفراد أو الجماعات انهم في أزمة حينما لن يعود بمقدورهم امتلاك طريقة لتصور الآخر أو quot; التفكير quot; به، ونحن في الحقيقة في موقف طارئ اليوم quot;(اوغة، 1999 /ص91) وهذا يمثل، بحدة، مشكلة تؤثر في الثقافات ككل في عالم اليوم وبطرق عدة.
لدينا حنين إلى المجتمع [الأصغر] community، فالوجود الفردي لا يكفي لحاجات نوعنا، وان ما يعادل أهمية إحساسنا بأنفسنا هو اننا مسحوبون أيضاً إلى لحظات حينما يذوب فيها هذا الإحساس ـ هذا الوعي ـ في الكل الأعظم ومع انه وعي بفردانيتنا، لكنه اضطهاد أيضاً، لكنه يعد انتماء إلى الجماعات أيضاً. فالاحتفالات تعزز فكرة الجماعة. وهذه هي الأوقات حينما يعبر فيها الناس ككل عن اعتمادهم المتبادل [على بعض] وعن تصورهم لغرض مشترك يحقق تلاحمهم ويبجل الآخر الذي يحترمونه.
ما المجتمع، ما الثقافة، حقاً؟ يقدم لنا ماركس مسرداً مصاغاً بعناية شديدة للديناميك الذي هو في صميم أي بناء للمجتمع بحسب أجزاءه المكونة له:

quot;إن وعيي الكلي هو محض شكل نظري لذلك الوعي الذي يتمثل شكله الحي بالمجتمع [الأصغر] الحقيقي ـ المجتمع ـ في حين يكون وعيي الكلي الحالي منفصلاً عن الحياة الحقيقية وبذا يكون في تضاد عدائي معها. ولهذا فإن فاعلية وعيي الكلي هي وجودي النظري بوصفي كائناً من نوع البشر.
من الضروري جداً أن نتجنب مرة أخرى تأسيس quot; المجتمع quot; بوصفه تجريداً تجاه الفرد أو بالمقابلة معه ؛ فالفرد هو الكينونة الاجتماعية ولهذا السبب يكون تعبيره الفاعل ـ وان لم يظهر في شكل مباشر من التعبير المجتمعي الذي يتم تصوره مقترناً ببقية الناس ـ تعبيراً عن الحياة الاجتماعية نفسها وتأكيداً لها. فالفرد الإنسان وحياة نوعه ليسا شيئان متميزان لأن نمط وجود حياة الفرد هو نمط أكثر تعييناً أو أكثر عمومية من حياة النوع أو أن حياة النوع هي حياة الفرد بتعيين اكبر أو بعمومية اكبر. والإنسان بوصفه واعياً بنوعه فإنه يؤكد حياته الاجتماعية الحقيقية ولا يعمل سوى على تكرار وجوده الحقيقي في فكره، وعلى العكس من ذلك، كينونة النوع تؤكد نفسها في وعي النوع وتوجد من اجل نفسها في كليتها، بوصفها كينونة مفكرة quot; (ماركس، 1974: ص 350ـ 351).

يزودنا هذا القول ببصيرة قيّمة بصدد الطريقة التي يتخذ بها المجتمع شكله العضوي في التفاعل المستمر بين أجزائه المكونة له. وهنا يمكن رؤية المجتمع بوصفه جسداً يثبت في مركزه قيماً ومفاهيم معينة أساسية لوظيفته وبقاءه. انه ليس تجريداً، بل تشكلا ثقافياً معيناً يخضع للمقتضيات نفسها التي يواجهها الفرد عند تشكيله لهويته. كل تشكل ثقافي محتاج إلى صراع لتأسيس فرديته وتكامله، لتعريف ذاته في ذاته وإزاء الآخرين.
ومع ذلك لا تكون العوالم الثقافية موجودة في شكل فردي، بل غالباً لا تكون موجودة بصفة كيانات مميزة ومقيدة يمكن فصل الواحد منها عن الآخر ؛ كل كيان يكون موجوداً في عقدة علاقاته بالآخرين، وإن هذا الاتصال مع الآخرين هو أساس تكامله الثقافي. وإن تم تصوره بوصفه عدواً أو خارج فئة البشر التي تعترف بها ثقافة معينة، تبقى مع ذلك حاجة للتوافق مع ما موجود خارج الموقف الذي نجد أنفسنا فيه. وبغض النظر عن مقدار ما نحاوله لتأكيد فردية خبرتنا الثقافية الخاصة، فستقتحمنا صورة quot;الآخر quot;، وإن كانت هذه الصور مشوهة غالباً.
