عبدالجبار العتابي من بغداد:لا تجد قناة تلفزيونية عراقية الا وفتحت جزء كبيرا من مدياتها للشعر العامي، ولا يمكنك ان تفرّ من برنامج الا ويصطادك اخر، واذا حاولت ان تفلت من الاثنين ستفاجأ بندوة او سهرة او جلسة مهما كان شكلها ولونها وموضوعها وفي داخلها شعر عامي، تجد اشخاصا يهزجون ويرقصون ويدبكون ويتقافزون بتلك الكلمات الشعبية وبالقوافي المتشابهة، بحيث امتلأت الشاشة بكل ظواهره التي اضيفت اليها ظاهرة (الفيديو كليب)، اي ان الشاعر العامي راح يصور شعره على طريقة الفيديو كليب، وهذا كله فتح المجال واسعا امام الراغبين بالظهور على الشاشات، حتى تحولت الحالة الى هوس عارم تستمع فيه الى اطنان من الكلمات بأيقاعات شتى، فيما لم تجد للشعر الفصيح اية مساحة، بل اي مكان داخل هذه الفضائيات، ولا يمر من ابوابها الا ويطرد بقوة، ونادرا ما تجد قناة تحتفي به، وهو ما يدعو الى التساؤل: لماذا هذا الاهتمام بالشعر العامي مقابل اهمال الشعر الفصيح؟، هل الخلل في الشعر الفصيح ام في شعرائه، ام ان الخلل في الفضائيات واداراتها التي تجد في ذلك ترجمة لثقافتها، من هنا ذهبت لكي استطلع آراء عدد من الشعراء:


الشاعر عامر عاصي: ان القنوات الفضائية في مجملها تعاني من مشكلة الادارات غير المهنية على الاقل في التخصصات الاقتصادية والاجتماعية ومن ضمنها الثقافية (الفنون والاداب)، وتحاول من مخاطبة الجمهور بلغة متدنية ان تصل بشكل سريع الى اوسع شريحة ممكنة من المشاهدين، وهي بذلك تدري او لاتدري بأنها تساهم في اعادة انتاج الامية والتخلف واعادة عجلة الثقافة والوعي الاجتماعي الى مئات السنين السابقة، وهذه ازمة هيكلية تعاني منها الحضارة العراقية منذ عقود، وعلى الجميع ان ينقذ المشاهد العراقي من هذا القتل المبرمج لموروث بابل واور والعباسيين، ان بامكان القنوات الفضائية ان تكون صهوة للمبدعين الذين يصلون الى الجمهور ولكنها تركت السمين من الادب العراقي وتحولت الى الغث.

الشاعر جمال جاسم امين: لا يمكن ان نعزل الاعلام عن الرسالة الجمالية والثقافية التي ينبغي ارسالها الى المتلقي، ليس من الصحيح ان يعمل الاعلام باسلوب (الترضية) الجماهيرية، اننا نخسر بهذا المنحى الدرس الجمالي، ما يحصل لدينا هو مداراة الوعي العام دون تحمل مسؤولية الارتفاع بهذا الوعي، لذا نرى الفضائيات تتسابق من اجل الحصول على (شاعر شعبي) لكي ترمم برنامجا من برامجها، اما شاعر القصيدة الفصيحة فيعتقدون انه سيكون ضيفا ثقيلا، هل الوعي الذي ينبغي ان نعمل على تفعيل وتائره هو هذا الضيف الثقيل؟، بالتأكيد:لا، ولكنني اعتقد ان اغلب فضائياتنا لا تمتلك برامج سترتيجية ولا فلسفة اعلامية، انما هي (تبث) والبث عمل فني محض، بينما الاعلام يحتاج الى فلسفة وتوجهات مدروسة.

الشاعر حميد قاسم: لانهم يستسهلون وسائل الوصول الى الجمهور فتجد تسابقا غريبا وتهافتا من هذا النوع والتي تخاطب الوعي البسيط لدى فئة كبيرة لا تستغرب ان قلت لك انها تشمل ربات البيوت وكثيرا من الشباب من الجنسين ممن حتمت عليهم ظروف البلد ان يكونوا قوة معطلة عن العمل، فضلا عن مستواهم التعليمي المتدني، الغريب ان هذه البرامج تقدم وعيا مسطحا من خلال مقديمن (من الشعراء الشعبيين) يتحدثون بمستوى بسيط وساذج يعتمد الطريقة الاخوانية والمسطحة في مخاطبة جمهور المتصلين.

