عبد الرحمن الماجدي من أمستردام: تكشف رواية quot;تحت سماء كوبنهاكنquot; للكاتبة العراقية حوراء النداوي عن حياة العوائل العراقية في مااصطلح على تسميتها بدول اللجوء في اسكندنافيا وغرب أوربا. حيث تتضح الازدواجية القسرية في حياة معظم الاسر التي تنشد الأمان ضمن قطيع من نفس الاثنية التي كانت تشاطرها العيش في الوطن. وتسعى لتأسيس خطير في حياة أبنائها المولودين، أو الذي تربوا، في تلك الغربة للآباء والوطن لهؤلاء الأبناء الذين لم ير معظمهم الوطن الأم لذويهم.

وضمن إلحاحات تلقين الأبناء التي تجهد الاسر المغتربة بها لايلتفت الآباء للازدواجية الخطيرة التي ستطيح بنفسية وذهنية هؤلاء الأبناء المساكين الذين يفكرون بلغة وثقافة البلد الاوربي الذي ولدوا وترعروا فيه فيما يريد منهم ذووهم الركون لثقافتهم الخاصة وعدم الانجرار للثقافة الغريبة، التي يمتدحونها أمام أهل البلد ويذمونها في أحاديثهم الخاصة وسط استغراب الأبناء من هذا النفاق الذي لايرون مبررا له من قبل الآباء.

وقد درجت معظم، إن لم نقل جميع، كتابات السير الروائية للأدباء العراقيين المغتربين في الدول الاسكندنافية وماجاورها ضمن ثقافة الآباء حيث تكونت براعم الوعي الوجودي لهم في الوطن وماجاوره. فجاءت نتاجاتهم بكائية حينا وسردية ومتواصلة مع كتابات الوطن حينا آخر تمر معظمها بالصدق مرورا وشيكاً بل ربما تعثـّر بعضها بالصدق تعثـّراً!

من هنا تاتي أهمية رواية حوراء النداوي quot;تحت سماء كوبنهاكنquot; المكتوبة بلغة أوربية حبكة وتقنية وتفكيراً.
فما يميزها مباشرتها وسلاسة وصدق عبارات بطلتها التي بالتاكيد تقترب من شخصية كاتبتها، وفق التحليل النفسي، خلال فترة كتابة الرواية على الأقل.
وهي تفضح الازدواجية التي تعيش بها أسرة هدى (بطلة الرواية) فالأم التي كانت تهرب من شرطة الآداب في العراق أبان السبعينيات بسبب اردتائها الميني جوب، سترتدي الحجاب في الدنمارك وتطلب من بناتها فعل الامر ذاته؛ محاولة ستر فضيحة الأب الذي لايكف عن شرب الفودكا التي لايقوى على إظهار زجاجاتها، التي يشتريها يومياً، أمام أعين الجيران من العراقيين، الذين لم تسلم هذه العائلة من تصنيفها من قبل جارهم أبو حسن، الذي يطرد الصغيرة هدى من بيته معنفاً ابنته التي أتت بها لهم quot; أشر من الدنماركيات.. اذا كان هؤلاء أهلها، أب سكير وأخت ساقطة، وأخ عابث، أقطع ذراعي إن لم يكن بعثياُ.quot; ص 73.

هذه الكلمات الجارحة انحفرت في ذهن هدى التي ستكره كل هذه الاسرة بمن فيهم ابنهم رضا الذي لاتكف عن تعنيفه برغم التصاقه بها فارضاً عليها، بإلحاحه السمج، صداقته وحمايته لها في المدرسة وخارجها. دون أن تفسر سبب تواصلها معه، مع الاهانات التي لا تكف عن إمطاره بها. فهي منحته شفتيها اللتين سيلتقمهما غير مصدق quot;لم أتعمد حقا الاقتراب منه لكني اقتربت كثيراً، دون إرادتي ثم أغلقت عينيّ وكتمتُ أنفاسي لأمس بشفتيّ، لمسة طفيفة، أظنها كانت جبانة.. لكن رضا- وقبل أن أعي تماماً- التقم بدوره شفتي وصار يسكب لعبه القذر في فمي.. فوجئت! شفتاه الرفعيتان تضخمتا، وخيل اليّ أنه سيبتلع رأسي بأكمله.. لم أقاومه ولم أستسلم.. كنت أفكر.. في خضم كل هذا كنتُ ما أزال أفكر..quot; ص 217.. لتهرب منه وهي تشتمه مستسلمه لحالة من الغثيان.