ولهذا السبب لا نتمادى إذا قلنا أن تصور الآخرية بأنها مشكلة بين الثقافات، أي بوصفها قضية تستدعي التأمل الفلسفي في العلاقة بين المجتمعات، هو رد فعل على التوسع الكولونيالي. فتأسيس مستعمرة ما يتطلب علاقة أكثر حميمية مع المجتمع المغاير الذي لا يسعى إلى التوسع في منطقة الآخرين، وهذا يكشف عن صعوبة الاعتراف بالاختلاف. وتقبل الآخرين بشروطهم الخاصة. ان القوة الكولونيالية لا تستطيع طرد المجتمعات التي هزمتها فقط بوصفها تضم غرباء وأعداء، بل هي مجبرة على التوصل إلى اتفاق من نوع ما معها. وإذا كان بالإمكان النظر إلى تاريخ الكولونيالية بوصفه محاولة فرض واقع الذات على بقية الناس فإن هذا، في الوقت نفسه، يفسح المجال أمام المقاومة ويضطر كلا المجتمعين إلى إعادة صياغة إحساسهما بالهوية بطريقة تكفل التعامل مع الموقف الجديد، وعلى نحو يؤسس لشكل من الحوار الذي سيؤثر في كلا المجتمعين.
وإذا كان الاعتراف بآخرية المجتمعات يأتي مصاحباً للإمبريالية وإذا كانت الكولونيالية الناجحة تتطلب شيئا من الفهم للثقافات الأخرى، فان الكولونيالية الغربية كانت ذات طبيعة تدفعها إلى جعل مثل هذه القضايا في بؤرة اهتمامها على نحو لم تفعله المغامرات الامبريالية السابقة. ويبدو ان الاختلاف الأساس هو ان الإمبراطوريات السابقة تمكنت من الاحتلال من خلال ذوبانها ثقافياً في ثقافة فطرية معينة وتوقعها من الثقافة المحلية ان تتكيف مع المستعمرين.وربما كان أوضح مثال على ذلك هو احتلال مانتشو Manchu للصين الذي أسس للسلالة تشينغ Chirsquo;ng التي مكنت مانتشو من الهيمنة لكن من دون تغيير الملامح الأساسية للمجتمع الصيني. ويبدو ان الاهتمام الطاغي لأشكال الاحتلال السابقة كلها هو الحصول على المكانة prestige، وكانت تسير أمورها على أيدي قادة سياسيين بطوليين كتوسيع للقوة العسكرية. وهكذا لم يكن ثمة شك في تكامل الثقافة الأخرى (على الرغم من تغييرها نهائياً). ومن ناحية أخرى لم يكن القادة السياسيون أو العسكريون من استهل الكولونيالية الغربية ونفذها، بل المغامرون في بحثهم عن الثروة والشهرة، أي أنها لم تجرِ لأسباب سياسية بالدرجة الأساس، بل اقتصادية تماماً.
لقد أسست المجتمعات المختلفة ثقافات بالغة التعقيد والتمييز ومازال هذا التنوع ملحوظاً حتى يومنا هذا. ومع ذلك، يسود الآن تصور عن الغرب، ويتطلب ان يكون تنوع الثقافات مشروطاً بالعلاقة التي تأسست مع الهيمنة الغربية. من المشروع اليوم التحدث عن quot; فكرة الغرب quot; بوصفها نمطاً يحتل بداخله الناس كلهم، وبالأحرى الثقافات كلها، مكاناً بصفة موقع ينبغي ان ينتمي له الجميع، او يمرون من خلاله. لقد كان توسع الغرب عبر الكولونيالية ناجحاً إلى الحد الذي صار الناس فيه اليوم موجودون كجزء منه، او انهم على الأقل يرتبطون به بعلاقة لا يمكن التغافل عنها.
وانسجاماً مع ما ذكرنا بشأن بناء الهوية، بإمكاننا ان نحاول تأسيس مكونات ذلك البناء او هذه الأيديولوجية التي نطلق عليها اسم quot; الغرب quot;. منذ النهضة نستطيع رؤية الكيفية التي تشكلت بها quot; فكرة الغربquot; ليس بوصفها وصفاً جغرافياً بل مفهوماً ثقافيا حددته الظروف التاريخية. وهو ليس بالمفهوم الستاتيكي أو المحدد المعالم، بل متقلب ومطواع بلا حدود.
