صالح كاظم من برلين: حين وقع إختيار المنتج ادوارد جي بريسمان على المخرج فيرنر هيرزوغ لإعادة إنتاج quot;الملازم السيئquot; الذي سبق أن جرى إنتاجه تحت إشراف المخرج الأمريكي ايبيل فيرارا وتمثيل هارفي كايتل لم يخطر على باله أن منهج هيرزوغ يختلف جذريًّا عن المنهج السايكولوجي الذي يميز أغلب أفلام فيرارا، وذلك من خلال متابعته لشخصياته من منظور وجودي، لا يقتصر على حدود العلاقات الإنسانية في إطارها الإجتماعي، بل يتجاوز ذلك من خلال معالجة علاقة الفرد بالطبيعة والتحديات التي تطرحها عليه هذه العلاقة، من هنا فقد جاء إختيار هيرزوغ لـ quot;نيو أورلينزquot; لتكون في قلب الحدث بما تمثله من رمز للكوارث البشرية من خلال تعرضها لإعصار quot;كاتاريناquot; متماشيًا مع نهجه السينمائي الذي عودنا عليه خلال عشرات السنوات الماضية، فعلى العكس من هارفي كايتل في فيلم فيرارا، نجد أن سلوك quot;الملازم السيئquot; في هذا الفيلم جاء في الأغلب نتيجة إصابته بجروح شديدة، بعد أن تمكن من إنقاذ واحد من ضحايا الإعصار. من هنا فإنّه مضطر لتناول المهدئات التي سرعان ما تقوده الى الإدمان على المخدرات والسقوط في شبكة من الفساد المادي والمعنوي أثناء ملاحقته لتاجر المخدرات بغ فيت، المتهم بتصفية عائلة كاملة لمهاجرين أفارقة بشكل وحشي (في فيلم فيرارا يضطر هارفي كايتل بسبب ديونه وإدمانه على المخدرات لملاحقة قتلة راهبة بهدف الحصول على مكافأة مقدارها 50.000 دولار)، ومن خلال هذه الملاحقة يواجهنا المخرج مع الوجوه المتعددة لبطل الفيلم الذي يؤدي دوره نيكولاس كيج الذي عرف خلال السنوات الأخيرة بمشاركته بعدة أفلام لا تستحق الذكر، فجاء تكليفه بهذا الدور من قبل هيرزوغ فرصة له لتقديم عمل يصل الى ما انجزه سابقًا وما توجه بفيلم quot;مغادرة لاس فيغاسquot; الذي حاز من خلاله على الأوسكار لأفضل ممثل. في هذا الفيلم يرتقي كيج الى مستوى رفيع من الإنغمار في دواخل هذه الشخصية المتعددة الأبعاد، حتى قال عنه هيرزوغ quot;كان أداء كيج لدور شخص مدمن على المخدرات مقنعًا الى حد اني طلبت من المسؤول عن تنفيذ الحيل السينمائية أن يعمل على منع تسريب الكوكائين الى الستوديو. فأجابني بأن ما يستخدمه كيج ليس كوكائين، بل سكر..quot;. وتتخلل الفيلم مشاهد باهرة لإعصار كاتارينا، كما يفاجأ المشاهد بحضور غريب للتماسيح والسحالى في مكاتب البوليس وشوارع المدينة.