تشبه نهاية هذا المشهد الروائي التطهري ما حصل لبطل رواية quot;الفتيت المبعثرquot; للكاتب العراقي المقيم في مدريد محسن الرملي حين استجاب بطل الرواية في صباه دون وعي ظاهر منه لرغبة قريبه الشاذ جنسياً فأدخل اصبعه في دبره، ليبقى أياماً يغسل اصبعه مرات في اليوم، ويظن أنه مازال نجساً مع شعور بالذنب لم يفارقه.

هذا الفعل في quot; تحت سماء كوبنهاكنquot; من قبل البطلة هدى له مايشبهه من تبريرات غير مكتملة لم تنجح في إيصال تفسير لعدد من الأفعال. فهي لاتكف عن تكرار وصف شكل الفتى كلاوس الذي كانت تحب اللعب معه في المدرسة وهو يهرب منها لأن جدته أخبرته أن لا يتزوج من فتاة سوداء وبما أن شعرها أسود فهي سوداء. كلاوس الذي تصفه لنا بالقذارة التي كانت تميزه كانت بهجتها الطفولية quot; ولن أنسى بالطبع صفة كلاوس الأهم. قذارته، ثيابه قذرة وغير متناسقة، أنفه قذر، يداه قذرتان، ألفاظه قذرة، ورغم كل القذارة التي كان عليها، كان كلاوس بهجة طفولتي المبكرةquot; ص 27.

ثمة تشابه في بعض الصفات بين كلاوس ورضا لم تكشفه الكاتبة أو البطلة التي لاتكف عن الانتقام من خيبتها بكلاوس وعنصريته التي صدمها بها حد أنها ضربت أخاه نيكولاس ضرباً مبرحاً في المدرسة حين كبرت، وأكملت على رضا بعد ذلك بسنوات بوجبات الإهانة دون سبب معلموم. ولعل تسليم رضا شفتيها هو تسليم لكلاوس الذي ردها في الطفولة شر رد. فكانت نوبة غثيانها من لعابه الذي يحيل لقذارة كلاوس، الذي كان لعاب أنفه لايكف عن ملامسة شفتيه. ويشترك مع رضا في بعض صفات الشبه الخلقي مع كلاوس من شعر أشقر وعينين ملونتين وفم بلعاب متواصل يمكن ملاحظتها خلال تتبع شخصيات الراوية.

الرواية تندرج ضمن راويات التقنية الحديثة، فهي تعتمد في سير أحداثها على الانترنيت والمسنجر والهاتف النقال. اذ كانت أحداثها عن طريق رسالة الكترونية تصل من هدى لرافد الذي كان يعمل مترجماً تطلب منه ترجمة فصول روايتها من الدنماركية للعربية التي لاتجيدها الا محادثة. لتكون فصول هذه الرواية هي ذات الرواية quot;تحت سماء كوبنهاكنquot; التي يروي بعض فصولها رافد الذي تعشقه هدى عن بعد قبل أن تفاجئه في محطة البنزين quot; رافد؟ أنا هدى!quot; ص 178 و 392. حيث يرويان كلٌ من جانبه قصة اللقاء ضمن فصول الرواية التي أدخلها برتابة ما هذا التوزيع العادل بين البطلين في سرد كل واحد فصله بالتوالي. وكان للحشو الوصفي الزائد الذي استغرقه سرد رافد لمشاعره طويلاً دون ان يقدم خدمة مهمة للراوية.

توزيع الرواية لعشرين فصلاً هي ماكانت ترسلها تباعا هدى عبر الايميل لرافد أظهر تقسيما رتيبا وضعفاً كان ممكنا تجاوزه بالخروج من توزيع السرد بين البطلين حنبلياً. خاصة في الفصلين السابع والتاسع اللذين نجحت الفصول 14 و15 و16 في تجاوز فصلهما القسري. فهذه الفصول حددت معالم القصة بتوزيع ممتع تمهيدا وتوضيحاً.
التركيز على البطلين هدى ورافد ومعهما زينة جعل بقية الشخصيات تبدو ضبابية أو بالأحرى شخصيات غير مكسية بلحم ودم. كوالدي هدى وزوجة رافد شذى وقبلهم نخيل شقية هدى.

لكن حتى هذا التركيز اضطرت معه الكاتبة للتوصل لحيلة تقنية ذكية بأنها ستخرج عن المألوف في السرد الروائي وتكشف النهاية مبكراً. لكن حتى هذه الحيلة بددتها عدالة تقاسمها بين البطلين فرافد أيضا وجد مخرجا مستعجلا لنهاية الرواية باتخاذه قرار عدم ترجمة بقية فصولها واصراره على قراءة الفصل العشرين؛ آخر فصولها، الذي قرأه لنا ليسدل به الستار على هذه الرواية الجديرة بالقراءة.