ان مفهوم quot; الغرب quot; متجذر جداً في الوعي والخطاب المعاصرين حدّ ان هناك ميلاً إلى افتراض هويته بانها بينة بذاتها، او، من ناحية أخرى، التخلص منه بوصفه مربكاً. وكما هو الحال مع أي بناء ثقافي، فان تشكله وبنيته معقدين للغاية، كما انه ليس مشروعاً متروياً من جانب القوى الغربية. ومثلما ذكر جمي درهام Jimmie Durham: quot; أوروبا مشروع إنساني أسهمنا نحن كلنا به، وليست مشروعاً أوروبياً quot; (بلا تاريخ: 29). انه كيان يشترك فيه كل الذين يعيشون فيه اليوم، لا أحد يشعر بالانتماء له كلياً كما ان علاقات العالم المعاصر تفتح لنا مختلف طرق التفاعل معه.
وعند السعي وراء الإفاضة في ما يعنيه هذا الكيان، من المهم أولاً إيضاح الفرق بين quot; الغرب quot; بوصفه مفهوماً، و quot; أوروبا quot; بوصفها مكاناً جغرافيا، ومما لاشك فيه ان ثمة إمكانية لفصل فكرة الغرب عن فكرة أوروبا، وإن كان أحدهما ينبأ، بالتبادل، عن الآخر. وقد واصلت أوروبا، كونها أيديولوجيا موازية، أي جزءاً من الغرب، لكنها مفصلة على نحو مختلف ؛ فهي تختلف في كونها متمركزة في أوروبا نفسها لا في حواشيها. quot; أوروبا quot; مصطلح ألماني بالدرجة الأساس، يرجع تاريخه إلى زمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتتجسد اليوم في الاتحاد الأوروبي أما فكرة الغرب فهي مفهوم لا متبلور ليس من السهل تعقب مساره لكنه مرتبط جوهرياً بتطور الكولونيالية الغربية وانتشار القيم والثقافة الغربية عن طريق التجارة.
وإذا رغبنا بتحديد موقع هذه الفكرة،علينا ان نتفحص الكثير من الاحتمالات. وبمقدورنا تعقب تشكله خلال حقبة تاريخية مطولة اكتسب فيها مختلف الجوانب التي تركت بصماتها الواضحة عليه. وعلى مدار القرون، كان مركز جاذبيته يتغير باستمرار. فان كانت جذوره تكمن، من دون شك، في روما وأثينا القديمتين أو بدقة أكثر في الطريقة التي تمكن بها عصر النهضة من تشكيلها بوصفهما أسطورته الأساسية،، فإن ديناميته ترسخت في شمال إيطاليا خلال القرن الخامس عشر وربما يقال ان جوهره انتقل إلى إسبانيا في القرن السادس عشر والتي بدورها تخلت عن هيمنتها لصالح إنكلترا ومن ثم فرنسا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وانتقل في قرننا الراهن [العشرين]، انتقالا كلياً من أوروبا وهو متجسد اليوم في الثقافة العالمية للولايات المتحدة. ٍمن المهم أن نعي هذه التحولات وحدودها. فعندما ننظر إلى الطريقة التي تعمل بها الثقافة، نحتاج إلى الالتفاف باستمرار إلى حقيقية ان ما نفحصه هو في حالة جريان مستمرة ولا يمكن مطلقاً إحكام قبضتنا عليه بأية صورة كانت. ولأن الثقافة مشروطة بأنشطة مختلف المجتمعات الفردية التي تؤلفها، تبقى عندئذ بناءً ثقافيا لا يمكن تحديده بفعل ذلك النشاط. بل هي كيان فردي يطيع متطلباته. ولهذا لا تتمتع الثقافة الإغريقية اليوم سوى بأهمية هامشية لما يمكن ان نطلق عليه تسمية quot; فكرة الغرب quot; مع ان الثقافة الإغريقية القديمة قد غرست بذورها فيها. وبالمثل نقول انه ربما كانت غالبية الثقافات الأوروبية (على الرغم من تراثها الثقافي الغني) لا تملك سوى تأثيراً هامشياً على اكتشافها وتعد في الكثير من الطرق هامشية بالنسبة لصيرورتها التاريخية، كالثقافة اليابانية عل سبيل المثال.ان هذه الثقافات مستبعدة كلياً من المجرى الرئيس الذي يشكل عموماً تراث إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة مع عناصر أخرى ـ بدرجات متفاوتة من الأهمية ـ مأخوذة من أزمان مختلفة وبطرق مختلفة من إسبانيا والبرتغال وألمانيا وإيطاليا وروسيا وغيرها الكثير من الثقافات، ولهذا السبب ينبغي ان ننظر إلى quot; فكرة الغرب quot; بوصفها شكلاً من أشكال الهيمنة بالطريقة التي فسرها غرامشي: فهي تتبنى تلك الجوانب التي تسهم في هيمنتها وتقصي في الوقت نفسه أي شيء لا يحقق هذه الغاية. وبوصفه رومانيا، يتحدث ي.م. سيوران E M Cioranوبفصاحة عن الكيفية التي تعمل بها هذه الهيمنة في ممارستها عملية الإقصاء:quot; عليّ ان اعترف اني مرة وجدت الأمر مشيناً ان انتمي إلى دولة عادية، إلى تجمعاً من الضحايا، لا يسمح للأوهام أن تحوم حول اصلها. وقد اعتقدت، ولم اكن مخطئاً، باننا خرجنا من جحور البرابرة، من حثالة الغزوات الكبرى، من تلك القبائل التي، بسبب عجزها عن مواصلة سيرتها غرباً، انهارت على طول Carpathians والدانوب، جاثمين هناك بتكاسل ؛ حشد من الصحراويين عند حدود الإمبراطورية ملطخين بمسحة من اللاتينية.. مع ذلك الماضي وهذا الحاضر وذلك المستقبل، يالها من عقوبة أنزلت بكبرياء شبابي ! quot; كيف للمرء ان يكون رومانيا؟ quot;، كان هذا سؤالاً لا املك الإجابة عنه الا بشعور دائم بالخزي quot; (سيوران: 1978). إن هذا الشعور بالخزي هو ما يشعر به جميع ضحايا هيمنة الغرب.