المخرج الألماني فيرنر هيرزوغ هو واحد من ممثلي التيار الحداثي في السينما الألمانية الذي أطلق عليه مصطلح quot;سينما المؤلفquot; وأحيانًا، بشكل أكثر دقة quot;السينما الألمانية الجديدةquot;، وهي تلك الحركة السينمائية التي نشأت في منتصف الستينات من القرن الماضي كردة فعل على السينما الألمانية التقليدية (في غرب ألمانيا) ذات التوجه التجاري والشعبوي الواضح. وكان من أهم رواد هذه الحركة في حينها راينر فيرنر فاسبندر (1945-1982) واليكساندر كلوغه (1932) و

فولكر شلوندورف (1939)..الخ. ولا شك بأن إطلاق هذا المصطلح على الأعمال التي تعد ضمن هذه المدرسة لم يأت تعبيرًا عن نهج معين في العمل السينمائي، وإنما جاء تعبيرًا فضفاضًا يشمل أغلب الأفلام الألمانية التي أنتجت خلال فترة زمنية محددة خارج الأطر الرسمية (المينستريم) وبميزانية منخفضة، غالبًا ما يقوم بتوفيرها مخرج الفيلم نفسه الذي يمارس دور المنتج وكاتب السيناريو والمونتير في الوقت ذاته. منذ بداياته، كان ينظر الى هيرزوغ كظاهرة إستثنائية لإنصرافه على العكس من أبناء جيله الى مواضيع تخرج عن إطار المألوف، حيث قام بتأسيس رؤيته الخاصة لـ quot;الفيلم الوثائقيquot;، تبتعد عن quot;الموضوعيةquot; المفترضة للكاميرا في العمل التوثيقي، وتؤكد على الموقف الذاتي للمخرج من الأحداث. لهذا جاء إختياره لثيمات أعماله مرتبطًا بغرابتها، وبعدها عن الأجواء اليومية (بشر يرقدون تحت البركان الذي من المتوقع أن ينفجر بين لحظة وأخرى وهم في إنتظار الموت، أو أناس يكسبون رزقهم من خلال العمل في القطب الشمالي، وكذلك الأفلام الذي أنجزها مع صديقه المغامر الألماني راينهولد ميسنر حول تسلق الهمالايا..الخ) أما من ناحية الأفلام الروائية، فقد كشف المخرج منذ أول أعماله عن رغبة طفولية جارفة في إستشفاف المجهول، فكان فيلمه quot;الأقزام كانوا أيضا صغاراquot; (1970)، وهو أول فيلم له يجذب أنتباه النقاد، لكونه فيلمًا تجريبيًّا يعالج موضوعًا على حد كبير من الغرابة، يحتوي على العديد من اللمسات السريالية. فهو يدور حول سكان دار إصلاحية للمنحرفين، يقوم المشرفون عليها بتنظيم رحلة لعدد منهم الى منطقة أخرى، تاركين بعضهم في الدار بسبب سلوكه المخالف للأصول، وما يكاد هذا البعض يكتشف عدم وجود المشرفين على الدار حتى يبدأ بالتمرد على النظام وبممارسة العنف المتبادل والتخريب. ولغرض إضفاء طابع سريالي على أحداث الفيلم قام هيرزوغ بتوظيف ممثلين quot;أقزامquot; يؤدون أدوار بشر عاديين، مؤكدا بذلك على ضياع الأفراد في عالم محاط بأشياء ضخمة لا تتناسب مع ضآلة أجسامهم. ويمكن إعتبار هذا الفيلم الخطوة الجذرية الأولى في مسيرة هيرزوج السينمائية، حيث إنتقل بعده الى مرحلة أكثر ميتافيزيقية وغرابة من خلال فيلم quot;أغيره أو غضب الربquot;، الذي تدور أحداثه في مناطق الأمازون في القرن السادس عشر الميلادي، حيث تقوم مجموعة من المغامرين الأسبان برحلة الى هذه المنطقة بحثًا عن بلاد الذهب quot;الدوراودوquot;، وقد كان هذا الفيلم الذي تم تحقيقه تحت ظروف مادية ومعنوية قاسية في مناطق الأمازون حافلا بمواقع الضعف، غير انه مازال يعتبر من أهم أفلام تلك المرحلة، ذلك لأن تصويره تم في ظل ظروف طبيعية خارج الأستوديو، بكل ما تحتويه من مخاطر على حياة الطاقم السينمائي، وتمكن هيرزوغ من إستخدام تجربته الوثائقية في تجسيد صراع الإنسان مع الطبيعة، ومن الجدير بالذكر أنه أستطاع أن يستخدم في المشهد الأخير من الفيلم 350 قردًا، كان قد أستولى عليها في أحدى المطارات بحجة كونه طبيبًا بيطريًّا. إضافة إلى ذلك فقد شكل هذا العمل بداية الصداقة (العدائية) بين هيرزوغ وبين كلاوس كينسكي الذي مثل معه اربعة افلام اخرى سنأتي على ذكرها لاحقا. يذكر أن كنسكي أصر على أن يستلم ثلث ميزانية الفيلم مكافأة على دوره.