وقد حجبت عنا هذه النهاية المستعجلة مصير علاقة هدى بالدنماركي الخمسيني quot;توربنquot; الذي واعدها تحت ساعة محطة كوبنهاكن ليتناولا الغذاء معا ويصحبها للفندق، كما أخبرها بالمسنجر، الذي أدمنت على محادثته، خلاله، ساعات يومياً. فحين ترددت من الاقتراب منه عندما ذهبت لملاقاته خاصة بعد أن شاهدت، صدفة، رافد الذي ظهر كحام غير مباشر لها من توربن. لم يعد له أثر في الرواية أو حتى أشارة له.

وعودة لمشاعر البطلة هدى وهي تسرد قصة شقيقها عماد الذي وصل من العراق يافعاً بعد أن ولدت هي واختها نخيل في الدنمارك شكل صدمة وضميراً أعلى أخذ يتشكل في لاشعورها. فباتت مشاعرها الباردة تجاهه غير مبالية بزواجه في نهاية الرواية من صديقتها زينة التي كانت مفتاحها للولوج للحياة البعيدة عن البراءة خارج منزلها. فبالرغم من التجارب الكثيرة التي لدى زينة مع الذكور منذ سن العاشرة وعلاقتها معهم لاحقا لم تعترض هدى عى زواج أخيها عماد بها قائلة أن عماد كان ثمنا للتخلص من صديقتها زينة quot;سبق أن قلت بأن زينة كلفتني الكثير لأتخلص منها.. حقاً كلفتني أخاً بشحمه ولحمهquot; ص381..

وهو تبرير لايمكن استساغته الا اذا وجدنا أن زينة التي لم تخف هدى مشاعر الريبة منها القريبة منها في بعض الأحيان ستكون شاغلاً لأخيها عنها واستحقاقاً له وهما الخؤونان لتقاليد اسرتيهما فيما قبل الزواج بعلاقات جسدية خارج نطاق الزواج كان لقاؤهما عن طريق هدى فرصة لجمع تشتتهما الجنسي.

الرواية خلت من أي إثارة جنسية دأبت عليها الكثير من الروايات التي ينشد كتابها شهرة سريعة لكنها عالجت مسألة مهمة جداً هي حياة الاجانب وأبنائهم وتحديد هوياتهم في المنافي الأوربية.

وتأتي أهميتها في ان كاتبتها تندرج مايكن وصفه بالجيل الثاني للمغتربين العراقيين في الدنمارك الذي سيؤسس لأدب المهجر العراقي الذي هو ادب الخارج الحقيقي لا الادب الذي يكتبه أدباء عراقيون مغتربون بأجسادهم فقط فيما ظل وعيهم وادواتهم المعرفية متواصلة ومتشابهة في بعضها لأوادت أدب الداخل.

فالكاتبة حوراء النداوي غادرت العراق مع أسرتها في سن السادسة لأسباب سياسية. نشأت في الدنمارك وتعلمت اللغة العربية في المنزل. وهي تنمتي لجيل عراقي مهجري؛ جيل يعتمد على الانترنيت ورسائل الهاتف النقال في التواصل. ويتحدث ببراءة عن فتاة quot;تستطيع أن تدبك دبكة لبنانية وتستمع لمطربة اسمها فيروزquot;. ولايكف عن استخدام السي دي بلير او آي بي فون مع سماعتي الاذن في الاستماع والاستمتاع بأغاني غاري بارلو وبريتيني سبيرز. لكن يتحدث بذات البراءة عن تكعيبية quot;بيكاسوquot; التي تجعله لايثق بحدة بصره الابداعي إذا ماكان الحول الذي شوه به عيني حبيبته نافذة له، لأنه هكذا رآها لحظة تقبيلها. مفضلاً عليه quot;مونيهquot; لانطباعيته المتطرفة. هو ببساطة جيل أفلت معظم أبنائه من سطوة الأنا الأعلى التي قيدت من ولدَ أو تربى في العراق أو سواه من البلدان العربية.

لعل رواية quot; تحت سماء كوبنهاكنquot; تكون ممهدة لأدب المهجر العراقي الذي قد يكون شبيهاً بأدب المهجر اللبناني والمغاربي الذي قدم أسماء وأعمال أدبية مهمة للعربية وبقية اللغات الحية.

وهي أيضاً رواية تشكل دخولاً محمودا للمرأة في هذا الجنس الأدبي المغترب، وكسراً لحاجز الذكورة الذي يكاد أن يتأطر به مجتمعنا العراقي.

رواية quot; تحت سماء كوبنهاكنquot; من إصدار دار الساقي في بيروت لعام 2010 من القطع المتوسط في 392 صفحة.