أما النهضة، بوصفها quot; ولادة جديدة quot; ؛ quot; بعثاًquot;، فقد أعطت الثقافة الغربية سماتها المميزة التي أدامت تطورها التاريخي، وكانت نفسها مترسخة ضد الثقافة الأوروبية السائدة التي شجبتها وجعلت منها quot; آخرquot; من خلال الحقبة القروسطية التي سبقتها بصفة quot; العصور المظلمة quot;. وربما يمكن الشك في ما إذا كانت هذه الحقبة عصراً مظلماً حقاً، لكن تبقى الحقيقة هي ان حقبة النهضة أحدثت تحولاً قاطعاً في الوعي الذي اشترط، إن لم نقل حدد، حساسية العالم الحديث جوهرياً. ويعنى أكثر جوانب هذا التحول تجسداً بما يمكن ان نطلق عليه تسمية quot; العلاقات المكانية quot; بين الناس، الا اننا معنيون الآن بعلاقة ذلك بالإدراك الثقافي. لقد كان المجتمع الأوروبي القروسطي تراتبياً ويدعم الركود. كان منبنياً بوصفه كلاً مغلقاً على ذاته، لكل عنصر فيه مكان محدد. ولما كان تراتبيا في كل شي، كانت حركته تصاعدية مع ترك القمة للمعبود الأسمى في العقيدة المسيحية القروسطية. وقد ادامت النسيج الاجتماعي التزامات متبادلة كانت تعكس نظاماً كلياً: الفلاحين يوفرون الثروة لرجال الدين والارستقراطية العسكرية التي تمدهم، بالمقابل، بالحماية الروحية والعسكرية، واعتمد هذا التوازن على افتراض ان تراكم رأس المال يعدّ شراً، شيئاً مغلفاً بفكرة الربا ـ أي بعبارة أخرى دافع الربح ـ بوصفه من الخطايا في القانون الكنسي. وان الحركة ضد هذا التوازن كانت سمة تأسيسية بارزة في ما نطلق عليه الفكرة الغربية. وبدأ توازن المجتمع القروسطي ينهار بعد حام الشك حوله عند بروز مدينة البندقية بصفة مركز تجاري وما اعقبه من ظهور الطبقة التجار التي تعتمد على تراكم رأس المال. وبالتدريج اخذ دافع الربح يتمأسس ويصل في النهاية ليكون السمة الاقتصادية المعرِّفة للنسيج الاجتماعي. ومثلما اشار فيبر، فان الانقسامات التي حصلت في الكنيسة ونهضة البروتستانتية قد مكنت من التقاطع مع أيديولوجيا الكنيسة القروسطية وفكرة التراتبية التي جاءت بها والتي شجبت تراكم رأس المال والمشاريع الفردية.
لكنها النهضة هي التي أوجدت الشروط التي مكنت من حصول هذه التغيرات والاهم من ذلك انها التي هيأت الشروط لتحول جذري في العلاقات بين الفرد والمجتمع ؛ فقد ازداد نطاق المبادرة الفردية إلى حد كبير وما عاد الفرد بحاجة إلى الشعور بالتوحد التام مع نط الثقافة، وانه جزء من كل جمعي تعمل أجزاءه مرتبطة ببعضها البعض، بل افترض الفرد امتيازاً لنفسه. وبدأت مسؤولية الفرد إزاء المجتمع مبتعدة عن أنماط الالتزام المتبادل والأمن الذي يميز الإقطاعية. وبدلاً من ذلك تم تشجيع الفرد على اتخاذ مبادرته وان يعمل إلى حد ما، على ربحه الخاص. واقتضت دينامية الرأسمالية مبادرة الفرد وسعيه ولهذا فقد منحته القدرة على تحديد مصيره بطريقة لم تسمع عنها الحقب الماضية.