الشاعر وجيه عباس: الشعر وهو كبير ضحكت به علينا القومية العربية السياسية وأم كلثوم، والشعر الشعبي يمثل ذئقة الشارع العراقي، والقنوات الفضائية عبارة عن دكاكين للخنادق ودكاكين للفنادق، وكلها تريد ان تعرض بضاعتها من (الجي) و (الجا) (الجيم الاعجمية) معتمدة على ضخامة بناء الاغنية العراقية ووسامة الشعراء الشعبيين الذين اطالوا ذيول شَعرهم وشعرهم (بفتح الشين وكسرها)، ولم تبق لنا (شهد) من الحلاوة شيئا نقوله بعدها (شهد مذيعة في قناة الفيحاء تقدم برنامج عن الشعر العامي)، واضاف: في الوضع العراقي الان.. اعظم قصيدة في الشعر العربي لا تعلو على صوت اطلاقة نارية من أتفه قاتل في العراق، وسوف انهي كلماتي بالقول: لا وقت للشعر لدى السياسيون وتجار صناديق الانتخابات !!

الشاعر محمد جبار حسن: الشعر الشعبي اقرب الى مدارك وفهم جميع الناس بغض النظر عن مستوياتهم، ولهذا السبب تحاول القنوات الاستفادة من هذا الجانب لتسليط الضوء على هذا اللون من الادب بغية الوصول الى ابعد المستويات وكسب جمهور واسع لمتابعة تلك القنوات، اما فيما يخص التسمية له كشعر شعبي فهي من وجهة نظري ليس لانه مكتوب باللهجة الشعبية بل لسعة انتشاره، ودليلي على ما اقول هو ان الشاعر التشيلي بابلو نيردوا حين سئل ذات مرة عن ارفع الاوسمة التي حصل عليها فأجاب: ان ارفع وسام حصل عليه حين اصبح شاعرا شعبيا، ولم يكن المقصود انه كان يكتب باللهجة العامية، بل لانه استطاع ان يسحر ألباب عامة ابناء الشعب.

واضاف: انا اعتبر ان القصور هو مزدوج ما بين القنوات الفضائية نفسها التي لا تحاول ان تمد جسورا الى شعراء الفصحى، وكذلك القصور بالشعراء انفسهم، وعليه.. على الطرفين ان ينزلا من برجهما العالي من اجل ايصال ما يكتبون الى عامة الناس، اذ ما جدوى قصيدة تظل حبيسة الورق مثل عصفور مقصوص الجناح لا يستطيع ان يغادر عشه ولو الى اقرب غصن، هناك العديد من القصائد والكثير من الشعراء الذين يكتبون بالفصحى وانا اجزم انهم قادرون على ان يقدموا عطاءات مؤطرة بالجمال والوضوح لا تقل عما يقدم من ادب شعبي عبر القنوات التي اشرنا اليها.

وفي الاخير.. كان لا بد لي ان اقف عند الشاعر جبار فرحان رئيس الاتحاد العام للادباء الشعبيين كي اجد لديه هو الاخر اجابة عن التساؤل الذي طرحته فأجاب قائلا: اولا.. ان الشعر الشعبي يمتلك لغة وسطى يمكن ان تصل الى كل ابناء الشعب بمختلف ثقافاتهم وتنوعهم مع القدرة على تجسيد الحدث السياسي والوطني والاجتماعي بشكل جدي وراقي، وثانيا: تقع المسؤولية على شعراء الفصيح، انهم لم يبادروا الى تنوع وتجديد الخطاب الشعري الفصيح بحيث يكون بمتناول الشعب العراقي حتى على ادنى مستويات او ان طريقة توصيله كانت مختلفة او ضعيفة في بعض الاحيان، لذلك يبقى الشعر الشعبي القاسم المشترك لهذه الهموم والفعاليات العراقية المختلفة.