لقد ساهم هذا الفيلم في ترسيخ موقع هيرزوغ كمخرج طليعي، قد يتجاوز تأثيره، اسوة بفاسبندر، حدود ألمانيا الضيقة بإتجاه العالمية. وقد تحقق له ذلك بالفعل من خلال quot;كل يعمل لنفسه والله ضد الجميعquot;. والفيلم يدور حول شخصية quot;كاسبر هاوسرquot;، وهو شخصية غريبة من القرن الثامن عشر، يروى انه تم العثور عليه في قرية ما، بعد أن كان قد قضى 18 عامًا من عمره في قبو مظلم، لا علاقة له بالعالم الخارجي سوى عن طريق شخص كان يجلب له الطعام حتى بلوغه تلك السن. بعد خروجه من القبو يجد كاسبر هاوزر نفسه في مواجهة مصيره، مرميًّا في عالم لا يستطيع إستيعابه. وعلى العكس من المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو الذي سبق له أن عالج موضوعًا شبيهًا بذلك في فيلمه quot;ابن الذئبquot; -1971- جاء فيلم هيرزوغ مشحونًا بالتشاؤم، حيث أن طريق quot;كاسبر هاوزرquot; الى الحضارة يبدو لديه محفوفًا بالعنف والتدمير من خلال quot;التربيةquot; الإنسانية التي تسعى لتخليصه من كل ما هو فطري وطبيعي. وقد نجح هيرزوغ في إختيار شخص لا علاقة له بالتمثيل لإداء هذا الدور، الا وهو الموسيقي الصعلوك quot;المتخلف عقلياquot; برونو أس الذي وضع كذلك الموسيقى التصويرية. وكان إختيار المخرج لبرونو الذي تجاوز الأربعين، لتمثيل دور شاب في الثامنة عشرة من عمره بحد ذاته خروجا عن المألوف وتحريفا للخلفية التاريخية للحكاية.
يقول هيرزوغ عن برونو أس quot;انه الجندي المجهول للسينما الألمانية.quot; ولا شك بأن برونو أس أغنى الدور من خلال إدائه العفوي غير المصطنع، مما حفز هيرزوغ على وضع سيناريو خاص لفيلم يعالج من بعيد حياته تحت عنوان quot;شتروشيكquot;، وهو فيلم يدور عن موسيقي صعلوك يهرب الى أمريكا، بعد أن يصيبه اليأس من حياته في ألمانيا. لقد كان هيرزوغ يطمح لأن يؤهل برونو أس لأداء العديد من الأدوار الرئيسية في أفلامه، غير أن الحياة غير المستقرة للأخير جعلته يبتعد عن هيرزوغ وعن العمل السينمائي ولم يعد اليه إلا في العام 2009.
بعد هذه التجربة السينمائية المهمة التي جذبت أنظار منتجي هوليوود الى هيرزوغ الذي لم يكف عن البحث عن المواضيع البعيدة تماما عن النزعة التجارية المنتشرة في السينما، وجد غايته أخيرا في مادة quot;نوسفيراتوquot; التي لعبت دورا مهما في التراث السينمائي الألماني، إذ شكلت الهيكل الأساسي لواحد من أهم أعمال المرحلة التعبيرية في السينما الألمانية ألا وهو فيلم quot;نوسفيراتو، سينفونية الرعبquot; الذي أخرجه فريدرش فيلهلم مورناو (1888-1931)، الفيلم الذي أستغلت مادته في أفلام quot;دراكولاquot; مصاص الدماء الى جانب رواية برام ستوكر. لغرض تجسيد هذه المادة على مستوى فني رفيع قام المخرج بتوظيف مجموعة من كبار الممثلين عالميا لإداء الأدوار الرئيسية ومنهم ايزابيل إيجاني وبرونو غانس والرسام السريالي رولاند تابور، كما فتح بابًا جديدًا للتعامل مع quot;صديقه اللدودquot; كلاوس كينسكي الذي أدى هنا دور نوسفيراتو، مانحًا هذه الشخصية نفحة من التحدي والكآبة والوحدة، حتى ليشعر المرء أحيانًا بالتعاطف مع هذه الشخصية بكل ما تجسده من شر. ويعتبر النقاد هذا الفيلم نسخة معاصرة من فيلم مورناو، وينطبق هذا بنفس الدرجة على توظيف الأدوات السينمائية الفنية (حركة الكاميرا، الضوء والظل، المونتاج، التقريب والتبعيد..