لقد ادى هذا الاحتفاء بالفرد إلى النزعة الإنسانية وإلى تصور جديد للبشرية. وقد يقال ان اكتشافات الغرب العلمية كانت متكهنة بسبب هذا التغير في الوعي. فبينما كان الفرد في السابق يحتل مكاناً ما في طبيعة الأشياء ويقبل العيش ضمن علاقة رمزية مع الطبيعة، كان على أيديولوجيا النهضة ان تدشن (او توجد الشروط التي تحقق) منظوراً للإنسان بوصفه اسمى من الطبيعة ولديه القدرة على السيطرة عليها.
وقد تجلى تصعيد قدرات البشرية في مجالات الحياة كافة مما أدى إلى إنجازات علمية ميزت المجتمع الغربي خلال السنوات الخمسمائة الماضية، كما قدمت الأسس اللازمة لاستكشاف أراض جديدة واحتلالها. وبهذا الصدد نقول انها مبنية على روح قروسطية أحيت الصليبيين. وقد استندت قناعة كولومبوس على هذه الحقيقة، اذ يشير تزفيتان تودوروف قائلا: quot; إن الأرباح التي quot; لابد من quot; ان تكون هناك لم تثر كولومبوس الا بالدرجة الثانية ؛ فما يهمه هو quot; الأراضي quot; واكتشافها. ويبدو هذا الاستكشاف في حقيقته خاضعاً لهدف هو سرد الرحلة البحرية: قد يقول افرد ان كولومبوس تولى هذه المهمة ليتمكن من سرد قصص لم يسمع بها أحد من قبل، مثل عوليس [يوليسيس] لكن، ألم يكن سرد الرحلة هو نقطة مغادرة ولا هو نقطة وصول، الرحلة البحرية الجديدة ؟ quot; (تودورف، 1984:13). لقد كان كولومبوس حداثيا بمعنى انه، بوصفه فرداًن كان يتوق إلى استكشاف الأراضي الجديدة وفتح الآفاق. ومع ان ارباح تلك المغامرات ربما أغوت كولومبوس بالدرجة الثانية، فانه من دون هذا الاهتمام الثانوي، الذي سرعان ما غلب وصار الاهتمام الرئيس، لعل مثل هذا الاستكشاف كان سيكون مستحيلاً.
ولابد أيضاً من ان ننظر إلى توسيع الآفاق في الفنون، وبالدرجة الأساس في اختلاف منظور ما يعمق الصورة التي يمكن خلقها داخل اطار محدد، بوصفه quot; احتلالا للواقع quot; الذي قدم نافذة على العالم تعكس الدافع الخارجي للمجتمع الغربي. وما عاد الدافع تصاعديا، بل خارجيا، وأشد، نحو الأفق الذي يتعرض لمزيد من الضغط. فإن كانت هذه هي سماته الأساسية، فانها لم تتطور تلقائيا من فراغ لتشكل، مرة وإلى الأبد، ما يمكن ان نطلق عليه تسمية quot; فكرة الغرب quot;. كما لايمكن القول ان أساس مثل هذه الأفكار لم يكن حاضراً أصلاً داخل المجتمع قبل النهضة. تعقب ادورنو وهوركهايمر الأفكار الأساسية لأثينا القديمة ووجداها حاضرة في الاوديسة تحديداً، ولهذا السبب فإننا عندما نتحدث عن quot; الثقافة الغربية quot; نحتاج إلى أن نعي كونها تطورت ببطء على مر السنوات، وبوصفها امكانية لتطور مجتمع بين كثير من المجتمعات ولا يمكن تصورها الا بوصفها كياناً حينما نتمعن فيها من زاويتنا نحن. انها لا تتمتع بواقع عيني عدا ما نجده في العلاقات التي أسستها، كما لا يمكن ادراكها عدا كونها خط تطور لا متبلور ينطوي في داخله على تناقضات لا تعد ولا تحصى. وربما تكون هناك توجهات معينة مرغوبة لها في اوقات معينة لكنها تنال الرفض في أوقات أخرى. ومع ذلك فهي حقيقية للاسباب كلها. انها تتخذ شكل quot; المسخ quot; ـ مثلما وصفها بيير مابيل Pierre Mabile ـ لأنها كتلة ذات وحدة ديالكتيكية تمسكها معاً اجزاءها المكونة لها لكنها تشكل شيئا هو ليس حاصل تلك الاجزاء. وإن تمتعت بالأهمية، فهذا سببه إحساس الموقف الحديث الذي يواصل تحديد وتوفير ارث مشترك يربط الثقافات كلها اليوم.
