السبعينيون قالوا عنه quot;آخر الشعراء الجاهليينquot; وحجازي: لم يكن تلميذا لي

محمد الحمامصي من القاهرة: احتفل مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية بعيد ميلاد الشاعر الراحل أمل دنقل الذي كما كشفت زوجته الكاتبة عبلة الرويني أنه لم يعرف الاحتفال به في حياته، وأن المرة الوحيدة هي تلك التي أصر فيها جابر عصفور على اصطحاب أمل من الغرفة رقم quot;8quot; التي كان يعالج بها من مرض السرطان بمعهد الأورام، ويأخذه في جولة بسيارته في شوارع القاهرة، وأن الاحتفال الوحيد الذي كان يعرفه الشاعر الراحل كان لحظة كتابة quot;القصيدةquot;.
وأمل الذي رحل عن دنيانا منذ ما يقرب من ربع قرن، يعد واحدا من أبرز شعراء الستينيات، كان مشروعا شعريا استطاع أن يجعل من قصيدته صوتا خاصا في رؤيتها ومضمونها، فحملتها النخبة والعامة، خاصة تلك القصيدة التي شكلت هموم الواقع المصري وقتئذ في الستينيات والسبعينيات، حتى ليذكر أن قصيدته الكعكة الحجرية هتفت بها جمع المتظاهرين لسنوات.
احتضنت احتفال عيد ميلاد أمل دنقل السبعين أحاديث ذات شجون وهموم حول تجربته وحول التجربة الشعرية المصرية في عقد السبعينيات وفي اللحظة الراهنة، بدأت بالشاعر فؤاد طمان الذي أكد نضالية أمل دنقل مذكرا
بمواقفه المشتعلة بالفروسية والولاء الحميم ، وقالquot; من منا ينسى قصائد quot;زرقاء اليمامةquot;، quot;الكعكة الحجريةquot;، quot; لاتصالحquot;.
ليتحدث بعد ذلك المايسترو شريف محيي الدين، مدير مركز الفنون بالمكتبة مؤكدا على أن أمل كان أستاذا لأجيال من الشعراء الشباب بعده، quot;لكنه كان تلميذا للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، هذا الأستاذ الذي أعلن أن أمل هو تلميذه الوحيد؛ بينما كان أمل في بدايته شديد التأثر به: شعرًا وفكرًا وروحًا للدرجة التي جعلته يهدي ديوانه الأول لأستاذه حجازي معترفًا له بأنه الذي علّمَه لون الحرف، وهذا اعتراف يندر أن يعترف به شاعر لشاعر؛ وهو يجلو لنا جانبًا إنسانيًّا مهمًّا لأمل، وجانبًا جديدًا لمعنى الريادة الشعرية الحقيقية التي كان شاعرنا حجازي أحد أهم أركانها في الشعر العربي الحديث.
وعن علاقته بأمل دنقل قال شريف محيي الدين: منذ كنت في الرابعة عشرة من العمر حتى رحيل أمل، سعدت بصداقته بعد أن قدمني إليه النحات الراحل عوني هيكل صديقه المقرب، وأصبحت ألتقي به على مقاهي وسط البلد، وتأثرت به، واستمعت إليه وهو يلقي شعره، وبعد رحيله ظلت الصداقة الرائعة مع إبداعه الخالدquot;.
وأكد المايسترو أن الفن الحقيقي لا يتجزأ، بل يتكامل ويجدد شبابه الدائم بالفرار من قالبه التقليدي متخذًا لنفسه تجليات وأبعادًا فنية أكثر تنوعًا؛ وذلك بالاتكاء على ما هو جوهري في التجربة الفنية من النفوذ الثاقب إلى عمق التجربة الإنسانية في مستوياتها الشاملة ومنتجها الفكري والثقافي قديمًا وحديثًا، مما يسمح لها باقتحام مناطق ومساحات فنية متنوعة.