الخ)، وعلى السيناريو المكثف بإيحاءاته التعبيرية. وعلى الرغم من أن بعض النقاد يأخذون على هيرزوغ انه لم يضف شيئًا الى فيلم مورناو سوى الألوان، غير أن الفيلم أستطاع أن يشكل خطوة متقدمة في تاريخ السينما المعاصرة من خلال لغة سينمائية تعتمد على التركيز على التفاصيل، بشكل خاص في المشاهد التي تعالج إنتشار الطاعون في مدينة فيسمار، حيث تتنقل الكاميرا في شوارع مهجورة مليئة بالجنائز، أستولت عليها جيوش من الجرذان، وتزداد قوة هذه المشاهد من خلال إستخدام اللقطات المقربة لهذه المخلوقات التي تجلب الموت. في هذه الأثناء كان هيرزوغ يستعد لإخراج quot;فويتزكquot; المأخوذ عن مسرحية تحمل نفس الإسم لجورج بوشنر وتدور أحداثها في أوساط العاهرات والجنود والبروليتاريا الرثة. وقد قام ببطولة الفيلم كلاوس كنسكي الذي أصبح من جديد يشكل مركز إهتمام هيرزوغ، إذ وقع عليه إختياره لبطولة فيلم آخر تجري أحداثه في أمريكا اللاتينية، الا وهو quot;فيتزكارالدوquot; الذي يعتبر كذلك من الأعمال الإستثنائية للمخرج، حيث تم تحقيقه في ظل ظروف قاسية جدا، محاطة بالمخاطر، وقد قام كلاوس كنسكي بدور كبير في تأجيج هذه المخاطر من خلال دخوله في إشكاليات شبه يومية مع الهنود الحمر الذين ساهموا في توفير الظروف العملية لإنجاز الفيلم و في التمثيل: في فيلم quot;عدوي المحبوبquot; نشاهد ممثلي الهنود الحمر يطلبون من هيرزوغ أن يسمح لهم بقتل كلاوس كنسكي أثناء تصوير الفيلم. تدور أحداث الفيلم حول براين سويني فتزغرالد، إحدى شخصيات القرن التاسع عشر الذي كان ndash;وفقا للفيلم- يطمح لبناء دار أوبرا في مناطق الهنود الحمر في الأمازون. غير انه لغرض تمويل مشروعه هذا يضطر للمتاجرة بمادة الكاوتشوك التي ينقلها عبر النهر بباخرته القديمة، معرضا طاقمها للخطر من خلال التنقل عبر الشلالات والمنحدرات التي تشكل جزءا كبيرا من النهر، وذلك إضافة الى قبائل الهنود الحمر التي تتربص على جانبي النهر للهجوم على القوافل التجارية. من هنا يقرر فتزجرالد، الذي يطلق عليه الهنود تسمية فتزكارالدو أن ينقل الباخرة عبر جبل مجاور الى نهر أكثر هدوءا يقع في الجانب الآخر. غير أن هدف الهنود يختلف عن أهداف طاقم السفينة وقائده، فهم ينظرون للسفينة ككيان مقدس يريدون إستخدامه بعد عبور الجبل لتهدئة الأرواح الغاضبة التي تهيمن على الشلالات. ومن المعروف أن هيرزوغ قام بإستخدام سفينة حقيقية يجري نقلها فعلا من جهة الى أخرى عبر جبل مرتفع، وذلك بعد أن رفض إقتراح الشركة المنتجة للفيلم بأن يجري وضع نموذج بلاستيكي لهذا الغرض يسهل نقله عبر الجبل، مبررا إصراره بأن quot;الهدف من ذلك ليس إعطاء الحدث طابعا واقعيا، وأنما التعبير عن حدث أوبرالي عظيم.quot; وبالفعل فأن نقل السفينة عبر الجبل يعتبر من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرا إضافة الى البيئة الطبيعية التي جرى فيها تصوير الفيلم. كذلك في فيلمه اللاحق مع كلاوس كنسكي quot;كوبرا فيردهquot; أستخدم المخرج البيئة الطبيعية كعنصر أساسي للعمل. وكان هذا هو عمله المشترك الأخير مع كلاوس كنسكي، أنصرف بعده الى إخراج عدد من الأفلام الوثائقية من أشهرها quot;الهرب من لاووسquot; ndash;التسمية الإنجليزية quot;ديتر الصغير يجب ان يحلقquot;، الذي حوله الى فيلم روائي قام ببطولته الممثل الأمريكي كريستيان بيل تحت عنوان quot;الفجر المنقذquot; -1997-.، و quot;عدوي الحبيبquot; الذي يعالج كما ذكرت أعلاه العلاقة الصعبة بين هيرزوغ وكنسكي، و quot;غرزلي مانquot; -2005- الذي يدور حول تيموثي تريدويل الذي كان يعيش في الاسكا بين الدببة، اما quot;لقاءات في نهاية العالمquot;-2007- فأنه يعالج وثائقيا حياة مجموعة نذرت حياتها للحياة والعمل في القطب الشمالي. من كل ما تقدم يمكن أن نتعتبر إختيار هيرزوغ لإخراج quot;الملازم السئquot; إختيارا موفقا ومبررا من خلال تجربته السينمائية الطويلة وعدم خضوعه لشروط الـ quot;مين ستريمquot;.