ان كياناً ثقافياً مثل quot; الغرب quot; يتطلب شيئا يمكن إزاءه إبراز نفسه بالطريقة ذاتها التي يفعلها الفرد مع نفسه: انه لا يكون موجوداً في ذاته ومن ذاته. وبالضبط مثلما ان النهضة ـ التي وفرت الاسس للأفكار التي يمكن تعريفها اليوم بانها ثقافة الغرب ومثلت بعثاً للوعي الكلاسيكي ـ لابد من تتبعها بطريقة تقارنها quot; بالظلام quot; المفترض للقرون الوسطى، لهذا فان فكرة الغرب quot; تتضمن افتراضاً عن quot; اللاغرب quot; Non-West: يتضح في الاصطلاحات الجغرافية انها محدودة إزاء الشرق، وإن كان يقصي ما يقابله من نقطتي quot; الشمال quot; و quot; الجنوب quot; الجغرافيين. quot; الشرق quot; هو الأهم لأنه مع آسيا أسست أوروبا لنفسها علاقة هي الأقوى تاريخياً. وبوصفه كياناً طارئاً يتم تعريف واقع quot; الغرب quot; على وجه الخصوص عبر مقابلته بكرة quot; الشرق quot;. وقد توطدت هذه العلاقة تاريخياً بالطريقة نفسها التي يصف فيها لاكان بناء الفرد: فالغرب لم يتولد ذاتيا، بل شكَّلَ نفسه من خلال خلق رغبة أسقطها عليه quot; الآخر quot;بصفة ارادة إلى بناء الذات وفي الوقت نفسه رغبته بأن يعترف به ذلك quot; الاخر quot;. وبالمقابل، لم يتشكل الشرق الا من خلال الاسقاط المرن من الغربي نفسه ولهذا السبب فانه بينما كان هناك القليل ليتم ازاءه تعريف الثقافة الصينية، مثلا، بالثقافة العربية بطريقة لها معنى (و العكس صحيح) فانهما اكتسبا هوية بوصفهما ثقافيتين quot; شرقيتين quot; بحكم علاقتهما بالغرب. وبالمقابل أيضاً، تشكل مفهوم quot; الغرب quot; بوصفه كياناً يتجاوز مكوناته ولهذا فان الثقافتين البريطانية والإسبانية، على سبيل المثال، صارتا مقترنتين معاً بسبب هذه التسمية. وبهذه الطريقة اكتسب quot; فكرة الغرب quot; شكلاً بوصفها كياناً ثقافيا قوياً له جذوره التاريخية.
وإن تعذر وجود quot; فكرة الشرق quot; مشابهة [لفكرة الغرب]، فهذا سببه أن شعوب آسيا لم تخض نوعاً من المغامرة الإمبريالية التي بدأت حينما شرع كولومبوس من اسبانيا باستكشاف طريق التجارة الغربية إلى الانديز. وقد كان quot; الشرق quot; متشكلاً، بسلبية، بوصفه ما هو غير غربي، وليس بما هو سمة واقع ثقافات آسيا. انه تعبير لا يعبر عن الذات، بل تعبيره انكسر [مثل الضوء] بفعل تعبير الآخر عن ذاته: ان الشرق (الذي يأتي بصفة انعكاس للغرب) لا يوجد الا كجزء من بناء الاول ولا توجد خصائص تعريفية له تكون مسؤولة عن تحديد هويته. فإذا كانت فكرة الغرب لا متبلورة، فان الأفكار التي تشكل quot; الشرقquot; هي كذلك، ان لم نقل انها ربما أكثر من ذلك.
ومثلما بين ادوارد سعيد، فان الغرب بنى quot; الشرقquot; في ضوء تمثله السلبي بوصفه وسيلة للسيطرة الثقافية والإمبريالية. واصبح الشرق بمجمله مكاناً يرغبه الغرب، مكاناً للرومانس، للاحداث المتميزة، للأديان الملغزة والأفكار الساحرة، وكذلك بوصفه ملاذاً من كل الضغوط المتشكلة مما هو غربي، ومما يبعث على المفارقة انه صار أيضاً موقعاً لكل ما يرفضه الغرب: فهو رجعي وبدائي ومتفسخ. كان لابد من أن يحمل الصفات كلها التي لا يريدها الغرب. وهذا حال التشكلات الثقافية كلها: فكل واحد منها يؤسس ما هو عليه من خلال سيرورة التضمين والاقصاء. انه يتبع مساراً كلاسيكياً لعلاقات الذات والموضوع التي ترسخ ايديولوجيا الهيمنة المتجذرة في العلاقة الكولونيالية. ويشرح سعيد ذلك بوصفه خطاباً منحرفاً تماماً ضروري لممارسة السلطة على الشرق. وهو يرى انه quot; توزيع للوعي الجغرافي إلى نصوص جمالية وبحثية واقتصادية وسوسيولوجية وتاريخية وفلسفية، انه توسيع للفرق الجغرافي الأساس (بين نصفين لا متساويين هما الشرق والغرب ولا ريب)، بل لسلسلة كاملة من المصالح. أي انها رغبة معينة او قصد لفهم، وأحياناً للسيطرة، وفبركة وحتى دمج عالم مختلف تماماً. لقد تشكل بوصفه خطاباً بلا واقع مادي بل كان quot; طرازاً غربياً للهيمنة على الشرق واعادة بنائه وفرض السيطرة عليه quot;.