وأضاف: كنت شاهدًا على ما حققته تجربة أمل في هذا الصدد عندما قمت بتلحين بعض قصائده التي لم يمنعها عمقها الفكري ولا رصانة لغتها من الانصياع للغة موسيقية ذات طبيعة فنية مغايرة؛ والآن تتوالى على خاطري الذكريات الحميمة لهذه التجربة فيطرب لها قلبي.. فحين قررت خوض هذه التجربة عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين اندهش كثير من أصدقائي الفنانين، وتساءلوا: هل يمكن أن يخضع هذا الجبروت الشعري بعرامة لغته وعنفوان صوره وحواره العميق مع التاريخ؛ هل يمكن أن يخضع للتلحين ويترقرق غناء عذبًا؟!quot;
واستطردquot;كانت المفاجأة أنني وجدت الشعر محتويًا على لحنه ومتدفقًا بموسيقاه؛ خلافا لما توقعه الجميع، وانطلقت في رحلة التلحين حتى اكتملت النصوص الملحنة أحد عشر نصا استمتعت غاية الاستمتاع باكتشاف طاقاتها الموسيقية الثرية الصافية، وذلك بقدر سعادتي بالحفاوة الجماهيرية الكبيرة التي كانت تنالها تلك الأعمال في مصر وفي أوروبا أيضا حيث كانت تُعرض مع ترجمة القصائد إلى اللغات الأوروبية، وكان تفاعل الجمهور الأوروبي معها مدهشا؛ وصارت ذكرياتي الحميمة معها أجمل وأكبر؛ وتحضرني من هذه الذكريات ذكرى مؤثرة أحب أن أشارككم دفئها: كان ذلك بألمانيا في أوبرا ساركرن وتم غناء بعض قصائد أمل مع عرض ترجمتها الألمانية، وكانت منها قصيدة quot;ضد منquot; التي كتبها أمل عن معاناته مع المرض اللعين حين اشتدت وطأته عليه، وإذا بالجمهور الألماني يحتفي بالعمل احتفاء مؤثرا حتى جاءتني بعد الحفل مجموعة من الممرضات الألمانيات، واعترفن لي بأنهن اكتشفن بعد هذا الحفل معاني جديدة لمعاناة الناس من المرض.
وبدأ الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي حديثه نافيا أستاذيته لأمل، وقال: لم أكن تلميذا لأمل ولا لهذا الجيل من الشعراء الذين كانوا يقرأونني كما أقرأهم، كانوا يتعلمون من تجربتي، وأتعلم من تجربتهم، وتجربة أي شاعر ليست تجربة فردية وإنما هي بلورة لكل ما قرأ وتعلم في تراث الفن الذي يشتغل فيه، شك أنني تعلمت من شوقي وحافظ وأبو شبيكة ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي، ومن البكائيات الشعبية التي كانت هي غناء أمي في ظهائر الصيف عندما كانت تفقد عزيزا، تعلمت من لغة القرآن ولغة طه حسين وتوفيق الحكيم.
وأنا بالفعل أجد في صيغ أمل ما يذكرني بالصيغ التي استخدمتها نحوية وإيقاعية، وهذا طبيعي لأننا أبناء نفس اللغة، وكذلك اهتم بالموضوعات التي اهتممت بها، لكنه أبدع فيها إبداعا خاصا مثلا عندما أقرأ قصائده عن القاهرة أحسده وأتمنى لو كنت كتبت هذه القصائد، وأيضا قصائده عن الإسكندرية وخصوصا عن البحر أحسده عليها وأتمنى لو كتبت هذه القصائد، لأنني أحب البحر ولم أكتب عنه كما كتب أمل.
وأكد حجازي: لست متواضعا وأعرف قدري وأستطيع أن أقول إن أمل شخص مؤدب على غير الشائع عنه، كان محبا، والحب يقنعنا أننا أعطينا وأمل كان يحب أن يعطي.
وقال حجازي: عرفت أمل أظن عام 1960 / 1961، كنا نلتقي على مقهى عبد الله بميدان الجيزة في نهاية الشارع المؤدي إلى جامعة القاهرة، وكان من رواد المقهى أو أساسيا في ندوتها التي تنعقد كل مساء أنور المعداوي، عبد القادر القط، زكريا الحجاوي، محمد حسين كامل وصحفي يدعى طلبة رزق، وكان يأتي بين الحين والآخر محمود حسن إسماعيل الذي كان يجلس في ركن بعيدا عن الآخرين، كان شديد الكبرياء، لكن الآخرين أيضا كانوا أشد كبرياء منه، وفي أمسية من الأمسيات ظهر شابان عرفت فيما بعد أنهما أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي، لا أتذكر أكان ذلك عام 1960 أم 1961، لم يكن أمل نظم قصيدته التي قدمته للناسquot;كلمات اسبارتكوس الاخيرةquot; التي قرأها أمل عام 1962 ، إذن كان هذا اللقاء سابقا.
أمل دنقل كان مفتوناً بأصوات اللغة، فلا يمكن أن يفسر شعر أمل بعيداً عن الصوت، لقد انصرف الكثيرون للحديث عن أمل باعتباره شاعر المشروع القومي، أنا لم أفهم ذلك، لأن اهتمامه بالمشروع القومي مجرد مظهر أو صورة من صور اهتمامه العميق بالكلمة، الواقع الذي يستوعب الحاضر كما يستوعب المستقبل.