الجدل الذي يقدمه سعيد سيئ، ومنهجيته مشتبه بها، كما ان معالجته للحقائق متعجرفة. وفي الوقت نفسه نجده يضرب على عصب مكشوف. وأن الكثير من النقد الذي تلقاه كان دافعه العواطف بقدر الجدل الفكري، كما افاد ـ سلبيا أم ايجابيا ـ في تعريف طبيعة واتجاه الجدل الذي أعقبه، وأفاد أيضاً في تزويدنا بمتاهة الدراسات ما بعد الكولونيالية التي مالت إلى إرساء مسار الجدالات الراهنة التي تخص العلاقة بين الثقافات. ومع احتمال ان تكون قضايا ما بعد الكولونيالية قد تطورت بطريقة ما حتى وان لم يكن سعيد قد نشر quot; الاستشراق quot;، لما كان له أن يتخذ الشكل الذي اتخذه من دون ذلك. لقد أفاد الكتاب بتشكيل خطاب مغلق يمكن تحليله باصطلاحي السلطة والمعرفة الفوكويين. ان الضعف الحقيقي للكتاب ليس منهجياً بل فلسفياً ؛ فقد تجاهل سعيد، وإلى حد بعيد، المحددات الفلسفية لعلاقات الأنا / الآخر في تركيزه على quot; الاستشراق بوصفه مثالا خاصاً عن الهيمنة الغربية، من دون فصل خصوصياته، بمعنى آخر انه لم يميز العناصر الأساسية المتشكلة حتماً في سيرورة أي اتصال بين الثقافات من عناصر معينة حددت الأفهام الغربية للشرق.أثار سعيد إشكالية علاقات الذات والموضوع من دون دراسة آلية العلاقة نفسها فأخفق في الاعتراف بانها علاقة مادية، وانهار تحليله لهذا السبب، ليتحول إلى مثالية. ان التصور الذي طرحه سعيد بوصفه quot; استشراقاً quot; كان ولا شك وسيلة هيمنة، الا ان هذه سمة ثانوية لا أولية.لم تكن بارزة بوعي ـ مثلما ظن سعيد ـ بل ظهرت كجزء من سياق طبيعي لعلاقة ظاهراتية يتفاعل فيها السيد والعبد بطريقة تتناغم مع تحليل هيغل لتطور الروح. ومع ذلك يغفل سعيد مثل هذا التحليل، ويفضل النظر إلى الاستشراق بوصفه شيئا مُقتلع من مناخه ليخدم السلطة الاستعمارية.
ويحط، في الكتاب، من قدر العلاقة، وبالتالي يقوده تحليله إلى طريق مسدود يصبح فيه الإدراك الحسي متحدداً بالاستشراق بدلاً من العكس. وهكذا نجده مضطراً إلى إنكار عنصريّ التبادل والتكافل اللذين لا ليس فيهما. واللذين ينبغي ان يكونا ضمن هكذا علاقة، كالتي بين الثقافتين الغربية والشرقية، ما جعله يحول خطابه الناتج إلى مستوى الإلغاء المنحط للاتصال: تصبح العبارات الصادقة مستحيلة، ويكون التمثل سوء تمثل دائما ولا شيء موجود خارج نطاق علاقات القوة. وهكذا لابد من الاعتراف ان هذا ضد مقاصده الشخصية لأنه يفيد في غفران الحاضر وتوجيه اللوم لماض تجريدي. لقد أفادت السيرورات العالمية ـ التي كانت في حالة حركة منذ صدور الكتاب ـ في التركز على أهمية هذه القضايا وسلطت الضوء على الإشكالية الخطيرة جداً في صميم الكتاب.
لقد أدى نقد سعيد في كتابه الاستشراق إلى المفهوم القائل اننا نعيش في مجتمع quot; ما بعد كولونيالي quot;. ان هذه الكلمة الطنانة ـ ما بعد الكولونيالية ـ اكتسبت تداولاً مع مفهوم العولمة واثارت اشكالية في ايحائها باننا في موقف هو وراء الكولونيالية. هل يمكن تأكيد ذلك حقاً في الوقت الذي يتضح فيه ان علاقات القوة التي دامت اثناء العصر الكولونيالي ومازالت راسخة في مكانها، بل هي أقوى تماماً مما كانت عليه اثناء العصر الكولونيالي، تستطيع تحديد الأشكال الثقافية في العالم اليوم ؟ فإذا ما وصلت الكولونيالية المباشرة إلى نهايتها لانها ما عادت قابلة للبقاء في مجتمع ما بعد الحرب، فان هذا يخفق في تحقيق تغيير أساسي في العلاقات بين المجتمعات في العالم المعاصر. فضلا عن ذلك، مع انهيار إطار الإمبراطوريات الكولونيالية الذي تم تشييده أساساً في القرن التاسع عشر انهياراً تاماً، فان هذا مرده ان مركز تلك الإمبراطوريات، أي أوروبا الغربية ـ ولا سيما انهيار أساس فرنسا وبريطانيا نفسه. ان مركز الثقافة الغربية، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، لم يكن القوة الأوربية بل الولايات المتحدة التي لم يكن لديها امبراطورية كولونيالية بالمعنى الرسمي. ولهذا السبب يبدو ان ثمة شيء غير سوي تماما، عند الحديث عن ما بعد الكولونيالية ما لم ينظر المرء من منظور كون الولايات المتحدة نفسها مجتمعاً ما بعد كولونيالي. وهو كذلك بالمعنى الدقيق، اما في الواقع فهو امر مضحك لان الولايات المتحدة قد سبقت، ومنذ زمن بعيد، أي إحساس كولونيالي بالتحول إلى مستودع لما يمكن ان نطلق عليه تسمية quot; فكرة الغرب quot;.
فهل بمقدور هذا المفهوم ان يتضمن واقع العالم الموجودون نحن فيه اليوم ؟ انه يثير سؤال عن ما تعنيه الهوية الثقافية في الزمن الذي نعيش فيه الآن. هل يهم اننا إنكلير او صينيون او أرجنتينيون ؟ إلى أي مدى ما زلنا نشعر بالانتماء إلى جماعات ثقافية محددة او اننا جميعنا صرنا جزءاً من النسق الثقافي نفسه ونشترك بالقيم الثقافية نفسها ؟ وإذا صرنا جزءاً من ثقافة واحدة، هل سيرضينا ذلك ؟ كان هدف الإنسان الأساس في الماضي هو تضييق الاختلاف. لقد عشنا في مجتمعات مغلقة ولا يسمح لنا بالاتصال خارج نطاق حدودها الا وفق شروط معينة. ربما تكون دينامية المجتمع قد انبنت على الاختلاف الجوهري في مستويات كثيرة مما تعطي المجتمعات الاقدم نسبة كبيرة من المغايرة على الصعيد المحلي لكن ذلك على حساب تضييق التطور الخارجي، والعكس يحصل تماماً في موقفنا الراهن: اذ يعمل تعزيز التنوع والاختلاف على المسرح العالمي على شحذ التماثل في الإطار العام، وقد ادى ذلك إلى تكاثر سياسات الهوية التي لا تؤكد كثيراً على الحق بان تكون مختلفاً، بل تؤكد تقريباً واجب الاحتفاء بالاختلاف وعلى حساب التراث الثقافي وثبات القيم التي تسمح بالتغاير الحقيقي. ان الهدف المحدد جليّ تماما: خدمة مصالح المجتمع المكرّس إلى نشر الاستهلاك وفتح الاسواق بطريقة كانت دائما ما تسم الرأسمالية والتي وصلت اليوم إلى ذروتها في الكوزموبوليتانية التي تهيمن على الخطاب الراهن.
وقد ذكر الأنثربولوجي جيمس فارس Jamis Faris ان من الضروري ان تتمثل مهمتنابـ quot; طمس الآخرية مع الإبقاء على الاختلاف quot;. ربما هذا هو الذي يعرف، بأفضل صورة، خلاصة العقيدة ما بعد الكولونيالية لكنه لا يمثل المهمة الحقيقية لأي شخص معني بالتكامل الثقافي بالطريقة المعكوسة: علينا ان نطمس الاختلاف مع الابقاء على الآخرية. وهذا ببساطة، لان الاختلاف الثقافي غير موجود. كل الثقافات متماثلة جوهرياً، وإن كونك إنساناً ينطوي على مشاركة ثقافية ثابتة نسبياً: جميعنا نحتاج الحب والجمال والمعرفة. ومع ذلك تعدّ أبنية ا