عندما ظهر أمل الذي كان شديد الاهتمام بالتفاصيل الحياتية في شعره كان هناك تيار في النقد يكره الحديث عن تفاصيل الواقع، باعتبار أن الشعر يتحدث عن الكليات وليس الجزئيات، لكنه استحضر كل التفاصيل، استقى رؤاه ليس مما يدور حوله في الواقع وإنما أيضا من التاريخ، انظروا كيف استطاع أن يعيش مع زرقاء اليمامة والخنساء وعنترة والحجاج وقطر الندى واسبارتكوس وسيزيف والإسكندر وروما وقرطاج، كان يستحضر الحاضر والماضي لأن هذا هو الواقع والواقع هو الحياة.
كان يحول الواقعة للحديث عن التاريخ أو ما أسميه أنا تاريخ الروح المتمثل في الشعر، لا تصدقوا كذابين يقولون أن الشاعر يمكن أن ينسلخ عن تراث لغته، هؤلاء كذابون، من يقول أنه متأثر بالشاعر الألماني هولادر لاك كذاب.
وتابع الناقد د.أحمد درويش الحديث عن أمل دنقل وتجربته الشعرية، مؤكدا أنه إلى جانب الخيط السردي يوجد الحوار الدرامي، كما تنخلع على قصائد أمل آثار التصوير السينمائي لشاعر اتسعت معه حتى أمكن أن تتحول إلى عمل سينمائي، وهو حال قصيدتهquot; نافورة حمراءquot;، إن التطور الذي حدث في تقنيات الصورة الشعرية عند أمل هو لاشك جزء من تطور عام، لكنها تجسدت بشكل فني نافذ وواسع في قصائده، وواقع تشكل في سمة فنية، أصبح من الضروري معه أن يعاد النظر في جوهر التطور في هذا القرن.
وانتقد د.درويش تراجع الشعر بصفة عامة وتدهور مكانته، quot;فلم تعد القصائد تحتل الصفحات الأولى من الجرائد اليومية ، كما أن الشعراء يعتصمون بعالمهم الخاص راضين أو غير راضين تاركين الساحة للشعراء الخطابيينquot;.
وأكد أن قصائد دنقل أصبحت أناشيد وشعارات رددتها ألسنة المتعاطفين والثوريين أعواماً وأعواماً حتى بعد رحيل صاحبها. وأوضح أن أمل خلد نمط الحداثة الجماهيرية في مقابل الحداثة النخبوية.
وعُرض في الاحتفالية فيلماً تسجيلياً بعنوانquot; حديث الغرفة رقم 8quot; أخرجته عطيات الأبنودي وهو إنتاج عام 1990 ، يسجل لقطات مع والدة الشاعر عقب رحيله، ولقاء مع الشاعر أثناء وجوده في مستشفى معهد السرطان بالقاهرة، وذكرياته عن بداياته ورؤيته للشعر وللعالم من حوله.
وجاءت الجلسة الثانية والتي أدارها د.محمد زكريا عناني، ليدلي عدد من المثقفين بشهادات عن الشاعر الراحل، من بينهم أنس دنقل شقيق الشاعر، وعبلة الرويني زوجة الشاعر، وعبد العزيز موافي، وعلاء خالد ومحمد خليل رفيق وحميده عبد الله.
وأثارت الجلسة موقف جيل السبعينيات من أمل دنقل، حيث كانوا قد أطلقوا عليه وصفquot;آخر الشعراء الجاهليينquot;، وعلى الرغم من ألمح إلى ذلك عبد العزيز موافي والموقف الذي ووجه فيه أمل بهذا الوصف مؤكدا أنه موقف فردي، كشفت عبلة الرويني عن اسم الشاعر الذي وصف أمل بذلك وهو أحمد طه، وأكدت أن الموقف كان جماعيا من جيل السبعينيات.
عقب ذلك، عقدت جلسة بعنوان: quot;شهادة الشعراء الشبابquot;، والتي شارك فيها حمدي زيدان، صالح أحمد، عبد الرحيم يوسف، منتصر عبد الموجود، وائل السمري، وأدارها الشاعر عمر حاذق.
وقد اختتمت الاحتفالية بقصائد مغناة من شعر أمل دنقل قدمها أوركسترا مكتبة الإسكندرية، وهي تأليف وقيادة شريف محيي الدين، نيفين علوبة (سوبرانو)، محمد أبو الخير (تينور)، أشرف سويلم (باريتون)، مع قراءات من شعر أمل دنقل قدمها الشعراء: فوزي عيسى، بشير عياد، أحمد فضل شبلول ، حسن معروف، عمر حاذق، محمد منصور، إيمان السباعي، سامي إسماعيل.